ويكيليكس والمخفي أشد هولا ..هكذا يحكم العالم - بقلم: سعيد مضية

2010-12-06

سعيــد مضيــة

ويكيليكس والمخفي أشد هولا ..هكذا يحكم العالم

الفضائح تطارد السياسات الأميركية قبل ظهور ويكيليكس؛ وقبل أن يعرف العالم جوليان أسانج عملت كوكبة من الصحافيين الشرفاء ممن أخذوا على عاتقهم المهمة النبيلة لمقاومة الرأسمالية المتوحشة . فتسريبات ويكيليكس ليست اختراقا جديدا للسياسات الأميركية :  أولا يمكن القول أن مواد ويكيليكس تحكي عن أساليب تقليدية في الديبلوماسية البرجوازية ، حيث التكاذب والتلون والنفاق ونكث العهود وغطرسة القوة. ربما كشفت الوثائق عن عمق علاقات دول الخليج مع إسرائيل، وأن الاحتفاظ بكراسي الحكم أهم لدى العديد من الحكام العرب من إنقاذ فلسطين؛ لكن إغفال العلاقة الأميركية مع إسرائيل، خاصة فيما يتعلق بالمحكمة الدولية، يمكن تفسيره بالمكانة الخاصة التي تحظى بها إسرائيل لدى حكام الغرب. هذا علاوة على أنه جرى تمرير الوثائق المسربة من خلال فلتر من نوع ما قبل وصولها القراء. وبحسب صحيفة "لوموند" الفرنسية، لا ينشر «ويكيليكس» أي وثيقة عن الديبلوماسية الأميركية من دون موافقة الصحف الشريكة الخمس، نيويورك تايمز، در شبيغل، غارديان، إل باييس و لوموند. وجنّدت هذه الصحف قرابة 120 صحافياً لتحليل هذه الوثائق. واتفقت الصحف على طريقة النشر إلكترونياً لتلك الوثائق، تشمل إخفاء بعض الأسماء والمعطيات المتصلة بأمن الأشخاص. وهناك تأكيدات على مصداقية الموقع وأوضح روزنباخ من در شبيغل أن الصحف تشاورت بكثافة مع الحكومات المعنية بما تتضمنه وثائق ويكيليكس.

وثانيا ، جرى العرف أن أرشفة الأسرار الأميركية تتم على درجات متفاوتة من العمق؛ إذ توصل أسانج إلى " أسرار" طافية على السطح مفتوحة لملايين الموظفين الأميركيين؛ بينما المواد المختومة بخاتم " سري للغاية " او "مقيد" لم تظهر للعلن. وهذا يذكّر بما ورد في كتاب الصحفي الأميركي المشهور بوب وودوورد " المسار، أو حروب السي آي أيه " المنشور في عقد الثمانينات. الكتاب يسرد أنشطة الوكالة الأميركية في أنحاء العالم، وفي العالم العربي على وجه الخصوص، إثر سقوط نظام الشاه. عملت الوكالة من خلال "البعثات الأمنية " على التغلغل في الأجهزة العليا للأنظمة العربية.  يقول الكاتب أن أسماء عملاء الوكالة من رؤساء الدول تحفظ في قائمة خاصة داخل أرشيف خاص. وأورد في السياق نقل اسم بشير الجميل من القائمة العادية بعد انتخابه رئيسا لجمهورية لبنان إلى قائمة أكثر تقييدا في الأراشيف. وفي كتاب آخر حمل مذكرات أحد عملاء السي آي أيه أورد ما مفاده أنه اكتشف سرا حيره زمنا طويلا تعلق بوجود تجسس للولايات المتحدة على إسرائيل. فقد عثر على  وثائق التجسس في مكان أكثر عمقا من بقية أراشيف التجسس الأخرى. ولا شك أن التقليد تواصل؛ وهذا يفسر لغز " نظافة" سجل إسرائيل من تسريبات ويكيليكس؛ فليس الأمر كما أدعى نتنياهو  مع بعض المضللين أن السياسات الإسرائيلية لا تعرف التلون والازدواجية. وما قاله رئيس الوزراء بنيامين نتانياهو واصفاً المجتمع الإسرائيلي بأنه مفتوح هو الكذب الصراح . إسرائيل، ونتانياهو بالذات، تختبئ وراء اعتبارات "الأمن القومي" لإخفاء المعلومات وتحريف الوقائع وترهب الإعلام بتهمة اللاسامية . وهي بذلك تتعمّد منع مجتمعها والعالم من الاطلاع على ما تقوم به من خروقات وانتهاكات للقانون الدولي ولحقوق الإنسان بذريعة "الأمن القومي الإسرائيلي".
  
