آن الأوان لتبني استراتيجية فلسطينية جديدة - بقلم: نعيم الأشهب

2010-11-04

آن الأوان لتبني استراتيجية فلسطينية جديدة

الكاتب: نعيم الأشهب

منذ تبني المجلس الوطني الفلسطيني عام 1988 لقرارات الشرعية الدولية، فقدت اسرائيل زمام المبادرة السياسية، وغدت في حالة الدفاع. وكانت قبل ذلك ترتكب مختلف الجرائم بحق الشعب الفلسطيني وهي تتظاهر بالولاء للشرعية الدولية.

وللافلات من هذا المأزق وقيوده، تعتمد اسرائيل، منذئذٍ على:
أولاً- المناورات المتواصلة، بدعم وتغطية اميركية. فالمفاوضات، منذ توقيع اتفاقات اوسلوـ وبخاصة منذ اغتيال اسحق رابين، هدفها من الطرف الاسرائيلي، كسب الوقت، لخلق المزيد من الوقائع فوق الأرض المحتلة، تجهض امكانية قيام دولة فلسطينية مستقلة في الاراضي التي احتلت في حزيران 1967.

ثانياً- الاستثمار المغرض لاخطاء القيادة الفلسطينية، التي لا تعمل، بشكل عام وفق خطة منهجية مدروسة، بل بردود الافعال، الى حدٍ كبير. كان من هذه الأخطاء وقوف القيادة الفلسطينية الى جانب صدام حسين حين غزى الكويت 1990، كما كان من هذه الأخطاء القاتلة الوقوع في الفخ الذي نصبه شارون لاستدراج هذه القيادة الى ساحة المواجهة العسكرية المثالية له، والتي كانت نتائجها مأساوية بكل المعايير.

لكن نتيجة تطورات عاصفة، دولية واقليمية، وفي مقدمتها التورط الاميركي في حروب العراق وافغانستان، وامتدادات الحرب في الأخيرة الى الباكستان، جنبا الى جنب، الى التأثيرات العميقة للازمة المالية – الاقتصادية التي انفجرت العام 2008 في الولايات المتحدة، قبل أن تنتشر في العالم.. كل ذلك أدى الى اصابة الولايات المتحدة بحالة من الارهاق، وخلق المناخ لبروز قوى اقليمية قوية وصاعدة في الشرق الأوسط، تتحدى بثقة متزايدة تكريس واشنطن لاسرائيل كالقوة الأولى والمهيمنة في هذه المنطقة البالغة الأهمية والحيوية للولايات المتحدة ومصالحها الاستراتيجية.

بسبب كل ذلك، غدت الولايات المتحدة بحاجة متفاقمة لمعالجة موجة العزلة والعداء المتصاعدة ضدها لدى شعوب المنطقة العربية والاسلامية، ولا سيما في وقتٍ تسعى فيه لبناء تحالف اقليمي عريض لاحتواء ايران، تمهيداً للسيطرة على بقية بؤر المقاومة للنفوذ الاميركي في المنطقة. وفي اطار هذه الاستراتيجية الاميركية، غدت معالجة النزاع الاسرائيلي – الفلسطيني حاجة اميركية ملحة، عبرّ عن مضمونها الجنرال باترويس، قائد القوات الاميركية في افغانستان، في شهادة له أمام الكونغرس. بمعنى آخر، فالولايات المتحدة تحتاج اليوم، لخدمة مصالحها في المنطقة، وأكثر من أي وقت مضى، الى تسوية النزاع الاسرائيلي – الفلسطيني. وهذه الحاجة يعبّر عنها التركيز والتحرك الدبلوماسي الاميركي الكثيف وغير العادي المكرس لهذا الغرض. لكن واشنطن تريد، حتى الآن، هذه التسوية، مقبولة على حكام اسرائيل الممثلين لأقصى التطرف في اسرائيل. وهذا يفسر لماذا تمارس واشنطن ضغوطها الحقيقية على الطرف الفلسطيني، وتتراجع علناً عن مواقف تعلنها على لسان ارفع مسؤوليها.

