أما آن الأوان للتخلي عن الأوهام ؟ّ - بقلم: نعيم الأشهب

2013-04-03

أما آن الأوان للتخلي عن الأوهام ؟ّ

يقال أن بني البشر ثلاثة ، أولهم من يتعلم من تجارب غيره ، بينما ثانيهم لا يتعلم الاّ من تجاربه الخاصة ، أما ثالثهم فلا يتعلم لا من تجاربه ولا تجارب غيره ، فمن أيهم عسانا أن نكون ؟! مضى قرابة العشرين عاما ونحن ندور في الحلقة الشيطانية للمفاوضات العبثية مع المحتل الاسرائيلي ، بالاشراف الأميركي حصرا ، وليت الحصيلة كانت جمودا مكاننا – مع أن التاريخ لا يعرف الجمود – بحيث نراهن حينئذ على عنصر الزمن وتبدل الأحوال ، بل كانت الحصيلة تقهقرا متواصلا لنا ، يوازيه تقدم حثيث للاحتلال ، الذي لم يتوقف لحظة عن عملية قضم ما تبقى من الأرض الفلسطينية واقامة المزيد من الاستيطان الكولونيالي – الصهيوني فوقها ، حتى راح البعض منا يفقد الأمل بهدف اقامة الدولة الفلسطينية المستقلة فوق أراضي حزيران 1967، ويراه شعارا خاويا بلا مضمون.

وخلال هذه السنين العجاف ، التي عانى شعبنا خلالها من صنوف الاضطهاد والاذلال ، كان رهان دعاة هذه المفاوضات يقوم على عمليات تبدل الساكن في البيت الأبيض أو الانتخابات الاسرائيلية المتكررة ، وكأن الحرية تأتي هبة من المحتل أو سنده الأساسي ، وأن الأمر متعلق بتغير الوجوه لديهم! وحتى الانتصارات السياسية التي حققناها على الساحة الدولية كتقرير غولدستون وقرار محكمة العدل الدولية ضد جدار الفصل العنصري ، وأخيرا العضوية المراقبة لفلسطين في الأمم المتحدة ، حولناها الى مجرد أيقونات معلقة على الجدار ! مما خلق الانطباع ، لدى العدو والصديق على حد سواء ، أن خطواتنا في هذا المجال هي لمجرد المناورة وليس لتصعيد الصراع مع الاحتلال واقحام المجتمع الدولي في معركتنا معه ، ووضع حد لمحاصرة قضيتنا العادلة في الاطار الأميركي – الاسرائيلي .

بينما ، بالمقابل ، اتقن التحالف الأميركي – الاسرائيلي التعامل الناجح مع هذه المناورات ، بخاصة وقد أدرك هذا التحالف ، ومنذ البدء ، نقطة الضعف ، أو كعب أخيل ، لدى الطرف الفلسطيني ، والمتمثلة بالحاجة الى المال ، للسلطة وجهازها المتضخم ، الذي أقيم قبل قيام الدولة ، على قاعدة وضع العربة قبل الحصان! فأصبح ردهم الناجح ، حتى الآن ، على أي محاولة للتحرك الجاد لنا خارج الحلبة الأميركية – الاسرائيلية ، هو المحاصرة المالية ، لشلّ هذا التحرك واجهاضه ، بما في ذلك تجميد مستحقاتنا التي تجبيها اسرائيل على البضائع الواردة الى مناطق السلطة الفلسطينية عبر الموانيء الاسرائيلية ، وكذلك المال العربي الذي تتحدد حركته على ايقاع التحرك الأميركي – الاسرائيلي في هذا المجال . واذ أعلنت واشنطن ، هذه الأيام ، عن دفعة جديدة من المال للسلطة الفلسطينية ، عقب زيارة أوباما ، وأعلنت أسرائيل في الوقت ذاته الافراج عن الأموال المحجوزة لديها ، تحرك المال العربي - القطري بشكل خاص – متماهيا مع التحرك الأميركي – الاسرائيلي في هذا المجال .

