مستقبل التعددية القطبية في العالم العربي ومهام اليسار التاريخية | منذر المقطري *

2024-01-31

 

شهد العالم عقب انهيار الاتحاد السوفييتي عام 1990، صعود الأحادية القطبية بزعامة الولايات المتحدة الأميركية، ودول المراكز المالية (الاتحاد الأوروبي، اليابان)، جوهر الأحادية القطبية قائم على الاحتكار، احتكار التقنية الإنتاجية، احتكار الأسواق، حتى احتكار السياسات حيث تدين لها الأحزاب السياسية (اليمين واليسار) في مختلف البلدان وبالتالي تعميم نفوذها.

هذه المركزية المفرطة بأبعادها الاقتصادية والعسكرية والسياسية هيمنت على العالم لأكثر من ثلاثة عقود، عمقت من أزمات النظام الرأسمالي في دول المراكز المالية نفسها، وتحديداً الولايات المتحدة الأميركية التي يعاني اقتصادها منذ سبعينات القرن الماضي من أزمات حادة وحالة ركود.

لعل أبرز هذه الأزمات، الأزمة المالية العالمية عام 2008، ومن ثم الأزمة الاقتصادية عام 2020 بسبب جائحة كورونا، مروراً بأزمة المصارف الأميركية (سيليكون فالي، سيغنتشر، سيلفرجيت كابيتال بنك) عام 2023، وتبعاتها على الاقتصاد العالمي.

في الحقيقة ان الأزمات سمة ملاصقة للاقتصاد الأميركي، أخطرها كان أزمة الديون التي تعد من أبرز أزماتها إلى جانب أزمة التضخم، هذه الأزمات النقدية مرتبطة بالطبيعة الهيكلية للرأسمالية.

أزمة الديون الأميركية الأخيرة تعتبر الأشد خلال الخمسين عاماً الماضية حد وصف البنك الدولي، فقد تجاوز الدين العام الأميركي 33 تريليون دولار لأول مرة في تاريخه، وفقاً لتقرير صادر عن وزارة الخزانة الأميركية عام 2023.

غير أن هذه الأزمات وغيرها من العوامل التي أضعفت كثيراً الهيمنة الأميركية على العالم، لم تكن لوحدها السبب في بروز عالم التعددية القطبية كحاجة تاريخية ملحة، فعلى الجانب الآخر يبزغ نجم دول صاعدة تنازع الأميركيين هيمنتهم السياسية والاقتصادية والعسكرية على العالم، نعني التحالف الروسي الصيني، وأيضاً ما يعرف بدول مجموعة البريكس.

وبرغم الأزمات الامبريالية الحادة إلا ان بروز عالم التعددية القطبية لا يعني، ولو حالياً، التحول إلى النظام الاشتراكي، بمعنى آخر ان الدول الصاعدة في عالم التعددية (الصين – روسيا وغيرها) تعمل ضمن الشروط الرأسمالية، أي انها تسعى لاحتلال مواقع متقدمة في المنافسة العالمية.

ماذا نعني بالدول الصاعدة؟

وفقاً للاقتصادي الماركسي الراحل د. سمير أمين فإن تعريف الدول الصاعدة لا يقاس بالمعدل المتزايد لنمو الإنتاج المحلي الإجمالي عبر فترة طويلة من الزمن (أكثر من عقد)، ولا بتحقيق المجتمع المعني لمستوى أعلى من حصة الفرد من الناتج المحلي وفق ما حدده البنك الدولي وهيئات المعونة التي تتحكم فيها القوى الغربية والاقتصاديون التقليديون.

إذ ينطوي الصعود على ما هو أكثر من ذلك، عبر تحقيق نمو مستدام في الإنتاج الصناعي في البلد المعني، وقدرة هذه الصناعات المحلية على المنافسة عالمياً.

من ثم تتطلب مسألة الصعود تحركاً سياسياً شاملاً، فلا يمكن لدولة ان تصبح صاعدة ما لم تتطلع إلى الداخل أكثر من الخارج، بهدف خلق سوق محلية، بالتالي إعادة التأكيد على السيادة الوطنية على جميع جوانب الحياة الاقتصادية، ويقتضي بشكل خاص تطبيق سياسات تحمي الأمن الغذائي والسيادة الوطنية على الموارد الطبيعية والوصول إلى الموارد خارج البلاد.

جميع هذه المهام المذكورة تتناقض مع أهداف طبقة: “الكمبرادور” المسيطرة والراضية بنماذج النمو وفقاً للوصفة النيولبيرالية.

أثر التعددية القطبية على العالم العربي:

إبان مرحلة باندونغ عام 1955 وإقرار شعوب آسيا وأفريقيا “حق التنمية” المفروضة على الامبريالية، أتيحت الفرصة للتنمية والتطور الصناعي، والتي بدت فيها دول عدم الانحياز وكأنها قطب ما بين القطبين الشرقي والغربي، حققت فيها دولا كالصين والهند وغيرها معدلات نمو متسارعة.

إن الظروف السائدة حالياً في التعددية القطبية ستعيد الإمكانية لتكرار عملية التنمية والنمو، وبشكل أفضل وأوسع مما كانت عليه خلال زمن الثنائية القطبية.

