عملية "طوفان الأقصى" 7 أكتوبر 2023، وما بعدها..

2023-12-05

ماهية إسرائيل؟  دورها؟  مصيرها؟ حركة التحرر الفلسطينية - أوضاعها؟ والى أين؟

| شوقي العيسة

لا يمكن فهم ما يجري الان ونتائجه القريبة والبعيدة، وما المطلوب فلسطينيا، دون فهم سياق القضية الفلسطينية والعوامل المؤثرة والمقررة في مسيرة الشعب الفلسطيني نحو التحرر والاستقلال.

الحركة الصهيونية واسرائيل

إسرائيل بطبيعتها الصهيونية تشكل جزأ هاما من المعسكر الامبريالي الاستعماري العالمي، وخاصة بالنسبة للولايات المتحدة الامريكية بكل ما يعني ذلك، فالولايات المتحدة التي تقود الامبريالية العالمية منذ الحرب العالمية الثانية وتهيمن على النظام العالمي منذ انهيار الاتحاد السوفياتي، والتي يقول خبراء الامن القومي لديها واخرهم بريجينسكي: انهم حين يعدون استراتيجياتهم، يعيشون قلق دائم، امام حقيقة انهم اول امبراطورية في التاريخ البشري تقود العالم، من خارج أوروبا واسيا. ودائما يطرحون على انفسهم سؤال: الى متى سيقبل العالم ذلك؟!. لهذا هم دائما حريصون على إبقاء أوروبا في حاجتهم والنتيجة الثانية هنا وهي التي تهمنا: انهم يعتبرون إسرائيل اهم قاعدة لهم ويسمونها الحليف الاستراتيجي، لمواصلة هيمنتهم على الشرق الأوسط الهام في صراعهم العالمي مع الصين وروسيا وحتى مع أوروبا.

كيف ولماذا أصبحت إسرائيل كذلك؟!  

تشكلت الحركة الصهيونية العالمية في نهاية القرن التاسع عشر وترسخت وتبلورت في السنوات الأولى من القرن العشرين، وكان وراء تأسيسها مجموعة تمثل الطبقة البرجوازية اليهودية الأوروبية العلمانية وخاصة في أوروبا الغربية والتي كانت تبحث عن أداة لحماية مصالحها من خلال تأسيس كيان يتحول الى دولة تكون قاعدة لها لتحقيق أهدافها الاقتصادية ولاحقا السياسية (ورد في نص وعد بلفور لاحقا، انه لا ينتقص من الحقوق او الوضع السياسي الذي يتمتع به اليهود في أي بلد اخر).

اضيف هذا النص من قبل اغنياء اليهود في أمريكا وبريطانيا، وعلى رأسهم اللورد ليونيل دي روتشيلد الذي وجه له وزير الخارجية البريطاني الوعد (قيادات الحركة الصهيونية من كبار الأغنياء شاركوا في كتابة نص الوعد).

السبب الرئيسي الذي دفعهم لذلك كان الانتشار الواسع للاسامية في أوروبا في تلك المرحلة، لكن صفة الجُبن التي يتسم بها الرأسمال دائما منعت انتشارها الواسع، فلجأ مفكروها الى استخدام فقراء اليهود وخاصة في أوروبا الشرقية لتوسيع حركتهم وتقويتها واستخدموا الدين والأوضاع المزرية التي عاشها اليهود في ذلك الوقت لإقناعهم وتأطيرهم واستخدامهم.

كان عليهم التنظير الى تحويل الدين الى قومية للنجاح في مهمتهم فركزوا على أهمية القدس وفلسطين كوطن لليهود، وبدأت الحركة في الاتساع، وفهم منظروها السياسيون ان عليهم التحالف مع قوى الامبريالية العالمية الاستعمارية ليحصلوا على دعمها، ونجحوا في ذلك واقاموا علاقات قوية خاصة مع بريطانيا، واتفقوا معها على إقامة الكيان في سيناء التي كانت تحت النفوذ البريطاني ولكن برزت عراقيل كثيرة فاقترحت عليهم بريطانيا منطقة في افريقيا يؤسسوا فيها كيان حكم ذاتي تحت السيادة البريطانية.

في ذلك الوقت كانت الحركة الصهيونية لا تزال غير متجانسة، لدرجة انهم في العشر سنوات الأولى من عمر الحركة لم يستطيعوا الاتفاق على لغة تكون لغتهم الرسمية. وكانت قيادتها البرجوازية تطغى لديهم الأهداف الاقتصادية على الأهداف الأخرى بينما اغلبية الأعضاء وخاصة من أوروبا الشرقية تطغى أهدافهم الدينية والقومية فرفضوا الاقتراح البريطاني في الوقت الذي وافقت عليه قيادة الحركة من البرجوازيين بقيادة هيرتزل.

عقدوا مؤتمرا للحركة في عام 1903 لاتخاذ القرار حول مكان إقامة الدولة اليهودية، في ذلك المؤتمر كانت الأغلبية الرافضة للاقتراح البريطاني تعي انها بحاجة للأقلية التي تمثل البرجوازية، وتقود الحركة وتُعتبر الضامن لدعم القوى الامبريالية العالمية لحركتهم. فلجأ المؤتمر الى حل وسط وهو الموافقة على ارسال بعثة الى افريقيا لدراسة المنطقة المقترحة، وتقديم تقريرها الى المؤتمر القادم. بُعيد ذلك المؤتمر مات هيرتزل وضعفت كتلته في الحركة الصهيونية وسقط اقتراح افريقيا.

الحركة الصهيونية منذ بدايتها تنبهت الى مسألة نظرية فلسفية هامة، مرتبطة بشكل الدول المعاصرة الرأسمالية، التي تكون العلاقة فيها بين حكومة ومواطنين، يحكمها القانون بكل ما يعنيه ذلك. وما يفرقه عن شكل الدولة في عصور سابقة. حيث كانت العلاقة بين سادة وعبيد او اقطاعيين واقنان (الدول العربية لا تعي ذلك حتى الان). لذلك اقرت في نظامها الداخلي منذ المؤتمر الثاني، ان اي عضو في المؤتمر يجب ان يكون منتخبا من اليهود الصهاينة في منطقة سكناه. بل وسبقوا اوروبا في اعطاء المرأة الحق الكامل في الترشح والتصويت.

قبيل الحرب العالمية الاولى ترسخت الحركة الصهيونية وقويت بنيتها الداخلية، واعتمدت البرغماتية في العمل السياسي وتغلغلت في اوساط اليهود الأغنياء في الولايات المتحدة، وازداد الدعم المالي لها منهم، ووضعت خطط محكمة لعملها في كل المجالات، وركزت على التحالف مع القوى الاستعمارية واستفادت من تغلغل اغنيائها في هذه الدول، وثبتت ان هدفها إقامة الدولة في فلسطين.

بدأت توسيع حجم هجرة اليهود الى فلسطين بمساعدة الدول الأوروبية، والى جانب تركيزها على التحالف القوي مع الدول الاستعمارية، حرصت على وجود علاقات لها مع الجميع. خاصة ان اليهود الفقراء الذين كانوا يتعرضون للاضطهاد و(البغرومز) كانوا قريبون من الأفكار الاشتراكية والماركسية، فاستفادت الحركة الصهيونية من ذلك أيضا.

بعد الحرب العالمية الأولى وهيمنة الاستعمار الأوروبي على المنطقة العربية، وتقسيمها الى دويلات تابعة لهم، كان واضحا لدول الاستعمار ان عالم ما بعد الحرب لن يقبل استمرار الاستعمار المباشر، وان عليهم البحث عن أشكال جديدة من الاستعمار غير المباشر. وهنا أصبحت فكرة انشاء دولة للحركة الصهيونية في فلسطين تشكل حجر الزاوية في مخططات الاستعمار الأوروبي، وخاصة البريطاني والفرنسي، لمواصلة هيمنتهم على منطقة الشرق الأوسط، خاصة وان حكومات عربية تابعة لهم في هذه المنطقة غير مضمونة الاستمرار الى ما لا نهاية. بينما دولة صهيونية في فلسطين لن يكون أمامها خيار سوى ان تبقى في خندق الاستعمار الامبريالي، لآن وجودها بحد ذاته مرتبط بتبعيتها لهم.