ومن الواضح أن المال الذي تدفق من مصادر متعددة ، بعد احتباس وتعصير ، انما جاء كمؤشر واضح على الرضوخ لمطلب العودة للدوران في حلقة المفاوضات أياها! وهكذا يتحول المال لتأمين استمرار وازدهار جهاز السلطة المتضخم ، ولا سيما الأجهزة الأمنية التي تستنزف لوحدها 38% من ميزانية السلطة الفلسطينية ، والمكرسة في الأساس لخدمة التنسيق الأمني مع الاحتلال ، بينما قضية الأرض التي هي لبّ الصراع مع المشروع الصهيوني الكولونيالي منذ البدء لا يتجاوز نصيبها من ميزانية السلطة الواحد بالمئة .. نقول : تحوّل هذا المال الى الهدف الأساس! بينما قضية الوطن وحريته تحوّلت الى مجرد وسيلة لتأمين تدفقه ! ومن المؤلم أن هذه المعادلة المقلوبة على رأسها ، لم تعد محنة السلطة وحدها ، بل تسري كذلك ، على التنظيمات السياسية في الساحة الفلسطينية ، يمينها ويسارها ، ما دامت نظّمت حياتها ونشاطها على أساس ما يصلها من فتات هذا المال!

والمفارقة المثيرة أن العودة للمفاوضات ستجري مع أكثر حكومة يمينية في تاريخ اسرائيل ، السيطرة فيها لتيار المستوطنين ، الذين يعلن وزراؤهم ، على رؤوس الأشهاد ، أن بقية الأرض الفلسطينية هي أيضا لهم بموجب الحق الالهي ! أما الرئيس أوباما " الراعي" الأميركي ، فقد تجاوز في تحيّزه لاسرائيل من سبقه من الرؤساء الأميركيين ، ولم يتوقف عند تنكره لأقواله السابقة بخاصة حول الاستيطان الكولونيالي الاسرائيلي في الأراضي الفلسطينية المحتلة ، الى حدّ اللجوء للفيتو لمنع ادانة هذا الاستيطان في مجلس الأمن الدولي ؛ بل تبنّى ، في زيارته مؤخرا لاسرائيل ، الأسطورة الدينية اليهودية حول حقهم التاريخي في فلسطين ! بل وذهب أبعد من ذلك حين ردد ، أكثر من مرة ، تبني شعار نتنياهو الاستفزازي حول " يهودية " دولة اسرائيل . ومعروف أنه برغم الاعتراف المتبادل بين دولة اسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية في اتفاقات اوسلو ، فان نتنياهو هو أول من طالب الطرف الفلسطيني الاعتراف " بيهودية" دولة اسرائيل ، لينسف أية فرصة لتسوية النزاع الاسرائيلي الفلسطيني ، لما يعنيه ذلك من اسقاط حق اللاجئين في العودة سلفا، والتهديد باقتلاع من بقي في أرض وطنه من الشعب الفلسطيني ، بعد النكبة داخل اسرائيل ، وأصبحوا يمثلون – كما هو معروف – عشرين بالمئة من سكانها .

وعلى كل حال ، اذا كان ما يزال هناك ، في الساحة الفلسطينية ، من يعتقد ، بعد كل التجارب المريرة السابقة ، بامكانية تحقيق هدف أقامة الدولة الفلسطينية المستقلة عن طريق ضغط واشنطن على اسرائيل ، دون أن يكون هناك تهديد حقيقي للمصالح الأميركية في المنطقة يرغمها على ذلك ، فهو ليس فقط واهم ، بل ولا يدرك طبيعة العلاقة الأميركية – الاسرائيلية ، وخصوصا ما طرأ عليها من تطورات في المرحلة الأخيرة . كان أوباما قد أعلن في كلمته عقب اعادة انتخابه للدورة الثانية ، ما معناه التخلي عن لعبة الحروب . وكان هذا حصيلة الاخفاقات العالية الكلفة ، في المال والرجال ، للحروب العدوانية التي شنتها الولايات المتحدة بجيوشها ، من حرب فييتنام الى غزو افغانستان ، فالعراق ، وما أصاب الولايات المتحدة من تقهقر متواصل ، لا يتوقف ، في قوتها وامكاناتها على النطاق العالمي ، كما في الشرق الأوسط أيضا . لكن هذا التحوّل ليس في الأهداف ، بل في الأدوات والوسائل ، لا أكثر ولا أقل.

