سمات المرحلة الراهنة، ومهمات قوى اليسار، والديمقراطية - بقلم: محمد الحنفي

2010-11-18

سمات المرحلة الراهنة، ومهمات قوى اليسار، والديمقراطية

الكاتب: محمد الحنفي

في البداية، لا بد أن أتوجه بالشكر العظيم إلى منبر الحوار المتمدن، الذي يطرح محاور تستدعي التحفيز المعرفي، وتحرض على العمل على سبر أغوارها، حتى تصير واضحة في أذهان المتتبعين، الذين تنتقل عبرهم إلى وجدان الجماهير، من أجل أن تتحول إلى واقع قائم.

وفي بداية معالجة هذه المحاور، نجد المحور المرتكز على طرح السؤال:
ـ ما هي المهمات الأساسية التي تواجه قوى اليسار، والديمقراطية، في الشرق الأوسط في المرحلة الراهنة؟

والذي يمكن اختصار في موضوع:
"المرحلة الراهنة، ومهمات قوى اليسار"
وموضوع كهذا يقتضي منا عرض:
1) سمات المرحلة الراهنة.
2) التحديات المرحلية، والإستراتيجية، التي تواجه قوى اليسار.
3) ما هي مهمات اليسار المبنية على أساس تلك التحديات.
4) الخطوات المطلوب إنجازها قبل الشروع في إنجاز المهمات المطروحة.


سمات المرحلة الراهنة؟
والمرحلة الراهنة، كما يمكن أن يرصد ذلك أي متتبع، تتميز بمجموعة من السمات التي تعلن عن نفسها دونما حاجة إلى بذل مجهود فكري مضن. وهذه السمات تتمثل في:
1) الهيمنة الرأسمالية / الهمجية العالمية على المستوى العالمي، مما يجعل الحيف الاقتصادي يستهدف الطبقة الوسطى، التي صارت تندحر في اتجاه الانسحاق، والالتحاق بالطبقات الاجتماعية المسحوقة.

2) هيمنة عولمة الاقتصاد الرأسمالي تحت يافطة عولمة اقتصاد السو ق، الذي صار يعتمد كسلاح لمهاجمة كل أشكال الملكية العامة، التي أريد لها أن تسمى ب "ملكية الدولة"، بما في ذلك تلك التي لها علاقة بالخدمات الاجتماعية المجانية، كالمدارس، والمستشفيات، وغيرها، من أجل تقوية الآليات التي تعتمد للهجوم على القوت اليومي للجماهير الشعبية الكادحة، وتجميع الثروات الهائلة في أيدي قلة قليلة من البورجوازيين الكبار، الذين يتحكمون في الشركات العابرة للقارات.

3) تحكم الولايات المتحدة في القرار السياسي العالمي، عن   أن البورجوازية الكبرى المتحكمة اقتصاديا في الولايات المتحدة الأمريكية، وعلى المستوى العالمي، تعمل على تكريس نهب ثروات العالم، وفي مقدمتها الثروات النفطية، التي يسمونها بالذهب الأسود، حتى وإن أدي الأمر إلى القضاء على الأنظمة المعارضة لسياستها، وإيجاد أنظمة موالية لها، كما حصل في أفغانستان، وفي العراق، وكما يمكن أن يحصل في أي نقطة من العالم، وخاصة في إيران.

4) الارتفاع المهول لأسعار النفط، الذي تجاوز كل الحدود، بسبب احتكار الشركات الأمريكية العابرة للقارات لتوزيعه على المستوى العالمي، مما أدى الى ارتفاع جميع المنتجات الاستهلاكية المختلفة، التي لها علاقة باستهلاك المشتقات النفطية، مما يلحق أضرار كبيرة بالقدرة الشرائية للجماهير الشعبية الكادحة.

5) التراجع المهول للحركة النقابية التي لم تعد قادرة على تاطير العمال، وباقي الأجراء، من أجل تحقيق مطالبهم المادية، والمعنوية، مما يؤدي إلى المزيد من الانقسامات التي صارت تعاني منها هذه الحركة.

6) تراجع دور الجمعيات الحقوقية، والثقافية، والتربوية، أمام الازدياد المخيف لما صار يسمى بالجمعيات التنموية، التي تساهم في إفساد الحياة الجمعوية، وخلق المزيد من الانتهازيين.

7) تراجع الحركة السياسية المستقلة عن الأنظمة اللا ديمقراطية، واللا شعبية، في الدول المتقدمة، والمتخلفة على السواء، نظرا لإفساد الحياة السياسية التي صار يتحكم فيها لوبي امتلاك الثروات الهائلة، وخاصة في البلدان الموسومة بالتخلف.