بين الحربين العالميتين، عملت بريطانيا مع الحركة الصهيونية بكل ما تستطيع على تحقيق الهدف، بإنشاء دولة صهيونية في كل فلسطين وليس جزأ منها. ووضعت العصابات الصهيونية الخطط للتطهير العرقي للشعب الفلسطيني من خلال القيام بجرائم إبادة جزئية لتحقيق ذلك، واستفادت من موجات الهجرة الجماعية التي حدثت بسبب "الهولوكوست" اثناء وبعد الحرب العالمية.

بعد الحرب العالمية الثانية انضمت لهم الولايات المتحدة، التي كانت تحث الخطى لتصبح قوة عظمى ممتدة النفوذ في النظام العالمي بعد الحرب. وكذلك انضم الاتحاد السوفياتي الذي كان يطمح لنفوذ في الشرق الأوسط، وكان يعتبر الحكومات العربية تابعة للاستعمار الغربي، وان بإمكانه منافسة أوروبا وامريكا على كسب ولاء الدولة الصهيونية التي في طور التشكل.

مع اقتراب الحسم وبسبب ثورة الفلسطينيين 1936- 1939 تولدت قناعة لدى الدول الاستعمارية ان التطهير العرقي لكل الشعب الفلسطيني وتهجيره الى خارج فلسطين غير ممكن التطبيق، فلجأوا أمام اصرارهم على تأسيس الدولة الصهيونية، الى مشروع تقسيم فلسطين وتأسيس الدولة الصهيونية على الجزء الأكبر، ومنع تأسيس الدولة الفلسطينية على الباقي، وبتواطئ من الأنظمة العربية المحيطة وهذا ما حدث.

الحركة الصهيونية لم تقتنع يوما بإقامة دولتها على جزء من فلسطين فقط. لذلك جاءت موافقتها على قرار التقسيم كتكتيك مؤقت. بعد تأسيسها وفي اول اجتماع لأول حكومة لدولة إسرائيل، ناقشت إمكانية احتلال باقي مساحة فلسطين وصوّت نصف أعضاء الحكومة مع استكمال احتلال باقي فلسطين، إلا ان بن غوريون رئيس الحكومة صوت ضد القرار، وفسر تصويته بان الوضع الدولي والإقليمي لا يسمح بذلك الان. ولكن سنقوم بذلك لاحقا عندما تنضج الظروف. في كل الأحوال فالحركة الصهيونية لم تنفذ قرار التقسيم الذي صدر عن الأمم المتحدة والذي كان يعطيها 55% من مساحة فلسطين وبدون القدس، بل احتلت وضمت لدولتها 23% من مساحة فلسطين بما في ذلك قسم من القدس الذي اصبح يعرف باسم القدس الغربية.

وقتذاك في عام النكبة لم تكن هناك أية إمكانية لدى الشعب الفلسطيني لمنع تأسيس إسرائيل، فقد كان رازحا تحت الاحتلال البريطاني، وكان في مواجهته كل دول الاستعمار الأوروبي والولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي، وبتواطئ من الأنظمة العربية المجاورة، بالإضافة الى الحركة الصهيونية التي كان لديها 95 ألف مقاتل مدرب ومسلح جيدا، وكثيرون منهم لديهم خبرات عسكرية، نتيجة مشاركتهم في حروب أوروبا بما في ذلك الحرب العالمية الثانية، في حين كانت المقاومة الفلسطينية حوالي 15 الف بدون سلاح كافي، وبدون خبرات قتالية أو تدريب للكثيرين منهم. والجيوش العربية التي لم يزد عدد المشاركين منها عن ثلاثين الفا وكانت قياداتها أما بريطانية او أنظمة تابعة لها.

كثيرا ما يتم الحديث عن التشابه بين إسرائيل وامريكا الشمالية (الولايات المتحدة وكندا) وأستراليا في طريقة التأسيس، ولكن الشبه ينحصر في الجرائم التي ارتكبت ضد السكان الأصليين، اما الاختلافات فهي كثيرة ومنها:

* المرحلة الزمنية: حيث ان ما حدث في أمريكا الشمالية كان في قرون سابقة ومعايير نظام عالمي مختلفة عن القرن العشرين.

* الجغرافيا: من حيث ان أمريكا الشمالية وأستراليا وقتذاك كانتا قارتين بعيدتين عن قلب العالم ونائيتين. اضافة الى  المساحة الشاسعة لكلتيهما ونسبة السكان الأصليين الى المساحة.

* لم يكن هناك ارتباط او علاقات بين السكان الأصليين هناك مع باقي شعوب العالم كما هو حال الشعب الفلسطيني الذي هو جزء من الامة العربية.

أما التشبيه باحتلال فرنسا للجزائر، فهو أيضا يكمن في الجرائم المرتكبة. في حين ان اهم اختلاف هو ان فرنسا دولة قائمة منذ ازمنة طويلة وليس كالحركة الصهيونية التي لم تكن شعبا ولم يكن لها دولة.

وأخيرا التشبيه مع جنوب افريقيا، وهو اقرب تشبيه، إلا ان الفرق الكبير والهام هو ان جنوب افريقيا العنصرية لم تكن يوما بأهمية إسرائيل للنظام الرأسمالي الامبريالي، كقاعدة تابعة كليا له.   

بعد تأسيس إسرائيل

انسحب الاتحاد السوفياتي من دعمها، وفهم ان رهانه على ان تكون تابعة او صديقة له لم يكن مبنيا على أي أساس صحيح، وانها تابعة بشكل كامل للاستعمار الغربي.

بعد التأسيس ترسخت لدى الحركة الصهيونية قناعة بأن نجاحها وبقائها مرتبط بعدة عوامل، وهي:

1. استمرار هجرة اليهود اليها وتوسيعه بشكل كبير.

2. تأمين اقتصاد قوي ورخاء وامن واستقرار لمنع الهجرة المعاكسة.

3. بناء جيش قوي ومتفوق على جيوش المنطقة يعطي الامن لمواطنيها ويمنع مهاجمتها.

4. الضغط الشديد على من تبقى من الفلسطينيين داخل حدودها واستمرار العمل على تهجيرهم.

5. توسيع حدودها باحتلال باقي فلسطين.

6. الولاء التام والتبعية لقوى الاستعمار الغربي وتنفيذ سياستهم في المنطقة.

نجحت إسرائيل في تحقيق هذه الأهداف، التي تمثل عوامل نجاحها واستمرارها. باستثناء تهجير الفلسطينيين الذين بقوا في ارضهم رغم كل ما مارسته ضدهم، وهذا الاستثناء له أهميته في المراحل اللاحقة.

سنوات قليلة بعد تأسيس إسرائيل بدأت سلسلة من الانقلابات العسكرية في بعض الدول العربية، التي بدأت تخرج عن التبعية للمعسكر الامبريالي النيوكولونيالي، مما عزز قناعة هذا المعسكر بأن وجود إسرائيل قوية ومستقرة هو ضمانة رئيسية لمصالحه، وبدأت تزداد أنشطة الولايات المتحدة التي أصبحت تعتبر نفسها القوة العظمى التي تقود الامبريالية العالمية. وبدأ بالترافق مع ذلك يزداد اهتمامها ودعمها لإسرائيل، خاصة وان التنافس والصراع مع الاتحاد السوفياتي ازدادت حدته في المنطقة، كون بعض الدول العربية التي خرجت من تحت عباءة التبعية للاستعمار الغربي، بدأت تقيم علاقات تحالف معه.

