"القدس.. جوهرة الروح".. الأمكنة الساكنة والمسكونة في سيرة محمود شقير

2024-01-07

| عبد الغني صدوق

غالبًا ما نُقابل النّص الأدبي من أمام منافذه الأمامية؛ من الموضوع المطروح للقراءة، يحدثُ هذا بسبب التلقائية أو البداهة، لكنّ الكُتّاب الراسخون يُريّثوننا قليلًا عند أوّل صفحة من نتاجاتهم، بلْ أحيانًا لا ندع من مؤلفاتهم كلمةً إلّا قرأناها، فقط لأنَّنا نُدرك أنّ جُلّ ما كتبوه كنزٌ معرفيّ من العار أنْ نمرَّ عليه مرور الكرام، تقديرًا لحياتهم وتجاربهم الطويلة من جهة، ومن جهة أخرى تقديرًا للكلمة المنتقاة بالحكمة والحصافة.

لقد أنجبتْ فلسطين الكثير من مثل هؤلاء، لا يتسع المجال لعدّهم، لأنَّنا الآن بصدد القراءة في سيرة ذاتية لأديب أريب لا أظن أنّني أختلف مع من قرأ له في وصفه كذلك، مع أنّ الاختلاف لا يفسد للقراءة منفعة، محمود شقير وليد القدس، مبدع تلك الأمكنة الصادرة عن نوفل العام 2020

في ثنايا التمهيد يرخي الشتات أدرانه كحالة ما برح عظماء أرض المعراج أنْ يتخلّصوا منها، لأنَّهم يفكرون، فكان لزامًا أنْ يدفعوا ضريبة التفكير، لأنّ المحتل الغاشم يعي جيدًا ما معنى الصدح بكلمة الحق بواسطة القلم، ونحن مع ناصية المنجز نلاحظ العودة إلى القدس كافتتاح يعرّفنا على مكان الحنين، يقول محمود" فكرّتُ باستئجار بيت، ولم يكن السكن بالإيجار مُستساغًا بالنسبة إليّ؛ جرَّبته وأنا مقيم في شقق في بيروت وبراغ وعمّان. كنتُ أثناء إقامتي في بيت لا أملكه، أظلُّ نهبًا لشعور خفيٍّ بأنني سأغادر هذا البيت ذات يوم إلى جهةٍ ما، فلا اشعر بارتياح".

ويقول الدكتور عبد الرحيم جيران في كتابه الذاكرة في الحكي الروائي" فحتى في الحالة التّي تجد فيها السيرة الذاتية نفسها مواجهة بموقف السخط تُجاه الماضي فإنّها لا تذهب به إلى أكثر من تسجيله كما هو، ولا تتمنّى أن يكون على غير ما هو عليه".

 فمن غير المعقول أن تُوظّف الفانتازيا في كتابة السيرة، ثمّ أنّ فصل لحظات شؤم من سيرة ما يجعل كاتبها في حيرة من أمره، فهل ينصتُ لصوت الضمير الذّي يحثّه على استفراغ عِلل الكتابة، أم يكبت الماضي في الذاكرة وبالتالي يعيق حركة السيرة؟ البوح بحريّة إذن يُعدّ ضرورة في سرد السيرة، لذلك نجد الراوي يخبرنا عن جدّه مختار بعد أنْ قدّمه بطلًا ووصفَه بعناية في سطور" وكان عندما يغضب منّا يحبسنا في ركن الغرفة".

والمتتبِّع للوقائع سيلاحظ أنَّ الجملة الفعلية الباعثة في السيرة حيوية وانشراح، ما تفتأ أنْ تتخلص من الفعلين غادر وعاد بضمير السارد المتّكلم، لقد كان في كلّ قصّة تضمنّتْها سيرة محمود تغيّرات طارئة على الأمكنة التي يهجرها ثمّ يعود إليها بعد أنْ يفعل الزمن فعلته، فالأمكنة زادت في الكتابة قوّة غير قوة اللغة اللينة، إنّ بيروت وعمان وبراغ أمكنة استوعبت الجسد، لكنّها لم تستوعب الروح كما استوعبتها القدس، وهنا نقف عند الجملة التالية" ظلّ الشتات هو السمة البارزة في حياتنا، كلّما التمّ شمل بعضنا ببعض تفرّقنا من جديد".

إنّ نظرية التطور الاجتماعي من البداوة إلى التحضر إلى الانهيار كما قسمها ابن خلدون، جديرة بالكمال لو لم يكن هناك احتلال، لكلّ فرد وظيفته المطلوبة منه، وإلّا حدث خلل في العناصر الغير متكاملة، وهذا الذي نجده في أمكنة شقير، بل أمكنة الأمّة ..، لأنّ كلّ فرد مشغول بتحقيق ذاته، يبحث عن حاجاته الخاصة، ولا عيب في ظلّ الظروف في ذلك، بهذا الصدد يقول السارد" لقد جمّد الاحتلال الإسرائيلي فرص تطوّرنا الاجتماعي والحضاري، وهو المسؤول إلى حدٍّ كبير عمّا نعانيه من تخلّف وقصور ومعاناة".