إن السمة الرئيسية في عالم الرأسمالية المعولمة قائمة على تفاوت التراكم الاقتصادي وعدم التكافؤ في التطور الاقتصادي بشكل عام وبشكل خاص بين دول المراكز المالية وبين مجموعة الدول الصاعدة.

هذه الحقيقة تقسم العالم بين دول مراكز شكلت فيما مضى الأحادية القطبية، أما حالياً مع بروز التعددية فهي تقسم العالم أيضاً لكن بشكل مختلف، قائم على الأقطاب، أي دول أقطاب عالمية مثل روسيا التي تتمتع بوزن جيو سياسي كبير وأيضاً غنية بالموارد الطبيعية، أيضاً الصين بفعل وزنها الاقتصادي والبشري، بالإضافة لدول المراكز المالية السابقة (الولايات المتحدة الأميركية، الاتحاد الأوروبي، واليابان) التي هي بطبيعة الحال أقطاب بحكم تراكمها الاقتصادي.

أما بالنسبة للمنطقة العربية فبطبيعة الحال انها تؤثر وتتأثر بالسياسة العالمية المتجهة نحو التعددية، فلا شك انها تلعب دوراً هاماً في المسألة حسب مكانة كل دولة وطبيعتها الاقتصادية وموقعها الجيو سياسي، وينبغي هنا الإشارة إلى انه من غير الدقيق اعتبار أي من دول المنطقة قطباً على غرار الصين، أو روسيا وغيرها، إلا أن هناك دولاً في المنطقة يمكن اعتبارها بمثابة دول إقليمية قوية تؤثر فيمن حولها، مثل تركيا، إيران، السعودية، وبدرجة أقل مصر والجزائر وأثيوبيا، جميع هذه الدول تخضع في سياساتها للتفاوت الاقتصادي كما ذكرنا سابقاً مع دول الأقطاب العالمية، على سبيل المثال المملكة العربية السعودية تتمتع بموقع حيوي على طريق الحرير الصيني، وأيضاً باعتبارها مركزاً للطاقة العالمية، ما يفسر الانفتاح مؤخراً في العلاقات الثنائية الصينية السعودية، الأمر الذي لم يكن متاحاً قبل عالم التعددية.

ماهي مهام اليسار التاريخية في ظل تشكل عالم متعدد الأقطاب؟

في ظل تعمق مظاهر التناقض بين دول المركز والأطراف، لا شك أن شعوب المنطقة العربية تعيش أوضاعاً صعبة وبائسة على كافة الأصعدة، اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً، إذ تعتمد الأنظمة الحاكمة والبرجوازية الطفيلية “الكمبرادور” على السياسات الاقتصادية النيوليبرالية.

من جهة أخرى غياب دولة مؤسسية حديثة، تتولى تحديث البنية الإنتاجية للبلد المعني، وأيضاً غياب أشكال الديمقراطية والحرية، وتفاقم القمع والاضطهاد، كل ذلك فاقم من الأوضاع البائسة لشعوب المنطقة العربية، لا سيما في ظل انحسار حركات اليسار المحلية وعجزها عن التنظيم وإعادة ترتيب أوضاعها الداخلية وبالتالي إمكانية النضال من أجل تمثيل الجماهير وتطلعاتها العادلة، إضافة لغرق الأنظمة الحاكمة في برامج التكيف الهيكلي، واعتماد برامج التنمية الرثة التي يفرضها البنك الدولي وصندوق النقد، لا سيما بالنسبة للمسألة الزراعية التي تتعرض بسبب أنماط التنمية هذه إلى التدمير السريع لمجتمع الفلاحين، فإن من المهام الملحة لقوى اليسار الوطني الاستجابة للمسألة الفلاحية التي ستحكم إلى حد كبير طبيعة التغيرات المستقبلية.

كل ذلك يفرض جملة من المهام الملحة والتاريخية على القوى الوطنية اليسارية، لا سيما مع بروز عالم التعددية الذي يتيح المجال بشكل أوسع لنضالات الشعوب، وبالتالي بلورة مشاريع وطنية شعبية مستقلة بعيداً عن الوصفات الليبرالية.

إن المهام التاريخية اليوم لكافة القوى الوطنية، وخاصة قوى وأحزاب اليسار - حيث لا يدور الصراع حول التحول من الرأسمالية إلى الاشتراكية على الأقل في المرحلة الراهنة- تتمثل بإعادة تنظيم نفسها من أجل النضال مع القطاع الأوسع من الجماهير صاحبة المصلحة في التغيير، واستكمال مهمة التحرر الوطني على صعيد السيادة الوطنية، وانهاء مظاهر الاستعمار العسكري والتبعية الخارجية، وأيضاً على مستوى التحرر من الهيمنة الليبرالية وسياساتها الاقتصادية، لحساب “البرجوازية الوطنية المنتجة”، وانعاش مؤسسات الدولة الوطنية الشعبية، والعمل على ايجاد تحالفات جديدة، ويجب أن تكون هذه مرحلة أولى فحسب من مراحل التحول نحو الاشتراكية.

* كاتب يمني.