ومن الواضح، أن مواصلة واشنطن لهذا النهج حتى الآن، يعود لاعتبارين أساسيين، وآخر تكتيكي عابر، وهي:
أولاً- ضعف موقف القيادة الفلسطينية الحالي، وحصر خياراتها في التفاوض – كما تريد واشنطن، وبالاشراف الاميركي حصراً. هذا من جانب، ومن الجانب الآخر استمرار حالة الانقسام الفلسطيني، الذي يحض عليه التحالف الاميركي – الاسرائيلي من جهة ومن الجهة الأخرى بعض القوى الاقليمية.

ثانياً- احجام النظام العربي، حتى الآن، عن استعمال اسلحته الفعالة، والتي يزداد تأثيرها في ظروف الأزمة المتعددة الجوانب التي تعيشها الولايات المتحدة. وبدل ذلك يهب النظام العربي لنجدة الاقتصاد الاميركي المأزوم، بعقد صفقات سلاح غير مسبوقة في التاريخ بقيمتها التي تصل الى 123 مليار دولار. وحتى الهدف من هذه الصفقات مكرس لخدمة الاهداف الاميركية في المنطقة، وضد مَن تستهدفهم واشنطن، ولا علاقة لها، حتى في الاعلان، والدعاية الاعلامية، بالعدوانية الاسرائيلية.

ثالثاً- أما السبب التكتيكي العابر، فيتعلق بالانتخابات الاميركية المقررة في الثاني من تشرين ثاني، وحسابات الصوت اليهودي.

واذا كانت قد تشكلت ظروف دولية واقليمية راحت تهز، بمزيد من القوة، دور الهيمنة الاميركية على العالم، والهيمنة الاسرائيلية في منطقتنا، فذلك بفضل مقاومة الشعوب أولاً، وتفاقم الصراع والمنافسة بين القوى الدولية والاقليمية ثانياً.

وفي هذا الاطار العام، فإن مناورات ما يسمى باليسار والوسط الصهيوني، منذ اتفاقات اوسلو، قد استنزفت وأفلست ليرثها، اليوم، اليمين بل وأقصى اليمين الصهيوني، في مسعى مكشوف، وأكثر من أي وقت مضى، لاستكمال مقومات المشروع  الصهيوني المستهدف اجهاض المشروع الوطني الفلسطيني المدعوم بالشرعية الدولية. ويبدو هذا اليمين في سباق مع الزمن تحسباً من أن يؤدي تراكم المتغيرات الاقليمية والدولية الى ا لاسهام الفعال في احباط أهدافه.

لكن هذا اليمين يتحدى بنشاطه هذا، العالم والشرعية الدولية تحدياً سافراً – كما بدا في قضية الاستيطان – ويفتح امكانيات غير مسبوقة لتوظيفه في تجنيد المجتمع الدولي لصالح القضية الفلسطينية العادلة. لكن هذا يتوقف على مدى قدرة القيادة الفلسطينية وجرأتها في تصعيد المواجهة مع هذا اليمين الصهيوني من جهة، ونقل المواجهة مع نشاطاته الى الساحة الدولية، وعدم التهيب من هذه المواجهة، ولا التجاوب مع الضغوط الاميركية لمهادنتها.

إن المبالغة في التخوف من تحدي الادارة الاميركية – الاسرائيلية من جهة، وضعف الثقة بالشعب الفلسطيني وقدراته من الجهة الأخرى، هو الذي يفسر الموقف الراهن والمتردد للقيادة الفلسطينية، واحجامها عن السعي الجدي لاختراق الطوق الذي تحدده واشنطن لحركتها والدوران في الحلقة المفرغة للمفاوضات الثنائية كما تريدها واشنطن، والتي هي أشبه بإرغام الحَمَل على الجلوس منفرداً مع الذئب، لمحاولة انتزاع حقوقه من بين أنيابه! بينما المجتمع الدولي يتفرج على هذه المأساة – الملهاة.