8) انحسار دور ما تبقى من الدول الاشتراكية، نظرا للحصار الاقتصادي، والإعلامي، والثقافي، والسياسي المضروب حولها، بهدف إرغامها على التخلي عن الأخذ بالنظام الاشتراكي، كما حصل مع المعسكر الاشتراكي بقيادة الاتحاد السوفيتي السابق.

9) تراجع دور الأحزاب الديمقراطية، أمام عودة الدول إلى الاستبداد، في جميع أنحاء العالم، بما في ذلك الدول التي تدعي رعاية الديمقراطية، وتطورها، وتطويرها، باسم محاربة الإرهاب، وأوجدت قوانين خاصة بإعادة الاعتبار إلى الاستبداد صارت تسمى بقوانين الإرهاب، التي تم تعميمها على جميع الدول.

10) تراجع دور اليسار ،وتنكر العديد من مكوناته السابقة للأسس التي قامت عليها الحركة اليسارية في الأصل، مما جعل ما تبقى منه ضعيفا، ومحاصرا، داخل دهاليز الوثوقيات، التي كانت، ولا زالت تحكم مساره، والتي تحول دون ارتباطه الجماهير الشعبية الكادحة، وطليعتها الطبقة العاملة.

11) توسع الحركات الظلامية / الإرهابية، وانتشارها في جميع أنحاء العالم، وفي جميع الديانات الكبرى، وخاصة في صفوف المؤمنين بالدين الإسلامي، وسعي هذه الحركات الى تأبيد الاستبداد القائم، أو العمل على فرض استبداد بديل، عن طريق اللجوء إلى القيام بالعمليات الإرهابية في هذا البلد، أو ذاك، وعلى المستوى العالمي.

12) غياب التكافؤ في الإنتاج، والاستهلاك، وفي التمتع بكافة الحقوق، وفي التطور الاقتصادي، والاجتماعي، والثقافي، والمدني، والسياسي بين الدول، وبين الطبقات، وبين الجماعات، وبين الأفراد، وفي إطار الدولة الواحدة، بسبب التفاوت بين الدول، وبين الطبقات، وبين الجماعات، وبين الأفراد.

13) سيادة الإعلام الرأسمالي التبعي، الإقطاعي، الظلامي المتخلف، أمام غياب الإعلام الجاد، والتقدمي، الذي قد يقف وراء إيصال وعي معين، ومحدد، إلى الجماهير الشعبية الكادحة.

وهذه السمات، وغيرها مما لم نذكر، هي التي تجعل ميزان القوى في المرحلة الراهنة، تميل لصالح الرأسمالي العالمي، ولصالح تكريس الانتهاكات الجسيمة، ولصالح الطبقات المستفيدة من الاستغلال، ولصالح الشركات العابرة للقارات، ضدا على مصالح الجماهير الشعبية الكادحة، التي لم تعد قادرة على الحصول على قوتها اليومي، نظرا لأشكال الحرمان التي تعاني منها.

التحديات المرحلية والإستراتيجية التي تواجه قوى اليسار:
وبوقوفنا على السمات العامة، التي تطبع المرحلة الراهنة، يمكن أن نسجل أن تلك السمات تساعد على الوقوف على أهم التحديات التي تقف وراء ضعف الفعل في الواقع، من قبل الجهات العاملة على التأثير فيه، من أجل تغييره بنسبة، أو بأخرى، وخاصة عندما يتعلق الأمر بقوى اليسار التي يفترض فيها قيادة عملية التغيير تلك، التي تتخذ أبعادا ديمقراطية، واقتصادية، واجتماعية، وثقافية، وسياسية.
ومن أهم هذه التحديات نجد:
1) غياب التحديد الصحيح، والعلمي، لمفهوم اليسار، مما جعل العديد من الجهات المتواجدة في الساحة، وخارج الحكم، أو في الحكم، محسوبة على اليسار، مع أنها في ممارستها الإيديولوجية، والسياسية، والتنظيمية، لا تخدم مصلحة الجماهير الشعبية، وطليعتها الطبقة العاملة، بقدر ما تخدم مصالح الجهات المستفيدة من الاستغلال، وخاصة، الطبقات الحاكمة، ومن يسبح في فلكها من التحالف البورجوازي الإقطاعي، والبورجوازية الصغرى، واليمين المتطرف، وكل من يدعم تكريس الاستغلال، ويحارب إمكانية الوعي بخطورته.
2) وانطلاقا من غياب التحديد الصحيح والعلمي لليسار نجد أنفسنا أمام طرح السؤال:
ما هو المفهوم الصحيح، والعلمي لليسار؟
إن الكثير من المحللين، والمتتبعين، يتعامل مع كل من تبنى أفكارا توحي باليسارية، على انه يسار، وهذا التعامل الفضفاض، غير المحدد، وغير المبني على مقاييس معينة، هو الذي رسخ، في الواقع، تنظيمات يسارية متجانسة، أو متقاربة، أو متناقضة في معظم الأحيان، وهو ما ينعكس على الجماهير الشعبية الكادحة، التي تصير، بسبب ذلك، مفتقدة للتوجه الصحيح، الذي تحتكم إليه في نضالاتها المطلبية: الاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية، والمدنية، والسياسية، الهادفة إلى تغيير واقعها المادي، والمعنوي.