ولأنّ السفر يفتق الذهن ويضيف لعقل للإنسان معارف ما كان ليداريها في الإقامة، إذ تختلف طباع النّاس وأنماط حيواتهم، نجدُ في السيرة أنّ الكاتب اصطدم في براغ التي يعرفها من قبل بقيّم الرأسمالية المتوحشة، ولقد كانت ثمرة زيارته لها وقضاء سبعة أيام بها كتابه القصصي " احتمالات طفيفة".

وبالرغم من تعدد الأمكنة التي جال فيها محمود، تبقى القدس مسقط الرأس الأوفر حظًا في تداعي الأفكار عبر ذبذبات الحبل السُري المقطوع فيها، بل هي الجوهرة الآتية من الماضي إلى المستقبل، برغم أنّ القدس متشابكة مع خارطة فلسطين ومع الذاكرة المسافرة إلى أمكنة أخرى تتنزّل منها السيرة، ولأنّ اللغة هي التّي تعطي للمكان كينونته، يبدعُ شقير حين وصوله إليها من السويد قبيل الفجر قائلًا" كانت القدس تنام كما لو أنّ كلّ شيء من حولها على ما يرام".

وإذا خُضنا في ركن من أركان الثالوث المحرّم في تشكيل النّص الأدبي على وجه العموم، ثم أخذنا هاته السيرة كجنس له خصوصياته، ونظرنا إلى الدين كعقيدة ثابتة لا تتزعزع بها رؤى الراوي، نستنتج أنّه، لا دين الإسلام ولا النصرانية أو المسيحية يحملون أفكارًا نابذة للعقل، ولكن المنتفعين من السلطة يحجبون النور على العامة إرضاء للسلطة، وخوفًا من سطوة السيف والمشنقة أو الزنزانة، ذلك ما جنى على أنّ مفهوم طاعة ولي الأمر من طاعة الله.

 لقد مرّ محمود على حزب الشعب الفلسطيني الذي كان معاديًا له في بادئ الأمر، نظرًا لأفكاره المتعلقة بالدين وبالقضية الفلسطينية ثم اتضح أنَّ الحزب لا يعادي الدين، هنا يستدل الكاتب بجملة ماركس الشهيرة" الدين أفيون الشعوب"

وإنّه لتوفيق جليّ في عنوان السيرة، تلك الأمكنة، بلدات السواحرة الشرقية، أبو ديس، العيزرية، الطور، سلوان، بلدة العبيدية، بلدة التعامرة، تلّة الفريديس، حيّ الشيخ سعد.. كلّها أمكنة تحمّلت عبء السرد، ولا زالت تتحمّل سرودًا لم تُستنطق بعد، فكلمّا بدأ الليل طقوسه وتنزّلت السكينة إلَّا وتذكر محمود أمّه وهي تراقب هبوط العتمة علي البيوت، يقول بشأن والديه عبارة أنيقة بألفاظ شريفة" كان صوتها، برنّة الحزن الخفيِّ فيه، وملامح وجهها المتجهِّمة، وغياب أبي عن البيت لتحصيل الرزق، يسربّ إلى قلبي حزنًا وخشية.

إنّ هذه السيرة حبلي بالشعر والنّقد والمسرح والمسلسل.. تشابكت فيها الفنون فصارت وثيقة ثمينة لأمكنة عزيزة، يجبُ على القارئ السليم الذوق أنْ يطّلع عليها بعزّة، فيها جبران وغسّان والدرويش وما يستحق الحياة بالقراءة.

وإن ادعيتُ أنّي كتبتُ عن سيرة شقير فقد سلختها، فليست هناك نهاية حتّى عند آخر جملة؛ عند آخر نقطة، ها هو فادي الحفيد الأصغر يؤدي دور الطفل الشهيد محمّد الدرّة في تمثيلية مدرسية، وطفل آخر يركض وهو يؤدي دور والد الشهيد، يختبئ قرب حائط، يتبعه فادي، يختبئ قريبًا من والده، ثمّ تُصيبه رصاصة الأعداء فيرتمي جثّة هامدة.

يقول شقير بألم بالغ إثر هذا المشهد" كم فيها من عذاب حياة الفلسطينيّين؛ بدلًا من أن يستذكر أطفالهم مشاهد للفرح يستذكرون أطفالًا حرمهم جيش الاحتلال من نعمة الحياة!

ومن ناحية الأسلوب، سترى أنّ شقير يملك حديقة فسيحة من أشجار اللغة، يقطف من ثمراتها بالمعروف، يسقيها حينًا من تجاربه، ثمّ ما تلبث إلّا يسيرًا حتّى تجود عليه متى أومأ لها بذلك ومن دون إلحاح، والسِّر واضح في تفانيه مع الكتابة لعقود من الزمن، أمّا المخيّلة المسؤولة الأولى عن السيرة، فيمكن القول أنها أدّت واجبها كما يليق بسيرة استمدّت قوتها من أمكنة وأزمنة متفرقة، وهذا بحدّ ذاته تحدٍّ وانتصار على "نمرود" الكتابة.

يظلّ أمل الكاتب كبيرًا في الحريّة، حرية الوطن، حريّة العروبة، حرية الأجيال التي ستعمّر فلسطين.