من الجدير بالذكر هنا حول فترة الخمسينيات وما بعدها، ان الدول العربية كانت (ولا تزال) تفتقر الى وجود مدرسة سياسية عربية (أي منظومة من الأنماط في التخطيط والعمل السياسي)، وجود هكذا مدرسة يكون نتيجة لتراكمات من الخبرة والعمل ضمن استراتيجية الحفاظ على الأمن القومي والمصالح، فهناك المدرسة الصينية والروسية والأمريكية والأوروبية وغيرها.

العرب كانوا قد استقلوا حديثا عن الاستعمار الأوروبي، وقبله كانوا لعدة قرون تحت الاحتلال التركي العثماني، هذا الانقطاع أدى لغياب مدرسة سياسية عربية تميز العرب، ومن الدلائل على ذلك ان هذه الدول التي شكلها الاستعمار الأوروبي، باتفاقية سايكس بيكو، لم تقم بعد استقلالها بإلغاء نتائج تلك الاتفاقية، ولا حتى تأسيس كونفدرالية أو فدرالية لبلاد الشام لتحمي أمنها القومي الذي تهدده إسرائيل وقوى الاستعمار التي تعتبرها قاعدة قوية متقدمة لها، في حين أن إسرائيل ثبتت وجودها وبدأت تستقر وتقوى في ظل تزايد الدعم الامبريالي لها في كل المجالات. إضافة الى توسع نفوذ الحركة الصهيونية العالمية.

هذا كله جعلها تبدأ في عام 1963 بالتخطيط لاستكمال احتلالها لباقي فلسطين، وهذا ما فعلته في عام 1967 حيث حققت نصرا ساحقا على الدول العربية المجاورة في زمن قياسي. واحتلت إضافة لفلسطين أجزاء واسعة من الدول العربية، وأثبتت للدول الامبريالية بانها قادرة على حماية مصالحه وهيمنته على الشرق الأوسط، مما حدا بالولايات المتحدة الى مضاعفة دعمها لإسرائيل اضعافا، واعتبارها قاعدة متقدمة وثابتة يمكنها الاعتماد عليها باطمئنان، وضمنت لها الحماية السياسية والدبلوماسية والقانونية والتفوق العسكري الدائم. وكل ذلك أدى الى زيادة هجرة اليهود اليها.

الجانب الاخر، الفلسطيني والعربي

الشعب الفلسطيني الذي وجد نفسه تحت الاحتلال البريطاني بعد أربعة قرون من الاحتلال التركي العثماني، كان بلا مؤسسات حكومية وبلا جيش وبلا أحزاب سياسية، تنبه مبكرا الى موجات الهجرة اليهودية الصهيونية الى فلسطين، برعاية كاملة من الاحتلال البريطاني الذي كان أطلق وعده بتأسيس وطن قومي لليهود في فلسطين، وعززه بقرار من عصبة الأمم. حيث بدأ هذا الشعب بمحاولة التصدي للحركة الصهيونية وللاحتلال البريطاني مبكرا بعد قرار عصبة الأمم بتثبيت الاحتلال (الانتداب) البريطاني على فلسطين، لإقامة دولة للحركة الصهيونية فيها.

في العشرينيات والثلاثينيات من القرن الماضي، تشكلت في مختلف المدن الفلسطينية جمعيات ونواد ونقابات ومجموعات سياسية ومسلحة، تناضل من أجل تحرير الوطن والاستقلال، وكانت أولى المواجهات الكبرى مع العصابات الصهيونية في القدس عام 1929. ثم انطلقت أول ثورة شاملة في عام 1936، واستمرت ثلاث سنوات الى ان اندلعت الحرب العالمية الثانية. حيث نفذ الشعب الفلسطيني في بدايتها أطول اضراب شامل في التاريخ، استمر ستة أشهر. قمعت بريطانيا هذه الثورة بقوة وحشية جدا، حيث أعدمت وقتلت وجرحت واعتقلت وأبعدت عشرات آلاف الفلسطينيين.

خلال الحرب العالمية الثانية، كان الشعب الفلسطيني يعاني من آثار القمع الوحشي البريطاني والعصابات الصهيونية التي استفادت من الهجرة الواسعة لليهود خلال وبعد الحرب.

رغم كل ذلك، واصل الشعب الفلسطيني نضاله وتنظيم نفسه ليستطيع المواجهة، لكن بعد الحرب أصبح خندق الأعداء أوسع. فقد انضمت إليه الولايات المتحدة وأصبح نشاطها في دعم الحركة الصهيونية ملحوظا أكثر من السابق، والعصابات الصهيونية زاد عددها وتسليحها، وبريطانيا فرضت على اتباعها من الأنظمة العربية الموافقة السرية على إقامة دولة إسرائيل، والاجتماع والاتفاق مع الحركة الصهيونية، وشددت ملاحقتها للثوار الفلسطينيين، ثم انضم الاتحاد السوفياتي الذي انتقل من العداء للصهيونية الى داعم بقوة لها.

اتفقوا جميعا على اصدار قرار من الأمم المتحدة بتقسيم فلسطين، ليكون أساسا قانونيا بالنسبة لهم لتأسيس دولة إسرائيل.

رفض الفلسطينيون القرار وواصلوا نضالهم السياسي والمسلح، الا انهم كانوا عمليا يواجهون كل العالم تقريبا (وليس فقط الحركة الصهيونية)، بين داعم ماليا وعسكريا وبشريا، وداعم في الموقف أو صامت، وبهذا الدعم ارتكبت العصابات الصهيونية جرائم الإبادة والتطهير العرقي ضد الشعب الفلسطيني، تماما كما يحصل الآن في قطاع غزة والضفة والقدس.

وتأسست إسرائيل وبدأت معركة جديدة وهي مسح اسم فلسطين نهائيا من خارطة العالم، كأحد الشروط لإنجاح قيام دولة إسرائيل. فقامت الأنظمة العربية المجاورة بضم ما تبقى من أراضي فلسطين، ومنعت حكومة عموم فلسطين التي انشأها الفلسطينيون من العمل، وحاولت منع الفلسطينيين الذين لجأوا الى أراضيها من العمل ضد إسرائيل وقمعتهم. بل وقامت بعض الحكومات العربية بالتنسيق مع الحركة الصهيونية بترحيل اليهود من مواطنيها الى إسرائيل، لدعمها وهي التي كانت بحاجة الى زيادة عدد مواطنيها. وإضافة الى كل ذلك، قامت حركة الاخوان المسلمين العالمية والتي كانت نشيطة في دعم الشعب الفلسطيني سياسيا وعسكريا، وخاصة في الثلاثينيات، بمنع أعضائها في فلسطين من تشكيل حزب الاخوان المسلمين الفلسطيني، على غرار الدول الأخرى ومنعتهم من النضال ضد إسرائيل، واستمر ذلك عقود طويلة الى حين اندلاع الانتفاضة الفلسطينية في النصف الثاني من ثمانينيات القرن الماضي.

كما قام الاتحاد السوفياتي بمنع الشيوعيين الفلسطينيين من تشكيل حزب شيوعي فلسطيني، ومنعهم من استخدام الكفاح المسلح ضد إسرائيل، وفرض على من بقي منهم في داخل ما أصبح يعرف بإسرائيل، الانضمام الى الحزب الشيوعي الإسرائيلي، لكن الشيوعيون في قطاع غزة فقط رفضوا وتمردوا على القرار السوفياتي، وواصلوا نضالهم السياسي والمسلح ضد إسرائيل. بل وحتى القوميون الفلسطينيون نشطوا من خلال حركة القوميين العرب، ولم يشكلوا حركة فلسطينية، كل ذلك كان يساعد في اختفاء الهوية الفلسطينية.