وحتى نقف على حقيقة اليسار الذي يواجه التحديات القائمة في الواقع، لا بد من القول:
إن اليسار هو الذي يأتي كإفراز لواقع يزخر بالصراع الطبقي في مستوياته المختلفة.
وإن هذا الإفراز يشكل نقيضا رئيسيا للطبقة الحاكمة.
إنه يعتبر في ظل التشكيلة الرأسمالية التبعية، والرأسمالية ممثلا، ومدافعا، وقائدا لنضالات الجماهير الشعبية الكادحة، وطليعتها الطبقة العاملة.
إنه يقتنع بالاشتراكية العلمية كوسيلة، وكهدف.
إنه يقيم تصوره لما يجب أن يكون عليه الواقع على أساس التحليل الملموس، للواقع الملموس.
إنه يسعى إلى تغيير الواقع تغييرا جذريا، حتى يصير في خدمة الكادحين، وطليعتهم الطبقة العاملة.
إنه يسعى إلى تحقيق الحرية، والديمقراطية، والاشتراكية، باعتبارها أهدافا ترتبط فيما بينها ارتباطا جدليا.


وفي أفق ذلك يحرص على بناء الدولة الديمقراطية، التي هي، في نفس الوقت، دولة الحق والقانون، ودولة علمانية، يتجسد في إطارها فصل الدين عن الدولة.

ويسار من هذا النوع، هو الذي يمتلك القدرة على مواجهة التحديات القائمة في الواقع، وبالطرق العلمية الدقيقة، وعلى أساس برنامج يستجيب لطموحات الجماهير الشعبية الكادحة.

والتحديات القائمة في المرحلة الراهنة، تتمثل في:
1) ترسيخ القول بفشل الاشتراكية، وكأن نضالات اليسار غير ذات جدوى، مما جعل العديد من الحركات التي كانت محسوبة على اليسار تغير جلدها، لتقف إلى جانب الأنظمة الحاكمة في بلدانها، ومن اجل أن تصير جزءا لا يتجزأ من الطبقات الحاكمة، وهذا التحدي يفرض على اليسار الحقيقي العمل على إعادة اعتبار إلى الاشتراكية، من منطلق أنها لم تفشل، لأن الذي فشل فعلا هو التجارب التي كانت محسوبة على الاشتراكية. أما الاشتراكية، فتبقى حلما للكادحين.

2) حرمان الجماهير الشعبية الكادحة من الممارسة الديمقراطية الحقيقية، في مقابل اعتماد ديمقراطية الواجهة، للتغطية على تكريس الاستعباد، والاستبداد، والاستغلال. فمعظم الأنظمة القائمة، إن لم تقل كلها، في البلاد العربية، وفي باقي بلدان المسلمين، ودول بلدان العالم الثالث، هي أنظمة ذات طبيعة رأسمالية تبعية، تعتمد اختيارات لا ديمقراطية، ولا شعبية، تسعى إلى تكريس الاستبداد بالشعوب، من أجل الاستئثار بثرواتها، وتسخير تلك الثروات، لخدمة مصالح الرأسمالي المحلي، والعالمي، من خلال خدمة الدين الخارجي، ومن خلال تمكين الشركات العابرة للقارات من الاستئثار بالثروات الوطنية في كل بلد، ومن خلال خوصصة القطاع العام، الذي يباع غالبا لهذه الشركات، وإلى الرأسماليين المرتبطين بها.
وتحدي غياب الديمقراطية، يفرض على اليسار العمل الدءوب على تحقيقها من خلال:
ا ـ العمل على إيجاد دستور ديمقراطي، يضمن سيادة الشعب على نفسه، مما يمكنه من تقرير مصيره الاقتصادي، والاجتماعي، والثقافي، والمدني، والسياسي، انطلاقا من اختيارات ديمقراطية، وشعبية.
ب ـ العمل على إيجاد قوانين تضمن حرية الانتخابات، ونزاهتها، وتغلق الطريق أمام كل أشكال التزوير الممكنة، التي تساعد الحكام على مصادرة حق الشعوب في تقرير مصيرها بنفسها.