والحقيقة التي ينبغي ادراكها، اليوم، أن الأزمات التي يواجهها التحالف الاميركي – الاسرائيلي في المنطقة خاصة، والعالم عامة، لا تسمح له باتخاذ اجراءات جدية ضد القيادة الفلسطينية، تسحباً من انفجارات غير محسوبة في منطقتنا البالغة الهشاشة. وهذا أخشى ما يخشاه اليوم هذا التحالف. لقد شخص هذا الوضع رئيس الاركان الاسرائيلي، غابي اشكنازي، أمام لجنة الخارجية والأمن في الكنيست، قبل شهر بالقول: "إن التغيرات التي أراها في الشرق الأوسط بحجم الحركات العميقة في باطن الأرض، والتي تؤدي الى الهزات الأرضية"، وأضاف: ".. فإن ايران تكافح في سبيل الهيمنة في المنطقة. وفي هذه اللحظة تميل الكفة الى الجهة الراديكالية. ولأول مرة منذ سنوات يتقرر جدول الأعمال على يد ايران وتركيا وليس على يد الدول العربية" (والأصح ليس على يد اسرائيل)، ثم اضاف: "كل اللاعبين يتابعون الوضع، وهذا تغيير عميق ومقلق".

ومعروف، في هذا السياق، أن التحالف الاميركي – الاسرائيلي، توعّد القيادة الفلسطينية وهددها بالويل والثبور إن لم تسحب، في حينه، تقرير غولدستون حول العدوان على قطاع غزة. ولكن حين أعادت هذه القيادة، تحت الضغط الشعبي، تقديم هذا التقرير أمام لجنة حقوق الانسان الدولية، فقد تبخرّت كل التهديدات المذكورة في الهواء.

بمعنى آخر، فالظروف تنضج لاحداث تغيير نوعي في نهج القيادة الفلسطينية، وذلك بالتخلي عن استراتيجيتها الحالية التي تحصر نشاطها في المفاوضات الثنائية العبثية، وتبني استراتيجية جديدة، طابعها الأساسي هجومي وليس دفاعي، وقوامها:

أولاً- تصعيد وتوسيع دائرة المواجهة الشعبية مع الاحتلال، ضد الاستيطان ومصادرة الأرض، والجدار العنصري، وتهويد القدس، ومقاطعة بضائعه التي يوجد لها بديل، وتولي السلطة واجب خلق فرص عمل بديلة للعمال الفلسطينيين العاملين في المستوطنات.

ثانياً- التوجه لاخراج معالجة قضية الاحتلال والحقوق القومية الفلسطينية من الاطار الاميركي المنفرد، ونقله الى رحاب المجتمع الدولي، كالمؤتمر الدولي، والجمعية العمومية ومجلس الأمن، بما في ذلك امكانية الاعلان عن الدولة الفلسطينية في حدود الرابع من حزيران 1967 وعاصمتها القدس العربية. يبرر هذه الخطوة التحيز الاميركي المتواصل وتراجع واشنطن حتى عن مواقف معلنة من ارفع مسؤوليها، كما يشجع على هذه الخطوة، بدء مطالبة بعض الدول العظمى كفرنسا وروسيا وغيرها، المشاركة في معالجة النزاع الاسرائيلي – الفلسطيني.

ثالثاً- تحريك جميع الملفات التي تدين الاحتلال وتعزله وتوسع دائرة الضغوط عليه وتكبيل حركته العدوانية، كقرار المحكمة الدولية ضد الجدار والاستيطان، وتقرير غولدستون حول العدوان على قطاع غزة ومواصلة حصاره، وخرق معاهدة جنيف حول التعامل مع الاراضي المحتلة وسكانها والأسرى الفلسطينيين، وتوسيع دائرة المقاطعة الدولية لاسرائيل وغيرها من الخطوات.

رابعاً- السعي الجدي لاستعادة الوحدة الفلسطينية، وتجاوز الضغوط الخارجية المختلفة المستفيدة من استمرار الانقسام.

خامساً- مطالبة النظام العربي، بلا مواربة، لاستعمال أسلحته الفعالة، لشل التحيز الاميركي الفعال لصالح الاحتلال الاسرائيلي. فالمشروع التوسعي والعدواني الصهيوني لم يكن يوماً ضد الشعب الفلسطيني وحده، ولو أنه يمثل كبش الفداء لصده، ويقف في الخندق الأمامي في وجهه.آن الأوان لتبني استراتيجية فلسطينية جديدة.

4/11/2010