الحركة الصهيونية من جهتها ومعها الدول الامبريالية، فرضت على وسائل الاعلام التوقف عن استخدام كلمة فلسطين. لكن الشعب الفلسطيني لا يوجد في قاموسه، اليأس والإحباط والاستسلام، واصل نضاله، فمن تشردوا في الدول المجاورة بدأوا دون أي تأخير بمحاولات العودة الى وطنهم، ورغم قتل الكثيرين منهم على الحدود الا انهم واصلوا ونجح البعض في العودة، اما من صمدوا وبقوا في ارضهم رغم تأسيس دولة إسرائيل عليها، فقد قاموا بدور هام جدا في الحفاظ على الهوية الفلسطينية بمواصلة صمودهم وتنظيم انفسهم رغم القمع الشديد وفرض الاحكام العسكرية واحكام الطوارئ عليهم.

اما الفلسطينيون في الدول المجاورة وفي قطاع غزة والقدس والضفة، فلم يتأخروا في التخلص من صدمة النكبة والنهوض والبدء في تنظيم انفسهم والقيام بعمليات عسكرية ضد الدولة الصهيونية فخلال العشر سنوات الأولى بعد النكبة، تشكلت العديد من الخلايا المنفردة والمتشابكة، في اكثر من منطقة وفي اكثر من دولة، استمر هذا المخاض الى ان ولدت حركة التحرير الوطني الفلسطيني فتح في عام 1958، وبدأت في تجميع الشباب الفلسطيني حولها وتنظيمهم للنضال من اجل تحرير الوطن. وفي النصف الأول من الستينيات تأسست منظمة التحرير الفلسطينية. تأسيس فتح ومنظمة التحرير الفلسطينية حمى الهوية الفلسطينية من الاندثار، ووجه صفعة قوية الى المخطط الصهيوني.

بعد احتلال باقي فلسطين

شكل الاحتلال صدمة للأنظمة العربية. لكن بالنسبة للشعب الفلسطيني كان دفعة قوية لتوسيع النضال ضد إسرائيل والذي بدت ملامحه في

اعادة التواصل بين الضفة وقطاع غزة وبدأ تبادل الخبرات العسكرية في النضال.

شكل القوميون الفلسطينيون تنظيما فلسطينيا مستقلا عن حركة القوميين العرب، الجبهة الشعبية، ولاحقا تشكلت جبهات وتنظيمات أخرى. وشكل الشيوعيون في الضفة تنظيما فلسطينيا مستقلا.

سيطرت تنظيمات الثورة الفلسطينية المسلحة على منظمة التحرير الفلسطينية وحولتها من هيئة سياسية دبلوماسية الى منظمة ثورية سياسية مسلحة.

اتسع انتشار التنظيمات في أوساط الشعب الفلسطيني أينما وجد وخاصة بعد معركة الكرامة التي أعطت نشوة ودفعة قوية للشعب الفلسطيني. مثلما فعلت عملية طوفان الأقصى الان.

والانجاز الأكبر هو بقاء الأغلبية الساحقة من الفلسطينيين في الضفة والقطاع والقدس. وفشلت إسرائيل في تهجيرهم الى الخارج.

وبدأت تقوى علاقات الثورة الفلسطينية مع قوى التحرر واليسار العالمية في مختلف القارات وكذلك علاقات مع الصين والاتحاد السوفياتي والدول الاشتراكية مما اعطى دفعة قوية جدا للثورة.

خلال السبعينيات استطاعت الثورة الفلسطينية تحقيق إنجازات كثيرة، حيث اعتُرف بالمنظمة كممثل للشعب الفلسطيني. وحصلت على مقعد يمثل فلسطين في هيئة الأمم المتحدة، وفي كثير من المؤسسات الدولية. وهذا الإنجاز وما تبعه قضى نهائيا على الهدف الصهيوني الامبريالي الغربي بإزالة اسم فلسطين عن الخارطة في العالم، كذلك أصبحت ساحة الضفة وغزة منبعا للثوار وشوكة كبيرة في حلق الصهاينة. وعاد الشعب الفلسطيني وحدة واحدة في كل أماكن تواجده تحت مظلة منظمة التحرير الفلسطينية. وكل ذلك تطلب الكثير من التضحيات (شهداء وجرحى واسرى).

إسرائيل التي اعتقدت انها باحتلالها باقي فلسطين زادت قوة واستقرارا وجدت ان ما حصل هو العكس. فبدأت بالتخطيط للتخلص من منظمة التحرير، ولإضعاف الدول العربية المناوئة لها وللغرب. والتفكير في إيجاد حل للفلسطينيين في الأراضي التي احتلتها عام 1967 ولم تستطع تهجيرهم.

حاولت من خلال اتفاقية كامب ديفيد مع مصر وضع الأراضي المحتلة تحت حكم ذاتي تحت سيادتها وفشلت فشلا ذريعا. وحاولت الفصل بين الفلسطينيين في الضفة وباقي الفلسطينيين من خلال تشكيل ما سمته روابط القرى لحكم الضفة تحت سيطرتها، وفشلت في ذلك فشلا ذريعا. فلجأت الى تنفيذ خطتها باحتلال اجزاء من لبنان بهدف تدمير قوة منظمة التحرير العسكرية، وابعادها عن حدودها. واستطاعت ذلك بدعم كامل من القوى الامبريالية وعلى رأسها الولايات المتحدة، وبتواطئ من دول الإقليم.

ولكنها لم تفرح طويلا، فقد فاجأها الشعب الفلسطيني في الأراضي المحتلة بانتفاضة شاملة، قلبت الطاولة على كل مخططاتها، واعادت القضية الفلسطينية على رأس الاجندة السياسية الدولية والإقليمية. ووقفت عاجزة امامها رغم القمع الوحشي.

ومع بداية الانتفاضة تعددت تأثيراتها على قطاعات واسعة من الشعب الفلسطيني، حيث شارك فيها قطاعات وفئات من الشعب لم يكن لها دور في النضال الفلسطيني، واهم تأثير كان على جماعة الاخوان المسلمين الذين لم يكونوا مشاركين في حركة التحرر الفلسطيني بعد النكبة، واقتصر عملهم على الدعوة الدينية. حيث فهموا ان الشعب الفلسطيني لا يؤيد الا من يناضل ضد الاحتلال. وهذا بالفطرة المنتمية للوطن، والتي تتوق للحرية. فقاموا بتأسيس حركة حماس التي بدأت تشارك في الانتفاضة بفعالية. وبذلك أصبحت الانتفاضة شاملة لكل الشعب. واستمرت لسنوات حتى انعقاد مؤتمر مدريد للتفاوض. 

امام عجزها خلال الانتفاضة، رغم القمع الوحشي. لجأت إسرائيل الى داعميها الأمريكيين والأوروبيين، والحركة الصهيونية العالمية، الذين جمعوا خبرائهم للتخطيط لمستقبل إسرائيل، وكيفية التخلص من خطر الانتفاضة، كان ذلك في تل ابيب في مركز دراسات كان اسمه مركز يافي. وبعد بحثهم في جميع الخيارات الممكنة، اتفقوا على تنفيذ ما اصبح لاحقا يسمى اتفاق أوسلو الذي بدأت أولى حلقاته في مدريد، وكذلك اتفقوا على ضرورة فصل قطاع غزة عن الضفة الغربية، بافتعال خلافات داخلية بين حماس التي أصبحت قوية في قطاع غزة، وبين السلطة والقائمين عليها. وهذا ما قاموا به (اتفاق أوسلو وفصل غزة عن الضفة) مستغلين انهيار الاتحاد السوفياتي والضعف العربي العام وضعف منظمة التحرير ومحاصرتها، وهيمنة الولايات المتحدة على النظام العالمي.