وثالثا ان ميكافيلية السياسات الأميركية وعدوانيتها المزمنة قد نزلت مرارات في حلوق الملايين وتجلت جرائم إبادة بحق عشرات الملايين ومؤامرات على العقل الجمعي لشعوب العالم والمجتمع الأميركي بالذات، استهلت بإبادة السكان الأصليين للبلاد التي سميت فيما بعد أميركا، وأسدل ستار كثيف حولها، وبقيت تلهم طباع المغامرين وتتناسل  بجرائم الحروب . فالتخريب الثقافي يتجاوز حجب المعلومات إلى مساعي تدمير العقل البشري.

هلوسات المخدر
الصحفي دانيال ستولين واحد ممن تقصوا السياسات الأميركية في العمق ونشر أسرارها في كتابه "أسرار نادي بيلدربيرغر" المنشور في 475 صفحة. قدم الكتاب فيدل كاسترو في عرض خاص، في إحدى حلقات تأملاته ، فليس لكاتب هذا المقال من دور سوى نقل فقرات من الكتاب تلقي الضوء على أحد مظاهر التوحش الرأسمالي : استخدام المخدر في تطويع وعي الملايين. والمخدر هو المادة الكيماوية وكذلك الموسيقى المنومة المبلدة للإحساس.

يستهل ستولين ، وهو حفيد مواطن سوفييتي دمر النازيون أسرته أثناء الحرب العالمية.. يستهل كتابه بحكاية التسخير الشيطاني للمخدر والموسيقى في الاستيلاء على العقول.

  أكتفي بهذا الجانب من الكتاب للتدليل على أن الأخلاق الخبيثة تقود إلى التجهيل، وهو غاية سياسات الرأسمال، مثلما يقود الغراب إلى الخراب. فقد وقع الاختيار على فريق بيتلز قدم عرضا للروك شاهده خمسة وسبعون مليون أميركي في عرضه الأول . "  كان أعضاء فرقة البيتلز يهزون رؤوسهم ويحركون هياكلهم العظمية في طقس سرعان ما قلدتهم فيه فرق روك لاحقة تعد بالمئات . أما الرجل المكلف بنشر الرقصة فهو الصحفي وولتر ليبمان ، الذي هيمن على النشاط الصحفي الأميركي طيلة نصف قرن وأرسى نموذج الصحافة المساهمة في الحرب الباردة الثقافية. ورد ذكره في كتاب الباحثة البريطانية فرانسيس ستونر سوندرز " الحرب الباردة الثقافية "، الذي ترجمه إلى العربية المجلس الأعلى للثقافة في مصر عام2003 . في هذا الكتاب  تنقل الباحثة من الأراشيف حكايات ثقافة تزوير الوعي وقلب الوقائع التي أنتجها المثقفون، خدم الرأسمال. إنها ثقافة " تضليل الوعي وإشاعة الحيرة"، حيث تركيز الهجوم على المراكز الأمامية للوعي يقذفها بقنابل الدعاية المحشوة بالأكاذيب " لإضعاف المواقف المعادية". وتنقل الباحثة ما ذكره البروفيسور تشومسكي عن ليبمان كيف وجد الحل في تحكم أقلية ذكية من " الرجال المسئولين " في "صنع القرار". فهذه الأقلية " طبقة متخصصة مسئولة عن وضع السياسات وتشكيل ’رأي عام سديد‘، متحررة من تدخل العامة ، ’ حيث الجهلة والغرباء الفضوليون‘"، كناية عن جماهير الناس في جميع أقطار العالم. هنا نجد التبرير لحجب الوقائع عن الجمهور .