ج ـ إجراء انتخابات حرة، ونزيهة، تتسم بالشفافية الكاملة، وانطلاقا من القوانين المشار إليها، من أجل إيجاد مؤسسات تمثيلية: محلية، وإقليمية، وجهوية، ووطنية، تقوم بمهمة التشريع، وبإفراز الأجهزة، التي تقوم بمهمة التنفيذ.

د ـ إيجاد حكومة من أغلبية البرلمان، تكون مسئولة أمامه، وتقوم بتنفيذ برنامج الأغلبية، المصادق عليها في المجالات الاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية، والمدنية، والسياسية.

ه ـ إيجاد قضاء مستقل دستوريا، وواقعيا، توكل إليه مهمة تطبق القوانين المصادق عليها في المجالس التشريعية، والتي تستهدف تنظيم الحياة العامة، والخاصة، وتضمن سلامة الأشخاص، والممتلكات، والحفاظ على الأموال العامة.

و ـ ضمان تحقيق الحرية، والديمقراطية، والعدالة الاجتماعية، في صفوف أفراد كل شعب من شعوب البلاد العربية، وباقي بلدان المسلمين، أنى كان لونهم، أو جنسهم، أو معتقداتهم، أو لغتهم؛ لأنه بدون حرية، وبدون ديمقراطية، وبدون عدالة اجتماعية، يصير الشعب مستهدفا بالاستبعاد، والاستبداد، والاستغلال، مما يؤدي إلى حدة الفوارق الطبقية، والى تكريس كل أشكال القمع الاقتصادي، والاجتماعي، والثقافي، والسياسي، وإلى جعل الناس لا يستطيعون التعبير من رأيهم فيما يجري، ولا يمتلكون القدرة على تقرير مصيرهم بأنفسهم.

ز ـ تمتيع جميع الناس، بجميع الحقوق المنصوص عليها في المواثيق الدولية المتعلقة بحقوق الإنسان: الاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية، والمدنية، والسياسية، من أجل ضمان إنسانية الإنسان، بدل الحرمان من كافة الحقوق، كما هو حاصل في البلاد العربية، وفي باقي بلدان المسلمين.

و- التزم اليسار بهذه الخطوات المشار إليها، هو الذي يضمن لليسار الارتباط بالجماهير الشعبية المعنية بتحقيق أهداف النضال الديمقراطي، الذي يقوده اليسار.

3) هيمنة الفكر، والممارسة الظلاميين، على وجدان، ومسلكية الجماهير الشعبية الكادحة: الفردية، والجماعية، بسبب لجوء اليمين المتطرف إلى أدلجة الدين، وإلى توظيف تلك الأدلجة، لتكريس الاستبداد القائم، أو العمل على فرض استبداد بديل، مما جعل الجماهير الشعبية تتوهم أن ذلك الاستبداد القائم، أو الاستبداد البديل، هو الدين الإسلامي، الذي يجب الخضوع له أملا في الثواب، ورغبة في الفوز بالجنة، أو تتوهم أن الانخراط في العمل من أجل فرض استبداد بديل، هو عينه "الجهاد"، المقرون بالثواب في الدنيا، والآخرة. وسواء تعلق الأمر بتكريس الاستبداد القائم، أو العمل على فرض استبداد بديل، على أساس أدلجة الدين، فإن الاستبداد، ومهما كان، لا يمكن أن يؤدي إلا إلى حرمان الجماهير الشعبية الكادحة من حقها في التعبير عن رأيها، وفي تقرير مصيرها.

وهذه الهيمنة الظلامية، ذات الطابع الإيديولوجي، تقتضي من اليسار العمل الدءوب، والمتواصل، الفكري، والعلمي، والإيديولوجي، والسياسي، لتفكيك الفكر الظلامي، ولتشريح الممارسة الظلامية القائمة على أساس ذلك الفكر، ولتفنيد الأطروحات الإيديولوجية الظلامية القائمة على أساس ادلجة الدين، حتى تمتلك الجماهير الشعبية المضللة القدرة على مواجهة الفكر الظلامي، وعلى نبذ الممارسة الظلامية، وعلى امتلاك الفهم الصحيح للدين، الذي يعتبر سلاحا أساسيا في مواجهة أدلجة الدين، وفي محاربة الاستبداد القائم على أساس تلك الأدلجة.