أمريكا ومعسكرها الرأسمالي الغربي، ومعها الصهيونية العالمية واداتهم إسرائيل، لم يريدوا يوما الوصول الى قيام دولة فلسطينية الى جانب إسرائيل. وكل ما قاموا به خلال المفاوضات مع منظمة التحرير هو إدارة للصراع لكسب الوقت واطالة عمر إسرائيل، ولذلك لم يعترف أي منهم بالدولة الفلسطينية واستمرت إسرائيل بالاستيطان بل وزادت منه.

بعد سنوات من التفاوض وبعد تأسيس السلطة الفلسطينية. اعتقدوا ان عملهم على تدجين منظمة التحرير يسير جيدا. فاجأهم الشعب الفلسطيني مرة أخرى بانتفاضة واسعة ومسلحة، شارك فيها المقاومون من مختلف التنظيمات، وكذلك من افراد الأجهزة الأمنية للسلطة. اثبتت هذه الانتفاضة كما التي قبلها في الثمانينيات ان الوضع الاقتصادي لا يؤثر على مقاومة الشعب للاحتلال، فكلتا الانتفاضتين انطلقتا في وقت كان الوضع الاقتصادي جيدا، لان نضال الفلسطينيين ليس لتحسين أوضاعهم المعيشية بل للتحرر والاستقلال. فعادت إسرائيل للتخبط، واعتقدت انها اذا اغتالت عرفات تحل المشكلة، حاولوا في البداية اغتياله سياسيا بتقليص صلاحياته وحصاره، وفرضت عليه تغيير بنية السلطة لسحب البساط من تحته. لكن كل ذلك لم ينجح فاغتالوه جسديا.

ثم مهدوا وعملوا على فصل قطاع غزة عن الضفة بعد ان فصلوا القدس عن الضفة. وسرعوا في توسيع الاستيطان وزادوا من نشاطهم في افساد السلطة واضعافها الى اقصى حد حتى لم تعد مفيدة لا لنا ولا لهم.    

ما بعد عرفات الى ما قبل 7 أكتوبر

في هذه الفترة انتهجت السلطة في رام الله نهجا يعتمد على قناعة رئيسها ومن حوله ان كل أوراق الحل بيد أمريكا. وان نبذها للنضال ضد إسرائيل، باي شكل فيه ولو الحد الأدنى من العنف، سيرضي أمريكا وإسرائيل وتمنح الشعب الفلسطيني الحد الأدنى من حقوقه. وأصبحت كل علاقات السلطة مع أمريكا وأوروبا الغربية وإسرائيل والأنظمة العربية التابعة لأمريكا. وابتعدت عن حركات التحرر والقوى المناوئة لأمريكا في العالم وفي الدول العربية والاقليم، التي كانت دوما تدعم وتساند الشعب الفلسطيني وثورته. وبذلك قدمت نفسها لقمة سائغة لأمريكا وإسرائيل لتضعفها وتستبيح الضفة الغربية.

في قطاع غزة الذي تحكمه حماس، جرت تحولات بنيوية تدريجية على حركة حماس، تسارعت مع الوقت. حيث كان واضحا لها ان النضال ضد إسرائيل ومواصلة مقاومتها هو الطريق لالتفاف الجماهير حولها. وان هذا يتطلب بالضرورة التحول من حركة دينية الى حركة وطنية. مما يعني الانفتاح على حركات أخرى فلسطينية وغير فلسطينية معادية لإسرائيل، ومن يدعمها. وكذلك الابتعاد عن النهج الكلاسيكي للإخوان المسلمين.

التحولات في الشرق الأوسط (2004-2023)

استمر الضعف العربي، والتبعية للولايات المتحدة بل وأصبحت بعض الدول العربية تتسابق في إقامة علاقات مع إسرائيل. وضعفت الأحزاب والحركات العربية المعادية للإمبريالية الاستعمارية. واغرقت الولايات المتحدة واتباعها بعض الدول العربية المعادية لها ولإسرائيل، في حروب أهلية وانهيارات اقتصادية.

في المقابل ظهرت في المنطقة قوتان اقليميتان تركيا وايران إضافة لإسرائيل. واحتد التنافس بين هذه الدول الإقليمية على مد نفوذها في المنطقة العربية، ايران المعادية للمعسكر الغربي الذي يحاصرها، استطاعت مد نفوذها وبناء جبهة قوية معادية للغرب ولإسرائيل. تركيا التي تعتبر نفسها لأسباب متعددة انها الاجدر والاقدر على ان تكون القوة الإقليمية الأكبر والاقوى في منطقة الشرق الأوسط، تحاول مد نفوذها من خلال جماعات الاخوان المسلمين، وتحاول كسب الرأي العام الشعبي العربي من خلال القضية الفلسطينية. وتستخدم قوتها الاقتصادية. وتبقي على علاقات جيدة مع إسرائيل لتتأهل لهذا الدور.

تختلف هذه الدول الثلاث عن الدول العربية بانها تجري انتخابات ديموقراطية دورية، وتغير زعمائها وتبني لنفسها اقتصاد قوي وجيش قوي لتحافظ على امنها القومي، ايران وتركيا إضافة لذلك تتقنان استخدام موازين القوى والمصالح في السياسة الدولية، وفي علاقاتهما مع الدول العظمى المنافسة لأمريكا.

بالعودة الى الفلسطينيين، السلطة حسمت نفسها في الخندق الأمريكي واتباعه وأصبحت شبيهة بالأنظمة العربية التابعة لأمريكا بل وربما اسوء من بعضها، اما حماس ومعها حركة الجهاد الإسلامي المحاصرتين بشكل قاسي، هما والشعب الفلسطيني في قطاع غزة منذ 16 سنة. تحالفتا مع المعسكر الإيراني المعادي لإسرائيل ومن يدعمها، واستفادتا من ذلك كثيرا. وفي نفس الوقت استغلت حماس أصولها الاخوانية واقامت علاقات متزنة مع تركيا واستفادت من ذلك أيضا. واقامت علاقات قوية مع دولة قطر، التي تلعب دور السمسار السياسي في الشرق الأوسط بين أمريكا وإسرائيل من جهة، والمعسكر المعادي لهما من جهة أخرى. وأيضا استفادت من ذلك ماليا وسياسيا. اما باقي التنظيمات الفلسطينية فقد ضعفت الى حد كبير، لأسباب كثيرة، ولم تعد مؤثرة.

وهذا كله جعل الشعب الفلسطيني الذي لم يتوقف عن النضال بكل اشكاله منذ قرن من السنين، بأغلبيته، لا يثق بان السلطة تلعب دورا في تحريره. ومن جهة اخرى يرى فيما تقوم به حماس في غزة والضفة والقدس عبارة عن تراكمات لمواصلة النضال على طريق التحرير. خاصة وان الشعوب المحتلة تعرف ان عليها تغيير موازين القوى وليس الخضوع لها.

التحولات الدولية

اشتد الصراع بين الدول العظمى وبدأت مرحلة التحولات في النظام العالمي، هذه التحولات التي ستفقد خلالها الولايات المتحدة هيمنتها المنفردة. مما يعني بالضرورة ازدياد حاجتها لإسرائيل، من اجل حسم هيمنتها الكاملة على الشرق الأوسط، خلال عملية تقاسم النفوذ العالمي بين الدول العظمى. ولكن من جهة أخرى سيكسب الشعب الفلسطيني داعمين له. وسيدخل العالم في مرحلة توازن الى حد ما، كان مفقودا خلال الهيمنة الامريكية.

هذا ما كان عليه الوضع عشية عملية "طوفان الأقصى".

عملية "طوفان الأقصى" - 7 أكتوبر 2023.