شهد ستولين اجتماعات الحلقة الضيقة للنادي الذي يقرر السياسات العالمية بعد هدر العقل الجماعي : " بدأ أولاً كل من إدوارد بيرنيس ووالتر ليبمان. ثم غالوب جانكيلوفيتش. وفي وقت لاحق ريس وأدورنو وألدوس هوكسلي وهـ. ج. ويلز وإيميري وتريست، لتتبعهم ثقافة المخدّرات ، ’طريقة ذكيّة لتحقير الأشخاص حتى تحويلهم إلى مجرد حيوانات حظيرة، تُمنع عنهم أصالة الوعي البشري‘... وبذا ف’العصر الجديد‘ سيكون عصراً مظلماً، يعني الموت المبكّر  لما يزيد عن نصف سكان العالم والنسيان المبيّت لأكبر إنجازات البشرية. هذه هي الإيديولوجيا الشمولية التي يدعو إليها النظام العالمي الجديد، العازم على حكم العالم ولو كان ذلك فوق جثثنا".

حقا انها لصرخة تستحث النهوض للدفاع عن جماليات العقل البشري ومنجزاته. كيف بمقدور خصوم نظرية المؤامرة تبرير ادعاءاتهم؟ فالنهج السياسي للبرجوازية مفرداته التآمر والخداع.

ويقول الباحث: "تاريخ تورط الولايات المتحدة في تهريب المخدّرات ،مخالف  لما روته لنا كتب التاريخ على مدى سنوات. إن تهريب المخدرات المشئوم ليس ميداناً مقتصراً على شريحة المجرمين، إلا إذا فهمنا من شريحة المجرمين بعضاً من أهم العائلات في تاريخ الولايات المتحدة، المعروفة باسم "المجمع الليبرالي الشرقي"، الذي يقود أعضاؤه هذا البلد من الأوليغارشية من خلال نظام حكم موازٍ معروف باسم نادي بيلدربيرغ....".

ولتأكيد هذه الحقيقة نذكر أن ديكتاتور بنما ، نورييغا، جرى التسامح معه وهو يهرب المخدرات داخل الولايات المتحدة عندما كان مطيعا للامبريالية ؛ أما وقد تمرد فقد التقطوه  بالقوة العسكرية من قصر الرئاسة ونقلوه ليحاكم أمام المحكمة الفيدرالية الأميركية.

ويمضي الكاتب إلأى القول:"في عام 1954 نشر هوكسلي بحثاً ذا تأثير واسع عن نشر الوعي من خلال استخدام المسكالين تحت عنوان "أبواب الإدراك"، وهو أول بيان عن ثقافة المخدّرات المثيرة للنشوة نفسياً. في عام 1958 جمعَ عدداً من الأبحاث التي كان قد كتبها لصحيفة "Newsday" ونشرها تحت عنوان "زيارة جديدة لعالم سعيد"، يصف فيها مجتمعاً يكون فيه ’الهدف الأساسي‘ للحكام أن يمنعوا محكوميهم بأي ثمن من خلق مشكلات....  في هذه الأثناء تقوم الأوليغارشية بالقيادة وتقوم نخبتها المدرَّبة جيداً من الجنود والشرطة وصنّاع الفكر والمتحكّمين بالعقول بقيادة العالم بنفس هادئة كما يحلو لهم. وفي الواقع أن توصيف هوكسلي هذا يتفق تماماً مع الوضع الراهن".

طبيعي أن تفتح أمام هوكسلي أبواب الشهرة من جامعات ودور النشر؛ اتصل في جامعة هارفارد مع شخص كان يعمل "لصالح وكالة المخابرات الأميركية ( السي آي إيه) في إنتاج عقار الـ ’LSD‘ والسيلوسيبين (وهو مخدّر  اصطناعي آخر  يسبّب الهذيان) لصالح ’MK-Ultra‘، وهي التجربة الرسمية لوكالة السي آي إيه في الحرب الكيماوية". واشترى ألن دالس مدير الوكالة حينذاك ،أكثر من مائة مليون جرعة من الـ "LSD" "انتهى جزء كبير منها إلى شوارع الولايات المتحدة في نهايات عقد الستينات.