4) اعتماد الأنظمة القائمة في البلاد العربية، وفي باقي بلدان المسلمين، علي الشرعية الدينية، مما جعل هذه الأنظمة مفرخة للظلاميين، وللفكر الظلامي، ولأدلجة الدين الإسلامي، التي تقف وراء قيام تطابق تام بين الدين، والدولة، الأمر الذي يجعل الدول في البلاد العربية، وفي باقي بلدان المسلمين، دولا دينية، تحرص كل الحرص على محاصرة كل فكر علماني، يسعى إلى إشاعة ضرورة طرح مطلب فصل الدين عن الدولة، حتى يصير ما لله لله، وما لقيصر لقيصر، كما يقولون.

واعتماد الدول في البلاد العربية، وفي باقي بلدان المسلمين، على الشرعية الدينية، يجعل مهمة عمل اليسار على تحقيق الدولة الديمقراطية، باعتبارها دولة الحق والقانون، ودولة علمانية في نفس الوقت، مهمة صعبة. ولذلك نجد أن عمل اليسار على تفنيد الشرعية الدينية للدول القائمة في البلاد العربية، وفي باقي بلدان المسلمين، من خلال تشريح الاختيارات اللا ديمقراطية، واللا شعبية، التي تخدم مصالح الطبقات المستفيدة من الاستغلال الاقتصادي، والاجتماعي، والثقافي، والمدني، والسياسي، يعتبر من أولى الأولويات، من أجل جعل الجماهير التي تعاني من الاستغلال المادي، والمعنوي، تدرك أن ما يمارس عليها ليس قدرا، بقدر  ما هو من فعل البشر المشكل للطبقات المستفيدة من الاستغلال، في أفق علمنة علاقات الإنتاج، التي تصير مدخلا لعلمنة الحياة الاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية، والمدنية، والسياسية، التي تعتبر شرطا لعلمنة الدولة في كل بلد من البلدان العربية، والإسلامية، من أجل وضع حد لسعي الدول القائمة في البلاد العربية، وفي باقي بلدان المسلمين، إلى اكتساب الشرعية الدينية.

5) حرمان المواطنين في البلاد العربية، وفي باقي بلدان المسلمين، من الحقوق الاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية، والسياسية، كما هي في المواثيق الدولية المتعلقة بحقوق الإنسان، بسبب عدم ملاءمة القوانين، والقرارات، والمراسيم المحلية، والوطنية، مع المواثيق الدولية، مما يجعلها مصدر تكريس، وممارسة مختلف الخروقات الجسيمة لحقوق الإنسان، القائمة في الواقع الاقتصادي، والاجتماعي، والثقافي، والمدني، والسياسي، على أساس تلك القوانين، والقرارات، والمراسيم المستعملة في هذه البلاد. وهذا الحرمان الممارس في الحياة اليومية، وفي جميع المجالات، يفرض قيام اليسار بالعمل على جعل الجماهير، ومن خلال الإطارات الحقوقية بالخصوص، تنخرط في النضال من أجل ملاءمة القوانين المحلية مع المواثيق الدولية المتعلقة بحقوق الإنسان؛ لأن تلك الملاءمة في حد ذاتها، تساهم في تفكيك اعتماد الدول على الشرعية الدينية، خاصة، وأن الناس يدركون، إلى حد كبير، بسبب تلك الملاءمة، أن ما قد يتمتعون به من حقوق، ليس منة من أحد، بقدر ما هو حق إنساني، تقتضي التمتع به إنسانية الإنسان.

6) اعتبار المرجعية الدينية في التشريع، وفي اتخاذ القرارات، وفي إصدار المراسيم، وسيلة لتكريس الاستبداد باسم الدين، مما يؤدي إلى إلحاق حيف كبير بالجماهير الشعبية الكادحة، المستهدفة بالتشريح، وباتخاذ القرارات، وبإصدار المراسيم. ولمناهضة الاستبداد الذي يتخذ بعدا دينيا، يطرح على اليسار فضح الخلفيات الإيديولوجية، والسياسية، القائمة وراء اعتماد الدين مصدرا للتشريع، مما يحول دون استحضار التحولات الاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية، والسياسية، التي تقتضي عدم اعتبار تلك المرجعية، نظرا لارتباطها بشروط لم تعد قائمة. وفضح الخلفيات المذكورة يقتضى المعرفة العلمية الدقيقة بالواقع، في أبعاده المختلفة، وبطبيعة الصراع، وبمستوياته المختلفة، وبميزان القوى، وبالشروط المتحكمة فيها، لأنه بدون تلك المعرفة، التي يبنى عليها برنامج اليسار، يبقى اليسار عاجزا عن الفعل في اتجاه وضع حد لاعتماد المرجعية الدينية.