حماس وضعت خطة متقنة بإحكام، لاقتحام الحدود ومهاجمة الجيش الإسرائيلي في عدة مواقع محيطة بقطاع غزة. وايقاع الخسائر بينهم واسر عدد كبير من الجنود، والاستيلاء على مخازن الحواسيب التابعة للجيش والمخابرات. ونجحت في تحقيق أهدافها بسهولة. وتفاجأت بالانهيار السريع للجيش الإسرائيلي امامها.

ما حصل في ذلك اليوم من مشاركة مجموعات من فصائل أخرى بعد انهيار الجيش الإسرائيلي المحيط بقطاع غزة. لم يكن ضمن الخطة ولكن يمكن فهمه. اما خروج اعداد كبيرة من المدنيين في غزة بعد الانهيار ومهاجمة مدنيين إسرائيليين واخذ رهائن منهم فقد فاجأ الجميع. وما فاجأ حماس والعالم اكثر من ذلك، هو قيام الجيش الإسرائيلي عندما بدأ بالرد على العملية بعد ساعات، القصف العشوائي الذي قامت به الطائرات والدبابات الإسرائيلية على المهاجمين وعلى مواطنيهم الإسرائيليين المدنيين والعسكريين وأوقع فيهم الكثير من الضحايا.

هذا ما حصل يوم 7 أكتوبر.

التوقيت

حدة الجرائم التي ارتكبتها اكثر حكومة متطرفة في تاريخ إسرائيل ضد المدنيين الفلسطينيين وضد الأماكن المقدسة لدى الشعب الفلسطيني بمسلميه ومسيحييه.

انقسام داخلي حاد في المجتمع الإسرائيلي وبين الأحزاب السياسية وبين العلمانيين والمتدينين المتطرفين.

تشكيل ميليشيات وعصابات من المستوطنين الإسرائيليين في الضفة الغربية المحتلة وتسليحهم ودعمهم من الحكومة والجيش، حيث قامت هذه المليشيات بجرائم فظيعة من قتل للأطفال الفلسطينيين وحرق احياء كاملة والاعتداء على المدنيين اثناء تنقلهم على الطرق.

الاستمرار في توسيع المستوطنات وهدم بيوت الفلسطينيين.

الاستمرار في اعتقال اعداد كبيرة من الفلسطينيين وتعذيبهم وخاصة الأطفال وإبقاء الكثير منهم رهن الاعتقال دون محاكمات.

الصمت الدولي على كل ذلك، واستمرار الدعم الأمريكي اللامحدود لهذه الجرائم. وحماية إسرائيل من أي محاسبة قانونية او سياسية. بل ومنع التضامن السلمي مع الشعب الفلسطيني في أمريكا وأوروبا، مثل حملة المقاطعة او انتقاد إسرائيل والايديولوجيا العنصرية الصهيونية،  وتجريم هذا التضامن قانونيا.

انشغال الدول الامبريالية الغربية بالصراع مع روسيا في اوكرانيا.

تخلي عدد من الأنظمة الحاكمة في الدول العربية عن مواقفها التي لم تكن كافية أصلا، وهرولتها لتطبيع علاقاتها السياسية والأمنية والاقتصادية مع إسرائيل.

عدم قيام السلطة الفلسطينية بعمل منتج او ذات قيمة اتجاه كل ذلك.

التحولات في النظام العالمي

النتائج

إعادة قضية الشعب الفلسطيني وتحرره الى اجندة المحافل الدولية والإقليمية وهذا تحقق بشكل غير مسبوق.

تغيير صورة الجيش الإسرائيلي (الذي لا يقهر) ما يؤثر على ثقة الإسرائيليين بأمنهم ويحد من هجرة يهود مضللين جدد للاستيطان في فلسطين ويفتح المجال للهجرة المعاكسة.

التأثير على ثقة الدول الغربية بان إسرائيل قادرة على حماية مصالحهم في الشرق الاوسط.

استنهاض الداعمين للشعب الفلسطيني للتحرك ضد جرائم إسرائيل .

الحد من هرولة بعض الدول العربية ودول من العالم الثالث على إقامة علاقات مع إسرائيل على امل انها قادرة على حمايتهم ودعمهم.

تفاعلات العملية ادت الى فضح إسرائيل بانها نظام ابارتهايد يرتكب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية ويجب التصدي له.

فضح حكومات الولايات المتحدة وأوروبا الداعمة والحامية لنظام الابارتهايد الإسرائيلي امام شعوبها والعالم. واظهارها على حقيقتها العنصرية الاستعمارية وان كل ما تدعيه عن احترامها للديموقراطية وحقوق الانسان مجرد أكاذيب.

الرد الأمريكي الإسرائيلي

إسرائيل أصيبت بصدمة كبيرة. كون غرور وعنجهية القوة جعلها لا تتوقع قيام الفلسطينيين بهكذا عملية لم تحصل من قبل منذ تأسيسها، ولان هذه العملية خلخلت كل الأسس التي بنت إسرائيل وجودها وسمعتها عليها. جاء ردها كالمجنون الفاشي الذي فقد عقله، واعتبرت انها فرصة لتهجير كل الفلسطينيين من قطاع غزة الى مصر، من خلال قتل وابادة اكبر عدد منهم، فقصفت قطاع غزة من الجو والبر والبحر. بعد تصريحات علنية لرئيسها ورئيس وزرائها ووزير دفاعها وغيرهم بان كل الفلسطينيين يتحملون المسؤولية وانهم حيوانات بشرية وعليهم دفع الثمن، وذهب احد وزرائهم ابعد من ذلك حين طلب القاء قنبلة نووية على سكان قطاع غزة. واعلن وزير الدفاع الإسرائيلي قطع الماء والكهرباء والطعام والوقود عن سكان قطاع غزة البالغ عددهم حوالي مليونين وثلاثمئة الف مواطن.

وحين جاء الرد الأمريكي ومعه دول الاتحاد الأوروبي والناتو سريعا، بمنحها ضوء اخضر وشيك مفتوح لتفعل ما تشاء. وايدها بالمطالبة بتهجير الفلسطينيين من غزة الى مصر (بحجة حماية المدنيين)، واكثر من ذلك وبشكل غير مسبوق سارع رؤساء أمريكا والدول الأوروبية التابعة لها ووزرائهم بالحضور الى إسرائيل. واطلاق التصريحات بان من حق إسرائيل ان تدافع عن نفسها. ونقلوا بوارجهم العسكرية الى الشرق الأوسط وارسلوا خبرائهم العسكريين الى إسرائيل للمشاركة في الجرائم. وحضر الرئيس الأمريكي ووزرائه اجتماعات مجلس الحرب الإسرائيلي والحكومة الإسرائيلية واصبحوا كأنهم هم من يدير العدوان على غزة. وسخروا وسائل الاعلام الامريكية والغربية لبث الأكاذيب على مدار الساعة. بل وشارك الرئيس الأمريكي نفسه بترديد هذه الأكاذيب وكأن الإدارة الامريكية تركت كل العالم واصبح شغلها الشاغل إدارة العدوان الإسرائيلي على الشعب الفلسطيني والمشاركة فيه.

هذا شجع إسرائيل لتزيد من جرائمها بشكل يفوق التصور. فوسعت القصف ليشمل مقرات الأمم المتحدة التي لجأ اليها الأطفال والنساء، ومقرات المؤسسات الدولية وكذلك المستشفيات ودور العبادة الإسلامية والمسيحية. وبدأت بالدخول الى شمال القطاع بريا، وفي نفس الوقت شن الجيش الإسرائيلي ومليشيات المستوطنين هجوما على الفلسطينيين في الضفة الغربية المحتلة، واغلقوا كل الشوارع المحيطة بالتجمعات السكانية واعتقلوا ما يقارب ثلاثة الاف فلسطيني وقتلوا اكثر من مئتين وهدموا بيوتا واحتل المستوطنون أراضي فلسطينية مجاورة لمستوطناتهم. استمر ذلك 47 يوما قبل التوصل الى هدنة إنسانية. قتلت إسرائيل وامريكا خلالها ما يقارب العشرين الف فلسطيني اكثر من نصفهم من الأطفال والنساء، ولا يزال حوالي خمسة الاف منهم تحت انقاض البنايات المدمرة، وجرحت اكثر من عشرين الف اخرين، وارغموا تقريبا نصف سكان شمال قطاع غزة على الرحيل الى جنوبها.