يلقي ستولين الضوء على أسرار سياسات الحكم وارتباطها بالرأسمال: وتحت عنوان "راعي بقر في البيت الأبيض"، يقول دانيال ستولين: "شكّل بوش جهازه الحكومي من شخصيات من عالم صناعة الطاقة ذوي علاقات وثيقة بوسط آسيا (ديك تشيني، من "هالبورتون"؛ ريتشارد أرميتاج، من "يونوكال"؛ كوندوليزا رايس، من "شيفرون") ووصل إلى السلطة بفضل سخاء مجموعات الشركات ذات الحقوق المكتسبة في المنطقة، مثل "إنرون". مشاركة عائلة بوش في السياسة النفطية في الشرق الأوسط ووسط آسيا وعلاقاتها الوثيقة بالعائلة السعودية الحاكمة وعائلة بن لادن قائمة منذ عدة أجيال".

ونتيجة لتشابك المصالح غدت أفغانستان مركز تكالب مصالح و"نقطة تترابط فيها مصالح إدارة بوش و"يونوكال" ووكالة "السي آي إيه" وحركة "طالبان" والعربية السعودية وباكستان وإيران وروسيا والهند".

مجموعة من كبار خدم الاحتكارات عابرة الجنسية اكتسبت لنفسها دور حكومة الظلّ الوحيدة على نطاق كوني، وتبحث مجمل مسائل الاقتصاد  والسياسة والأمن والاجتماع الإنساني والثقافة؛ تقرر مصائر الشعوب وتقتحم حدودها، سلما أو حرب، بدون استئذان.  وقيل أن اللجنة هي التي فضلت باراك  أوباما على جون ماكين، وأطلقت الضوء الأخضر بذلك لحملة التبرعات الجزيلة الداعمة لحملته الانتخابية. وعرف عن باراك اوباما انصياعه لتوجيهات التجمع الصناعي العسكري الأمريكي أثناء عضويته في مجلس الشيوخ  . إن هذا يلقي الضوء على دور النادي في تنسيق سياسات "الشلل المتغوّلة ومجموعات الضغط الشريرة في نادي بيلدربيرغر، ودوائر النفوذ السرّيّة والتحكم عن وعي وذكاء بالعادات المنظَّمة هي آخر  التعبيرات عن حملة تحكّم وتلاعب أعمق من أجل إقامة حكومة عالمية لا حدود لها، لا تكون مسئولة أمام أحد إلا أمام نفسها".

كيف بدأت الحكاية ؟ لنتعرف على إيديولوجيا العالم الجديد.
من النازية هبطت بذرة نادي بلديربيرغر، ومن النازية استمد تسخير العلم لتشويه إنسانية البشر. فقد استفاد النازيون من معطيات علم النفس الاجتماعي ، حيث من "مصطلحات غسل الدماغ عند فرويد، تستحث مشاهد شريط الفيديو الموسيقي لحالة شبيهة بالنوم ، يساعد، أو يستحثّ على الدخول في هذه الحالة الظهور المتكرر لألوان أو مشاهد برّاقة تشدّ النظر، بينما للنغم النابض والمرتج للروك أثر مشابه في الأذن".

يواصل الكاتب القول: من أوجد هتلر، الوحش، هم أنفسهم أولئك الذين يشاركون اليوم سراً في اجتماعات نادي بيلدر بيرغر  ومجلس العلاقات الخارجية الأمريكي واللجنة الثلاثية( لجنة شكلها بريجينسكي في عقد السبعينات من ممثلين من مناطق العالم الثلاث ـ الولايات المتحدة وأوروبا الغربية واليابان)".