وهذه التحديات التي لا يمكن الاستهانة بها، هي التي وقفت، وتقف، وستقف أمام ضعف اليسار، أو غيابه جزئيا، أو كليا، عن الفعل في الساحة الجماهيرية، على جميع المستويات: الاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية، والمدنية، والسياسية، وما دامت كذلك، فوضعها في الاعتبار يبقى واردا في برنامج اليسار. وإلا، فان الأمر سيبقى على ما هو عليه، وستزداد التحديات المذكورة استفحالا.

مهمات اليسار المبنية على أساس التحديات المذكورة:
إن وقوفنا على التحديات التي أشرنا إليها في الفقرة السابقة، نجد أن هذه التحديات تفرض على اليسار مهمات صعبة، تقتضي منه القيام بانجازها على أساس تجاوز تلك التحديات، في أفق انخراطه في الفعل المؤدي إلى الارتباط بالجماهير، من أجل إقناعها بالانخراط في العمل اليومي، انطلاقا من برنامج محدد، ومحسوب في الزمان، والمكان، يؤدى إلى تحقيق التغيير المعبر عن طموحات اليسار من جهة، وعن طموحات الجماهير الشعبية من جهة أخرى.

وإذا كان المفروض في اليسار أن يتفاعل مع الواقع تفاعلا يهدف إلى الإمساك بالقوانين المتحكمة في الواقع الاقتصادي، والاجتماعي، والثقافي، والسياسي، من أجل التحكم بتفعيلها في مسار الواقع نفسه، وفق ما تقتضيه مصالح الجماهير الشعبية الكادحة، وفي أفق ضمان تحقيق الحرية، والديمقراطية، والعدالة الاجتماعية، باعتبارها عناوين كبرى، لما بعد تجاوز التحديات، والقيام بالمهمات المطلوبة لأجل ذلك.

فما هي المهمات التي يفترض قيام اليسار بها، بناء على استيعابه للتحديات المذكورة؟
إن اليسار عندما يتحدد مفهومه الصحيح، وعندما ينتظم بناء على اقتناعه الإيديولوجي القائم على أساس الاقتناع بالاشتراكية العلمية، وعندما يستطيع التخلص من التطلعات البورجوازية الصغرى، وعندما يعمل على تنقية صفوفه من الممارسات الانتهازية اليمينية، واليسارية، وعندما يتمكن المنتمون إليه من توظيف قوانين الاشتراكية العلمية في التحليل الملموس للواقع الملموس، وعندما يمتلك رؤيا واضحة عن الواقع العيني لمجال تحرك اليسار في كل دولة من الدول العربية، ودول باقي بلدان المسلمين، فإنه، حينذاك، يستطيع أن يقوم بالمهمات الموكولة إليه، والتي تتمثل في:
1) جعل البشرية تقر، ودون نقاش يذكر، وعلى مدى البلاد العربية، وباقي بلدان المسلمين، كامتداد لما يحصل في العالم، أن الخروج من الأزمات الحادة: الاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية، والمدنية، والسياسية، لا يتم إلا بتحقيق الاشتراكية، باعتبارها حلا للمعضلات الكبرى، وعلى جميع المستويات، وفي جميع المجالات، لأن تحقيق الاشتراكية في مجتمع معين، لا يعني إلا شيئا واحدا، يتمثل في القضاء على الاستعباد، والاستبداد، والاستغلال عن طريق التحرير الشامل للإنسانية، في إطار مجتمع تحترم في إطاره الممارسة الديمقراطية، بمضامينها الاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية، والمدنية، والسياسية، نظرا للعلاقة الجدلية القائمة بين تحقيق الحرية، وتحقيق الديمقراطية، وتحقيق الاشتراكية.

ذلك أن الأزمات الحادة القائمة في العالم، والتي تزداد استفحالا في البلاد العربية، وفي باقي بلدان المسلمين، يقتضي، من اليسار، العمل المتواصل من أجل إنضاج الشروط الضرورية لإعداد الجماهير للاقتناع بالحل الاشتراكي المؤدي إلى تجاوز تلك الأزمات، ذلك الاقتناع الذي يترتب عنه الانخراط في النضال من أجل ذلك، وبقيادة اليسار الحقيقي، الذي حددنا مفهومه في الفقرات السابقة، لأن عدم اقتناع الجماهير بالحل الاشتراكي، سيجعل العمل من اجل تحقيقه مهمة صعبة، قد تقود اليسار إلى الباب المغلق، ولأجل إعداد الجماهير للاقتناع بالحل الاشتراكي، يجب على اليسار:
ا ـ أن يتسم بالوضوح الأيديولوجي حتى يستطيع التأثير في الجماهير المعنية وحتى يكون قادرا على إشاعة إيديولوجيته في صفوفها وحتى تصير تلك الإيديولوجية قنطرة العبور الى الاقتناع الجماهيري بالاشتراكية العلمية والى طلب معرفة مختلف التجارب الاشتراكية من اجل الاستفادة منها لصالح العمل المستمر في أفق تحقيق الاشتراكية.