هذا الاندفاع الأمريكي الغربي أدى الى الاعتقاد بان الولايات المتحدة تريد استغلال الفرصة وتوسيع الحرب لتشمل دولا أخرى كي تقضي على قوى المقاومة في المنطقة وتضعف ايران خاصة وان هذه القوى في لبنان والعراق واليمن وسوريا نفذت عمليات ضد إسرائيل والقواعد الامريكية في المنطقة.

بعد الأسبوع الثاني من العدوان على غزة أصبحت المظاهرات والنشاطات المناصرة للشعب الفلسطيني والمطالبة بوقف العدوان بمئات الالاف، في مختلف عواصم ومدن العالم، وخاصة في الولايات المتحدة وأوروبا الغربية واستمرت وزادت اعدادها، إضافة الى التحركات الجماهيرية الواسعة في بعض الدول العربية،  وتبع ذلك بعض التصريحات لقادة دول غربية فيها تراجع ما عن دعمهم المطلق لإسرائيل، ووجهوا انتقادات ومطالبات لإسرائيل بالالتزام بالقانون الدولي الإنساني. وكان ملاحظا ان الدول الأوروبية فشلت فشلا ذريعا في تطبيق القوانين التي سنتها سريعا في بداية العدوان، بهدف منع مواطنيها من التعبير عن رفضهم لجرائم إسرائيل ودعمهم للشعب الفلسطيني.

كل ذلك جعل الولايات المتحدة تشعر بخطورة ما يجري على مصالحها ومخططاتها الاستراتيجية في المنطقة. وعلى بعض الأنظمة العربية التابعة لها، وعلى مكانة إسرائيل في الدول الأوروبية بل وفي أمريكا نفسها. وأصبحت تتخوف من اتساع رقعة القتال وامتدادها لدول أخرى في المنطقة، دون معرفة الى ماذا ستؤدي في ظل تصاعد عمليات محور المقاومة من لبنان واليمن وسوريا والعراق ضد إسرائيل والقواعد الامريكية في المنطقة، إضافة الى خسائر إسرائيل البشرية والاقتصادية. خاصة وان أصواتا من داخل المؤسسات الرسمية لديها بدأت تعلو منتقدة موقف الإدارة مما يجري، ومحذرة من خطورته على مكانتها الدولية وفي الإقليم. فبدأت بالتراجع التدريجي والعمل على عقد هدن إنسانية متتابعة توصل الى توقف القتال. كي يتسنى لها التفرغ لإعادة ترميم إسرائيل. والتخلص من حكومتها المتطرفة التي أصبحت تشكل خطورة على إسرائيل نفسها، وعلى المصالح الامريكية. وفي نفس الوقت إعادة ترميم السلطة الفلسطينية. والحصول على فترة تهدأ فيها الأوضاع كي تستطيع العودة لمواصلة إدارة الصراع وتقوية إسرائيل.

الان هناك فترات هدنة متتالية ستوصل الى وقف العدوان، كما هو واضح من المواقف المتتالية للإدارة الامريكية، وهي المقرر وليس إسرائيل، حتى لو لم يعلن وقف مباشر لاطلاق النار بعد انتهاء فترات الهدنة فان العودة للقتال ستكون بشكل استعراضي يتباطئ سريعا الى ان يتوقف.

ماذا بعد؟!

إسرائيل

عقول ومفكرو التخطيط في الحركة الصهيونية يعرفون ان بقاء ومستقبل إسرائيل مرهون بقدرتها على خدمة الامبريالية العالمية. وهذا مرهون باستمرار الهجرة اليهودية وعدم السماح باي وضع يؤدي للهجرة العكسية،  وكل ذلك مرهون بقدرتها على استكمال التطهير العرقي للفلسطينيين وتهجيرهم خارج فلسطين، وهم منذ تأسيس دولة إسرائيل وحتى هذه اللحظة، كل ما يقومون به في كل المجالات هدفه المخفي هو التطهير العرقي. ويعرفون ان بقاء الفلسطينيين بالملايين وتكاثرهم داخل فلسطين، حتى لو لم يقوموا باي فعل ضد إسرائيل يقصر في عمر إسرائيل. ويعرفون أيضا ان العالم المعاصر لا يسمح بالتهجير القسري الجماعي. بمعنى ان مشروعهم برمته محكوم عليه بالفشل على المدى البعيد، لذلك هم دائما يبحثون عن حلول مؤقتة متتابعة تطيل في عمر دولتهم، وتسمح بالتهجير الناعم وان كان بطيء. والحد او التخفيف من الاضرار التي تحدثها المقاومة الفلسطينية.

جاءت عملية طوفان الأقصى لتوجه لمشروعهم اقسى ضربة يتلقاها منذ تأسيسه. بتأثيرها في كل المجالات وفي كل العالم، هذا التأثير الكبير جدا الذي لم تكن حماس تتوقع حدوثه بهذا الشكل. لذلك اسرائيل الان سترضخ للولايات المتحدة لتنهي هذه الحرب،  طبعا ستحاول تحقيق بعض المكتسبات مثل البقاء في أجزاء من شمال قطاع غزة لبعض الوقت، وعدم الرضوخ كليا لمطالب حماس في تبادل الاسرى. ومحاولة إبقاء الحصار قائما على قطاع غزة، والضغط على مصر للسماح للفلسطينيين المحاصرين في جنوب القطاع للهجرة، والضغط على دول أخرى لاستقبالهم. والاستمرار في الاستيطان في الضفة. ولكنها ستنقاد لما تقرره الولايات المتحدة في كل ذلك، لانها بحاجة ماسة لإعادة ترميم وتأهيل نفسها داخليا وخارجيا.

فهي بحاجة لصرف المليارات والعمل بجهد غير مسبوق لتغيير الرأي العام العالمي الذي انقلب ضدها بشكل لم يكن يتصوره احد. وفي الشرق الأوسط هي بحاجة ماسة لإعادة وضع قطار التطبيع مع الدول العربية على السكة، وهذا لن يكون سهلا وبحاجة لجهد امريكي أوروبي كبير. ونقطة هامة أخرى ان هذه الاحداث اثبتت من جديد ان إسرائيل ليست دولة مستقلة ذات سيادة، بل هي أداة وقاعدة للولايات المتحدة ومعسكرها.

الولايات المتحدة الامريكية.

تختلف الولايات المتحدة عن الدول الأوروبية الغربية الرأسمالية، فتلك الدول تحكمها حكومات تمثل الطبقة البرجوازية وترعى مصالحها، ولكنها في نفس الوقت محكومة بقوانين تعطي حقوقا للمواطنين، في العمل والسكن والرعاية الصحية والكثير غير ذلك،  بينما الولايات المتحدة منذ الانهيار الاقتصادي في بداية الثلاثينيات من القرن الماضي قررت تحويل المواطنين الى مستهلكين، بدون حقوق كالتي في أوروبا. وأصبحت بالتدريج امبراطورية تملكها الشركات الاحتكارية الضخمة وتفرض على حكومتها ما تريده من قوانين وتتحكم في وسائل الاعلام وفي التعليم.