ثقافة السيطرة السيكولوجية
محطة  "MTV"، قناة تجارية لموسيقى الروك الشعبية وأشرطة الفيديو الموسيقية، اخترعها وأدارها روبيرت بيتمان للجمهور الفتيّ والشاب، تأسّست في الأول من آب/أغسطس 1981. باتت اليوم تشكل جزءاً من إمبراطورية "فياكوم" (المعروفة باسم "سي بي أس كوربوريشين"، ورئيسها ومديرها العام، سومنير ريدستون، هو عضو كامل في مجلس العلاقات الخارجية الأمريكي، ومجموعته الإعلامية هي جزء لا يتجزأ من نادي بيلدربيرغر...
يفسر والتر ليبمان اختياره لهذه الموسيقى علاجا ناجعا ل  " جمهور الأميّين والضعيفين ذهنياً والمصابين بالعُصاب بشكل عميق وسيئي التغذية والأفراد المحبطين يبلغ حجمه من الكبَر ، ما يوفّر  دوافع تجعلنا نصدّق أن. ... المشاهد الذي يتعرّض لغسل الدّماغ ليس لديه إلا الوهم بأنه يحافظ على قدرة الاختيار، كما يظن المدمن على المخدّرات بأنه يسيطر على إدمانه بدلاً من الاعتقاد بأن هذا الإدمان هو الذي يسيطر عليه".

أما أعضاء النادي كما استقر عليه الأمر فتضم القائمة أسماء هنري كيسنجر، وزبيغنيو بريجنسكي  ومدراء عدد من الاحتكارات وخدمهم من المفكرين وكبار العسكريين وضبط الاستخبارات وغيرهم من السياسيين المماثلين وملوك الأموال. ومنهم أيضا خافير سولانا مفوض الشئون الخارجية للاتحاد الأوروبي الذي باع الفلسطينيين الكثير من الكلام بلا رصيد او الجوز الفارغ. ويستخدم النادي خبرات علماء وأخصائيي التحكّم وغسل الأدمغة بواسطة فريقها المكوّن من علماء وأخصّائيّي علوم النفس و الاجتماع و العلم الحديث (NEW Age ، الصوفية، إلى آخره)، والانثروبولوجيا العازمين على بعث إمبراطورية رومانية جديدة.

ولست أدري إن كان الباحث والمفكر صبحي حديدي قد أخذ عن نفس الكتاب أم استقى معلوماته من مصدر آخر في مقال نشره عن النادي قل زمن، وكتب يقول "وفي الوقت الراهن تجدد الحديث عن حكومة الكون الفعلية في‘مجموعة بيلدربرغر‘، وهي مؤسسة ظلّ بامتياز، سرّية مكتومة كتيمة، مستوى عضويتها أخذ، تدريجياً، يقتصر على نخبة النخبة، من متقاعدي رئاسات وحكومات ووزارات أساسية، ورؤساء شركات متعددة الجنسيات بين الأضخم في العالم، وخبراء وصحافيين وضباط جيوش واستخبارات، من أمريكا وأوروبا واليابان ."

مجموعة النادي هي التي تقرر سياسات العولمة المعاصرة في منطقة الشرق الوسط ، خاصة مشاريع إسرائيل للاستيطان والتهويد؛ ما من سلطة بمقدورها الانفراد بتقرير الأمور في محيطها.  ولا عجب أن تتراجع الإدارة الأميركية مرة وأخرى عن تعهداتها، ويعدل  باراك أوباما عن نهج إصلاح السياسات التي وضعها الأصوليون المسيحيون في عهد بوش الابن.  لا تلعب في المجال قوة اللوبي الإسرائيلي ولا دور اليهود في السياسات الأميركية. ورد في كتاب  " أسرار نادي بيلديربرغر قول الباحث: "والحال أن الجزء الأكبر من الثروة والنجاح والنفوذ المتواجد في أميركا، حتى وإن كان اليهود قد حققوا بالفعل نجاحات مهمة في جميع مناحي الحياة، تبقى في أيدي الشرائح التقليدية في أميركا، من البروتستانت البيض الأنجلو- ساكسونيين. ومع أن اللوبي الإسرائيلي في أميركا يمارس نفوذاً كبيراً لا يمكن التشكيك فيه، إلا أن هناك مجموعة من الحقائق الأخرى التي يتعين أخذها بعين الاعتبار، مثل ما يشكله الجناح اليميني من المسيحيين الأصوليين من قوة تصل إلى 40 في المائة من القاعدة الانتخابية للحزب «الجمهوري»، بحيث يلعبون دوراً مهمّاً في صياغة سياسة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط. كما تشير استطلاعات الرأي إلى أن أغلب اليهود الأميركيين والمسيحيين، لا يؤيدون المواقف المتطرفة لإسرائيل، إذ تبقى فكرة القوة الهائلة لجماعات الضغط اليهودية مثل «آيباك» مجرد أسطورة أخرى لا أساس لها من الصحة". وفي إسرائيل نموذج مصغر لهذه اللجنة يتمثل في الاجتماعات السنوية لمؤتمر هرتسيليا السنوي.  