ب ـ أن يصير تنظيم اليسار محكما، ومنسجما مع اقتناعه الإيديولوجي، سعيا إلى أن يصير قويا، وقادرا على الفعل في صفوف الجماهير المعنية؛ لأنه بدون إحكام التنظيم وفق الأنظمة اليسارية المقررة، لا يستطيع اليسار القيام بالفعل في الواقع كما يجب، ولا يستطيع أن يؤثر في الجماهير الشعبية.

ج ـ أن يكون برنامج اليسار السياسي معبرا عن طموحات اليسار، وعن طموحات الجماهير الشعبية في نفس الوقت، لأنه بدون برنامج سياسي، من هذا النوع، لا تقوم علاقة مع الجماهير الشعبية، ولا يرتبط اليسار بهذه الجماهير، ولا يجعلها تنخرط في النضال من أجل تحقيق الأهداف المحددة في البرنامج السياسي اليساري.

د ـ أن يعد تنظيمات يسارية / جماهيرية، تصير معبرا للارتباط بالجماهير، وبقطاعاتها المختلفة، كما هو الشأن بالنسبة للشباب، والمرأة، والعمال، والمهنيين، والفلاحين، والتجار الصغار، والحرفيين، والأطفال، وغيرهم، ممن يجب الارتباط بهم، بواسطة المنظمات الحزبية / الجماهيرية، التي بدونها يكون ارتباط اليسار الواضح بالجماهير ضعيفا أو منعدما.

ه ـ توجيه مناضلي اليسار إلى العمل في المنظمات الجماهيرية، من أجل الارتباط بأوسع الجماهير، من خلال العمل في النقابات الإقطاعية، والمركزية، وفي الجمعيات الحقوقية، والثقافية، والتربوية، حتى يصير فعل مناضلي اليسار محققا لارتباط اليسار بالجماهير الشعبية الكادحة بالخصوص. وعدم توجيه مناضلي اليسار، لا يمكن أن يؤدي إلا إلى انحسار اليسار، وضعف، أو انعدام ارتباطه بالجماهير المذكورة.

واليسار عندما يحرص على تمثل خصائصه المميزة له، ينتقل من وضعية الضعف إلى وضعية القوة، ويستطيع أن يفرض اقتناع الجماهير الشعبية بالحل الاشتراكي، بدل انحشارها وراء التوجهات المؤدلجة للدين الإسلامي، التي تقوم بأكبر ممارسة تضليلية في تاريخ البشرية، لصالح حماية النظام الرأسمالي العالمي من الخلف، ولصالح قيام الأنظمة الرأسمالية التبعية في البلاد العربية، وفي باقي بلدان المسلمين، وحماية تلك الأنظمة، أو العمل على قيام أنظمة استبدادية أكثر تخلفا مكانها.

2) قيادة اليسار للنضال الديمقراطي، وبالمضامين الاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية، والمدنية، والسياسية، وعلى جميع الواجهات، انطلاقا من برنامج محدد، يهدف إلى إيجاد دساتير ديمقراطية في البلاد العربية، وفي باقي بلدان المسلمين، تضمن سيادة الشعوب على نفسها، وإجراء انتخابات حرة، ونزيهة، انطلاقا من قوانين تضمن وضع حد للتلاعب بإرادة الشعوب، من أجل إيجاد مؤسسات تمثيلية حقيقة، تفرز حكومات مسئولة أمامها، تعمل على تنفيذ البرامج التي تكون في خدمة مصالح الشعوب في البلاد العربية، وفي باقي بلدان المسلمين، تجسيدا لحق كل شعب في تقرير مصيره الاقتصادي، والاجتماعي، والثقافي، والمدني، والسياسي.

