في يوم الأسير، عن صهر الوعي للشهيد وليد الدقة

2024-04-21

| ريما كتانة نزال

رحيل وليد الدقة صهر عواطفنا كفاجعة شاملة، لم تبدأ كبيرة لتتضاءل كما يحدث عادة مع الموت، بدأت حكايته كبيرة وستبقى مع دوران الحياة الفلسطينية وتعاقبها وراء القضبان، فليس ثمة جنازة تستهلك أصواتنا فبقيت حبيسة تحشرج في الحناجر، ولم يكن من سبيل للوصول إلى بيوت العزاء خلف الحواجز الحديدية والجدران الخراسانية والسواتر الترابية، وجنود مدججين بالكراهية أصابعهم على الزناد باجتماع اللايقين بالتوحش.

في إعادة قراءة صهر الوعي، ربما نحتاج إلى قلمك لإعادة تعريف القمع والاعتقال في زمن الإبادة الجماعية، والاستفاضة في شرح الزمن وعدّ الوقت الثقيل بالثواني الثقيل عبورها والمُكْلف انتهاؤها، عندما يتم قضاؤها في انتظار المجهول وفق رؤية إسرائيلية تذهب نحو صهر وعي المقيدين بالسلاسل والأحرار في إرادتهم.

ربما تريد أن تغني كيف يؤثر عدم قدرة السجان على تسجيل انتصارات بينما يتم تهريب المورثات من بين القضبان، وخاصة أثر ولادة «ميلاد» عبر نطفة مهربة على استبدال خطط كي الوعي بإبادته..وعن التحديات التي تواجه سياسة صهر الوعي على يد طليعة الشعب الفلسطيني!

تعريف التعذيب يعني أن باب الزنزانة مفتوح على خيارات تقع ما بين انتظار الموت وانتظار الفرج، وكل منهما يملك وطأة ثقيلة الدسم، فإذا كان ثمة نهاية للسجن فلا بد أن تكون فوراً أو بعدها بقليل، وكل تأجيل يلحق بالكرامة الإنسانية الإهانة بكل معانيها، حيث الوحوش البشرية تدمر وتقتل وتعتقل وتحاصر وتجوِّع، من أجل أن يتحول الأسير الذي دخل السجن إنسانا ولأسباب إنسانية، إلى إنسان بلا ذاكرة أو هوية أو تاريخ وجغرافيا، حتى إذا ما أفرج عنه لا يعود إلى المقاومة.

في السجن حيث تمارس الوحوش الآدمية طغيانها، وتستكمل مهامها بالخلاص الحرفي ممن خارجه، يصبح كلام العالم عن الإنسانية هراء، بلا معنى. لأن الوحوش الآدمية لا تشعر ولا تتألم أو تجوع، وهي أيضاً لا تُصاب بالكوابيس الليلية ولا ضمير يلسعها، لا تُفكر بما تفعل ولا تَمَلّ من ما تفعل، إنها تسرح وتقتل وتدمر وتمارس ظلمها وطغيانها وفي نهاية اليوم تمرح.

إنه صهر الوعي الذي اكتشفه الأسير الشهيد وليد الدقة عندما أعاد تعريف التعذيب في السجون، عندما شعر بأن هدف الاعتقال يتجسد في العمل على تفريغ الذاكرة وتهشيم الإحساس بالزمان والمكان من أجل تشكيل وعي جديد لمجتمع كامل يعيش ظروف السجن مع عائلاتهم خارجه، لأن ثمة خطأ ارتكبه العالم انتكب على أثره شعب فلسطين وحكم عليه التعايش مع مصير ليس له ومطلوب منه الرضوخ له، واستصعب العالم تصحيحه أو العودة عنه، بل أعطى رخصة لاستمرار النسخة البشرية المشوهة في ممارسة حقدها، وكأنه كُتب على الشعب الفلسطيني التعايش مع المحتوم، رغم البراهين المقدمة على استحالة التعايش مع معادلات الاحتلال وعجز العالم عن رفع يد الجبروت عن فلسطين..

ثنائية الاعتقال والإبادة وتطبيعهما، حيث حول الاحتلال غزة إلى مجتمع بدائي ما قبل الحضارة، يبحث عن ما يسد رمقه ويستر عظامه أو عن مكان يلوذ به، بعد أن حول الاحتلال الشعب إلى دروع بشرية أو طرائد يتم اصطيادهم من بين الدمار والخراب لتتم تعريتهم وسوقهم إلى المعسكرات من أجل طحن أجسادهم وأعمارهم.

معضلة الاحتلال معقدة على بساطتها عندما نضعها في قالب أن شعباً يريد إلغاء شعب آخر والحلول مكانه كاملاً، فالمعضلة في أن الوحش لا يريد الكف عن توحشه، ولا الإنسان يريد أن يتخلى عن إنسانيته ويصبح إنساناً آخر، ليس في السجون الصغيرة أو الكبيرة، ليس في التاريخ والجغرافيا، وليس في الكتب والأفلام والوثائق، لأن عجلة الحياة مستمرة في الدوران. 

سلام على وليد الدقة وعلى كل الذين يعيشون في الألم والوجع والفقد، الذين يعيشون أيامهم ولياليهم المتشابهة.