وفي اطار هذه الأدوات والوسائل ، ومنها خوض الحروب بالوكالة وتزايد الاعتماد على الطائرات بلا طيار، يتزايد الاعتماد الأميركي على اسرائيل ، وبخاصة في الشرق الأوسط ، وقد عبر عن ذلك أوباما بوضوح ، حين أشار، حال وصوله الى اسرائيل مؤخرا ، الى مغزى اختياره اسرائيل لتكون محطته الأولى ، في زيارته للمنطقة ، في فترة ولايته الثانية ، وتأكيده من جديد على الالتزام الأميركي بتفوق اسرائيل عسكريا على جميع جيرانها . وتأكيده ، هذه المرة ، على "يهودية" دولة اسرائيل ليس من باب الصدفة ، كما أنه ليس مجرد مؤشر على تماهي واشنطن مع أقصى اليمين الصهوني في رفع شعار التطهير العرقي هذا ، بل نابع من حرص واشنطن على " نقاء" اسرائيل اليهودي ، لتظل قادرة على القيام بدور الشرطي في حراسة ليس فقط المصالح الأميركية في المنطقة ، وانما كذلك الأنظمة الموالية لواشنطن فيها ، وهذا الدور راح يجهر به بعض الحكام العرب ، ولو في مجالسهم الخاصة .

والسؤال : الى متى يتواصل هذا الركض وراء السراب الخادع ؟ هل حتى تنفق الضحية – أي قضيتنا الوطنية ؟ ألا يمثل الاصرار على هذا النهج الفاشل بالتجربة المريرة المتكررة نوعا من العجز المطلق الذي يلامس الاستسلام ؟!

من جانب آخر، ألا يستدعي هذا المأزق المصيري التداعي لعقد مؤتمر وطني شامل وطاريء ، تتمثل فيه جميع قطاعات الشعب الفلسطيني في الداخل والخارج ، يطرح بديلا وطنيا مشرفا ، وعمليا في الوقت ذاته ، لهذا النهج الفاشل ، ويبلور تصورا واقعيا وجادا لاستعادة الوحدة الوطنية ، يخرج هذه القضية المفصلية ، التي يراهن أعداء الشعب الفلسطيني على استمرارها وتعمقها ، من اطار الصراع الفصائلي بين فتح وحماس ، ويصعد نضال شعبنا في الداخل والخارج بكل الوسائل المتاحة ، ضد الاحتلال ، ويصوغ نهجا نضالياا في العلاقة مع العالم العربي خاصة ، غير محصور في الجانب الرسمي مع الأنظمة وانما يفعّل العلاقة الكفاحية مع الشعوب العربية التي تمر اليوم في حراك غير مسبوق لتغيير واقعها المزري والمأزوم ، وفي الوقت ذاته ، يفعّل جميع الأدوات الدولية التي غدت في أيدينا ، بما فيه الاسراع بالانتماء الى مختلف مؤسسات الأمم المتحدة ، وفي المقدمة محكمة العدل الدولية ، والمباشرة الجريئة في مقاضاة سلطات الاحتلال على جرائمها المتصاعدة ضد شعبنا ، بدءا بالاستيطان وانتهاء بقضية اسرارنا المعذبين ، وبهذا نقحم المجتمع الدولي بأسره للانغماس في قضيتنا العادلة ، ونخرجها من الأسر الأميركي – الاسرائيلي القاتل . فالعلاقة الجدلية بين قضيتنا الوطنية والمجتمع الدولي تشترط تحركنا الجاد لصالح قضيتنا أولا ، ليأتي تحرك هذا المجتمع تضامنا معها ، وليس العكس . وكما يقول المثل الشعبي : " الله لا يستمع لساكت " !

3/4/2013