3) سيادة العمل الفكري التنويري، الذي يهدف إلى جعل الجماهير الشعبية الكادحة تدرك خطورة التعاطي مع الفكر الظلامي في مستوياته المختلفة، الذي يحرف الفهم الصحيح للدين بصفة عامة، وللدين الإسلامي بصفة خاصة، عن طريق تشريح منطلقات ذلك الفكر، ومنهجه، وأهدافه، والتصدي لأدلجة الدين، من أجل إدخال الشعوب في دهاليز الظلام الإرهابي، الذي يسعى إلى تكريس الاستبداد القائم، أو العمل على فرض استبداد بديل، من أجل جعل الجماهير الشعبية تمتلك القدرة على التصدي للفكر الظلامي، وللممارسة المترتبة عنه، في المجالات الاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية، والمدنية، والسياسية، والعمل على استئصال هذا الفكر الظلامي من الواقع، حتى تزول السدود التي يقيمها أمام إمكانية تقدم، وتطور الشعوب في البلاد العربية، وفي باقي بلدان المسلمين.

4) مقاومة اعتماد المرجعية الدينية من قبل الأنظمة الاستبدادية القائمة في البلاد العربية، وفي باقي بلدان المسلمين، عن طريق اعتبار الدين بصفة عامة، والدين الإسلامي بصفة خاصة لله، ولا يحق لأي كان أن يحتكر الوصاية عليه، أو الكلام باسمه، والنضال في أفق فصل الدين عن الدولة، لإفساح المجال أمام قيام الدولة المدنية، التي يقيمها البشر الذين يعيشون ضمن حدود معينة، والذين يقررون مصيرهم بأنفسهم، باعتبار تلك الدولة ديمقراطية، ودولة الحق والقانون، انطلاقا من الدستور الديمقراطي، الذي يعتبر المرجعية الرئيسية لقيام تلك الدولة، التي تضمن تمتع جميع الناس، بجميع الحقوق، في كل بلد من البلاد العربية، ومن باقي بلدان المسلمين، وبمقاومة اعتماد المرجعية الدينية من قبل الأنظمة الاستبدادية القائمة في البلاد العربية، وفي باقي بلدان المسلمين، يكون اليسار قد دخل في صراع إيديولوجي مع تلك الأنظمة، ودفع الجماهير المعنية إلى الانخراط في ذلك الصراع، الهادف إلى إزالة الأسباب التي تقف وراء مصادرة الحقوق الإنسانية باسم الدين، وعلى جميع المستويات: الاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية، والسياسية، ومن أجل أن يتحرر الناس من دينية الدولة الاستبدادية، التي لا تخدم في العمق إلا مصالح الطبقة الحاكمة، ضدا على مصالح الشعب في كل بلد من البلاد المذكورة.

5) قيادة اليسار للنضال الحقوقي، انطلاقا من المواثيق الدولية المتعلقة بالحقوق الاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية، والمدنية، والسياسية، ومن الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، ومن كافة الاتفاقيات الخاصة، حتى تصير حقوق الإنسان مكفولة لكل المواطنين، عن طريق العمل على ملاءمة القوانين المحلية مع المواثيق الدولية المختلفة، حتى تصير مواثيق حقوق الإنسان معتبرة في الأجرأة اليومية للقوانين المحلية. وقيادة هذا النوع من النضال، يقف وراء نشر الوعي الحقوقي في صفوف مختلف الفئات المتضررة من الممارسة اليومية للمسئولين عن الانتهاكات الجسيمة في كل بلد من البلاد العربية، ومن باقي بلدان المسلمين، لأن نشر الوعي الحقوقي، يعتبر هدفا، ووسيلة في نفس الوقت، ويمكن الأفراد، والجماعات، من امتلاك الوعي بحقوقهم الفردية، والجماعية، كما هي في المواثيق الدولية. وعلى أساس ذلك الامتلاك يجعلهم ينخرطون في النضال اليومي، وبصفة تلقائية، من أجل احترام حقوقهم المختلفة. وقيادة اليسار للنضال الحقوقي، يعتبر مسالة أساسية، سواء تعلق الأمر بالنضال المباشر، أو بالنضال من خلال المنظمات الجماهيرية المعنية بالنضال الحقوقي في مستوياته العامة، والخاصة، لأنه بذلك النضال، يستطيع اليسار أن يرتبط بجميع الفئات المستهدفة بحقوق الإنسان.

وقيام اليسار بانجاز المهام المشار إليها، يلعب دور كبيرا في إقناع الشعوب في البلاد العربية بضرورة العمل على قيام الدولة المدنية، بدل الانصياع للدولة المستبدة، التي تعتبر نفسها دينية، وبضرورة العمل على صيرورة الدولة المدنية دولة ديمقراطية علمانية، تعمل على خدمة مصالح الأفراد، والجماعات، وعلى حماية تلك المصالح، وهو ما يعطي لليسار أهمية خاصة.

18/11/2010

18/11/2010