غير أن حكومة الظل العالمية أعجز من أن تمسك بقبضتها شئون العالم كافة. ليست مطلقة النفوذ؛ إذ تتصاعد في العالم كله حركات التضامن مع الشعب الفلسطيني ضد غطرسة القوة الإسرائيلية. وبفضل هذه الحركات تجاوزت القضية الفلسطينية الحدود المناطقية البائسة للواقع العربي الخاضع لسياسات العولمة. لم تعد محصورة في إطار ما يسمى ‘عملية السلام‘.

في محاضرة ألقاها مقرر الأمم المتحدة الخاص بحقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية، البروفيسور ريتشارد فولك، أعرب عن سعادته لأن القضية الفلسطينية خرجت عن المدار الرأسمالي المتوحش، وغدت قضية إنسانية وأخلاقية يتبناها الكثير من الشعوب والأفراد في كل أنحاء العالم.

قام فولك بزيارة لبريطانيا استمرت أربعة أيام ألقى خلالها عدداً من المحاضرات واللقاءات حول القضية الفلسطينية، وفي المحاضرة الختامية بالعاصمة لندن نظمها مرصد الشرق الأوسط وحملة التضامن مع فلسطين مساء الأربعاء 1/12/2010 في جامعة لندن وحضرها جمع غفير من المهتمين والمتضامنين، تعرض المحاضر لحملة مكثفة من محاولات التشويش والاعتداء اللفظي الخارج عن حدود آداب الحوار والنقا ش قام بها أفراد مؤيدون لإسرائيل،  أكد فولك عبثية جهود إسرائيل التي تبذلها من أجل استعادة صورتها السابقة، و لن تجدي نفعاً ما لم تتخلى عن السياسات العدوانية التي تنتهجها ضد الفلسطينيين.

ويحق التساؤل بعد هذا كله : ألا يعبر عن تنسيق الجهود المشتركة وقوف ممثلي دول المراكز الرأسمالية المتقدمة ضد تقرير غولدستون في مداولات لجنة الأمم المتحدة لحقوق الإنسان ؟ أليس صمود 25 دولة بوجه ضغوط الولايات المتحدة وثناء ممثلي دول أخرى على تقرير غولدستون دليلا على دفاع دول آسيا وإفريقيا وأميركا اللاتينية عن مصالحها المشتركة بوجه التحالف المضاد ودليلا آخر على أن قضية الشعب الفلسطيني باتت إحدى قضايا مناهضة العولمة ؟

تلك هي الوثائق الكاشفة لحقيقة الصراع الدائر على صعيد العالم وموقع القضية الفلسطينية من هذا الصراع. العالم العربي الموبوء بالتدخلات الأجنبية، نظرا لانعدام الحصانة والمناعة، ونظرا لقصور الفكر الوطني التقدمي داخل الأوطان العربيّة وبلدان العالم الإسلامي. ولسد الثغرة في هذا القطاع من الجبهة لابد من البناء الدستوري السليم الذي يحقّق العدالة والمساواة بين أبناء الوطن الواحد؛ فهو السياج الأنجع لوحدة أي مجتمع.

ماسربته وثائق ويكيليكس  ليس كل ما يخفيه مرجل السياسات الأميركية؛ وأصدق توصيف للوثائق ما ورد في مقال نشرته صحيفة نيويورك تايمز كتبه رئيس مجلس العلاقات الخارجية والمحلل الاستراتيجي المعروف ريتشارد هاس. "انها ـ اي الوثائق – تؤكد أكثر مما تُخبر".

6/12/2010