هذه الإمبراطورية تأهلت بعد الحرب العالمية الثانية لتتويج نفسها قائدا للعالم الرأسمالي ولاحقا للعالم، وخلال فترة الصراع الشديد بينها وبين المعسكر الاشتراكي، الذي امتد من فترة انتهاء الحرب العالمية الثانية الى وقت انهيار الاتحاد السوفياتي والمنظومة الاشتراكية، تمادت في التباهي بالديموقراطية وحقوق الانسان والحريات الفردية والجماعية وحرية التعبير عن الرأي المطلقة. لكنها طبعا كانت مسيطرة على كل الوسائل الكفيلة بعمليات مسح الدماغ والتحكم في الرأي العام.

بعد انهيار الاتحاد السوفياتي بدأ يتكشف زيف هذه الادعاءات التي لم تعد بحاجة اليها.

هناك مقولة ماركسية تقول ان النظام الرأسمالي يحفر قبره بيده وهي صحيحة، وتقصد بالأساس في الناحية الاقتصادية والسياسية، هنا سأتحدث عن الناحية الثقافية والاجتماعية.

التطور التكنولوجي الرأسمالي في مجال الاتصالات والانترنت حوّل العالم الى قرية صغيرة. وأفقد الحكومات القدرة على التحكم في الوصول الى المعلومات. وظهر ذلك اثناء حكم ترامب ولاحقا اثناء القضية الأوكرانية، وجاءت عملية طوفان الأقصى في فلسطين وما تبعها من عدوان وجرائم إسرائيلية أمريكية متوحشة ضد الشعب الفلسطيني، في اوج التطور في وسائل الاتصال والتواصل وفقدان الامبريالية قدرتها في السيطرة عليها. واتقان المناصرين للعدالة والحقوق الإنسانية والقانون استخدامها للوصول الى أوسع قطاعات شعبية في العالم وخاصة في أمريكا وأوروبا. مما أدى الى انقلاب كبير في الرأي العام بسرعة قياسية، وهذا افقد وسائل الاعلام المتحكم بها من الحركة الصهيونية وحكومات وشركات العالم الرأسمالي قدرتها على السيطرة على الرأي العام. وكل هذا أدى الى طوفان من المتظاهرين في عقر دار الدول الرأسمالية يطالب بوقف الحرب ووقف دعم جرائم إسرائيل.

الولايات المتحدة الان امام تحديات كبيرة، خاصة وانها في خضم صراع عالمي سيؤدي بالضرورة الى فقدانها التفرد في الهيمنة على النظام العالمي، وسيعيد تقاسم النفوذ بين الدول العظمى. ووضع داخلي خطير ومتدحرج في أوساط الرأي العام الأمريكي، ممكن ان يتطور ليصبح ضد مجمل السياسة الخارجية الامريكية،  كذلك هناك خطورة من اتساع صراعات داخلية عرقية ودينية وطبقية.

لذلك هي الان اكثر من أي وقت مضى بحاجة الى إسرائيل الصهيونية القوية لاعادة تشكيل الشرق الأوسط، ورص صفوف اتباعها فيه. وعليه ليس امامها الا القيام بخطوات تؤمن لها الهدوء على الساحة الفلسطينية:

إيقاف الحرب باقل خسائر ممكنة لإسرائيل. والعمل على اصلاح الوضع الداخلي فيها بالتخلص من المتطرفين والفاسدين.

العمل على اضعاف حماس وفصائل المقاومة وتجفيف منابع الدعم لها حتى لو تطلب الامر عقد صفقات مع ايران وفي لبنان.

إعادة هيكلة السلطة الفلسطينية واخراجها بحلة جديدة تابعة لها بشكل مبطن، للحصول على فترة تهدئة للأوضاع لفترة كافية تؤمن لها مواصلة ادارة الصراع.

التحكم اكثر بالأنظمة العربية التابعة لها، وتأهيلها للقيام بأدوار ترسمها لها وهذا يتطلب تحسين الوضع الاقتصادي في الدول الفقيرة منها لتفادي أي تحركات وتمرد شعبي.

العمل مع كندا وأستراليا ودول أوروبية والسعودية ودول الخليج العربي لتأمين فرص عمل برواتب مغرية في هذه الدول وفي أمريكا نفسها للفلسطينيين من قطاع غزة ومن الضفة الغربية، بهدف تهجير اكبر عدد منهم.

تغليف كل ذلك بعنوان انها تعمل على حل للقضية الفلسطينية يؤدي الى قيام دولة فلسطينية (هذا طبعا ليس هدفها) الى جانب إسرائيل، من خلال مفاوضات بحلة وأساليب جديدة مع سلطة فلسطينية، ولن يكون هناك مانع لديها ان تكون حماس جزء منها، ولكن حماس التي ستواصل أمريكا العمل على اضعافها وتغيير جوهرها بمساعدة اتبعاها في المنطقة، وستستخدم قطر والسعودية ومصر والأردن وتركيا الى اقصى حد في ذلك وخاصة قطر.

في خضم كل هذه العملية ستقوم بتقوية علاقاتها مع تركيا واعطائها دور إقليمي اكبر لتساعد في إنجاح هذه العمليات المتلاحقة.

هل سينجحوا في ذلك؟! لا اعتقد

الشعب الفلسطيني

عملية طوفان الأقصى اثبتت ان الشعب الفلسطيني لا يتوقف عن النضال مهما كانت الظروف التي يوضع فيها، وانه كلما فشل في تحقيق التحرر والاستقلال من خلال شكل معين من النضال او أداة معينة، فانه يجد اشكالا جديدة وأدوات جديدة، ولم يتوقف عن ذلك منذ الاحتلال البريطاني بعد الحرب العالمية الأولى وحتى الان.

الشعب الفلسطيني لن يقبل أي قيادة تفرض عليه ولن يعترف بأية قيادة غير منتخبة.

تقوية اطر فصائل الثورة كلها (السياسية والاجتماعية والثقافية)، وليس فقط خلايا مسلحة وهذا يتطلب من حماس مواصلة التحول الى حركة وطنية منفتحة على الجميع،  كل هذا يساعد في التصدي للمخططات الامريكية بفرض قيادة على الشعب الفلسطيني.

تسخير كل الإمكانيات لدعم صمود المواطنين في الوطن والحد من الهجرة.

تعزيز العلاقات مع الشعوب العربية والعمل على قطع الطريق امام أي محاولات لتطبيع العلاقات مع إسرائيل  لإبقائها منبوذة في المنطقة والضغط لقطع العلاقات القائمة.

بناء تحالفات وعلاقات قوية مع كل الحركات العالمية المناصرة للشعب الفلسطيني. 

التركيز على الساحة الامريكية والأوروبية للمحافظة على الزخم غير المسبوق في الرأي العام الرافض لجرائم إسرائيل والداعم لحقوق الشعب الفلسطيني، لتحويله من تعاطف انساني في معظمه الى فعل سياسي. وهذا يتطلب من الفلسطينيين والعرب هناك إيجاد لوبي منظم وفاعل لمواصلة العلاقة وتقويتها مع هؤلاء للتأثير في المجتمع وعلى البرلمانات والحكومات، ومن الضرورة بمكان ان يقيم هكذا لوبي علاقات تحالف قوية من المؤسسات اليهودية المعادية للصهيونية، والذين كان لهم دور فعال ضد جرائم إسرائيل وفي التحركات لدعم الشعب الفلسطيني خلال هذه الجولة، فهم اكثر اطلاعا من غيرهم على الوضع، بحكم ان هذه الجرائم ترتكب باسمهم. وكذلك للتأكيد على حقيقة ان الشعب الفلسطيني يناضل ضد الصهيونية والاحتلال ولا يعادي اليهود.

الضغط الشديد في كل العالم لملاحقة مجرمي الحرب الإسرائيليين في المحاكم الدولية وخاصة المحكمة الجنائية الدولية فالفرصة هذه المرة اقوى من سابقاتها.

هذه الجولة ليست الأخيرة ويجب الاستفادة من كل التجارب السابقة، ودراسة هذه الجولة خاصة واستخلاص الدروس منها.