الحرب على غزة في رسالتين متبادلتين بين مثقفين عرب وغربيين

2023-12-05

إعداد وترجمة: ماهر الشريف *

وجهت مجموعة من المثقفين من مشرق العالم العربي ومغربه بلغ عددهم 87، كان من ضمنهم شعراء وروائيون وفلاسفة ومؤرخون وموسيقيون ورسامون وممثلون وناقدون أدبيون، في 14 تشرين الثاني/نوفمبر 2023، رسالة مفتوحة إلى مثقفي الدول الغربية تطالبهم فيها بإدانة المجازر التي ترتكبها إسرائيل في قطاع غزة، وتبني موقف يدعم بوضوح حقوق الفلسطينيين الوطنية في أراضيهم. كما تدعوهم إلى إجراء حوار حول هذه القضية، على أساس القيم والمبادئ العليا التي تقوم عليها الحضارة الإنسانية.

فيما يلي النص الكامل لتلك الرسالة:

رسالة مفتوحة من المثقفين العرب إلى المثقفين الغربيين

"في مناسبة المواجهات بين المقاومة الفلسطينية والقوات الإسرائيلية المحتلة في قطاع غزة وحوله، وبعد مواجهات أخرى وقعت في الماضي، كنا بصفتنا مثقفين عرباً نتوقع من المثقفين والكتاب والفنانين في البلدان الغربية أن يدعموا نضال الشعب الفلسطيني من أجل حقوقه الوطنية المشروعة والعادلة.

لكن هذا الدعم جرى التعبير عنه بوضوح، خلافاُ لذلك، من قطاعات الشعوب الغربية المدنية، وذلك من خلال تظاهرات دعم حقوق الفلسطينيين، ومن خلال إدانة ممارسات القمع، والقتل، والاستيطان، والحصار وتغيير المعالم التاريخية والدينية لفلسطين، التي تمارسها إسرائيل في الأراضي الفلسطينية المحتلة.     

كنا نتوقع موقفاً حاسماً من جانب المثقفين الغربيين، الذين ننظر إليهم بصفتهم فئة حيوية تضمن حماية القيم والمبادئ الأساسية التي بنيت عليها الحضارة الإنسانية الحديثة والمعاصرة. إننا نشاطرهم الإيمان بالقيم والمبادئ الإنسانية نفسها، وهي: الحرية، العدالة، المساواة، حقوق الإنسان، حماية الكرامة الإنسانية، رفض التعصب والعنصرية، رفض الحرب والدفاع عن السلام، رفض الاحتلال، الاعتراف بحق الشعوب في استعادة أراضيها المحتلة، وتقرير المصير والاستقلال الوطني.

إن المثقفين العرب الذين وقعوا هذه الوثيقة يدركون الاختلاف الصارخ بين الطريقة التي تنحو فيها الثقافة الغربية إلى الإشادة، نظرياً على الأقل، بهذه الرؤى والتمثلات والمواقف الوفية لسلطة هذه المبادئ، من جهة، والطريقة التي يُترجم فيها موقف معظم المثقفين بالميل إلى دعم المعتدي على حساب حقوق الضحية التي يتم الاعتداء عليها، والتي تعيش في أرض محتلة، فضلاً عن التزام الصمت إزاء الجرائم المتكررة، من جهة ثانية. وهم يدركون، في الوقت نفسه، الفارق الصارخ بين نقطة انطلاق مواقف المثقفين الغربيين  إزاء قضايا العالم الأخرى (ونحن نشاطرهم موقفهم إزاء كل ما يتعلق بالعدالة) ولجوئهم إلى الصمت واللامبالاة تجاه قضية فلسطين وحقوق شعبها في أرضه، وهي الحقوق التي أقرتها قرارات الأمم المتحدة.

وهذا يكفينا كي نؤكد أن هذه الاختلافات الصارخة تُترجم بسلوك ثقافي مؤسس على المبدأ السياسي لـ "المعايير المزدوجة"، الذي ندينه بصفته ينتهك في جوهره مهمة الثقافة والمثقفين.

وإذا كانت السياسات الغربية الرسمية المحابية لإسرائيل والهادفة إلى التغطية على جرائمها، تريد تشويه نضال الشعب الفلسطيني وحركته الوطنية من خلال وصفها بـ "الإرهاب"، فلا يمكن قبول أن يوافق قسم من المثقفين الغربيين على هذا الزعم الكاذب، ذلك لأن السياسيين الذي يشيعون هذا الزعم تكمن وراءهم مصالح لا يجمعها جامع البتة بمصالح شعوبهم ومثقفيهم، ناهيك عن أن اتهام المقاومة ووصفها بـ"الإرهاب" يعد انتهاكاً صارخاً لمبادئ القانون الدولي التي تعترف بحق الشعوب في تحرير أراضيها المحتلة بكل الوسائل المتاحة، بما في ذلك استخدام السلاح. ولن يؤدي مثل هذا الخلط المتعمد بين المقاومة والإرهاب سوى إلى تبرير الاحتلال، والحط من قيمة كل مقاومة مشروعة في التاريخ الحديث، وتشويه المشاعر القومية. فهل يوجد يا تُرى في الأوساط الثقافية الغربية من هو مستعد فكرياً ونفسياً وأخلاقياً للنظر إلى حركات المقاومة القومية الأوروبية ضد النازية والنازيين بصفتها حركات إرهابية؟.

إننا الموقعون على هذه الرسالة، من الكتاب والباحثين والأكاديميين العرب، ندعو زملاءنا من المثقفين والكتاب الغربيين إلى الشروع في حوار حول القيم والمبادئ المشتركة المذكورة أعلاه في هذه الرسالة، وكذلك حول وضع القضية الفلسطينية وحقوق شعبها في التمتع بنتائج هذه المبادئ، من دون استبعاد ولا ظلم من النمط الذي ترتكبه سياسات حكومات البلدان الغربية ويبرره صمت المثقفين.

إننا واثقون أن الوعي الثقافي قادر عل تصحيح الآراء المشوهة والأخطاء التي يقع فيها العديد من المثقفين والكتاب في الغرب، وخصوصاً تلك التي نُسجت منذ زمن طويل بشأن فلسطين، وحقوق شعبها وحركة التحرر الوطني الفلسطينية.

هناك حاجة إلى تصحيح الموقف الثقافي إزاء هذه القضية بالرجوع إلى المبادئ الإنسانية الأساسية: الصراحة والشفافية، بعيداُ عن كل نفاق، وخداع ومعايير مزدوجة. إن هذا هو ما تطمح إليه هذه الرسالة، التي يؤكد موقعوها على الحاجة إلى إلغاء الطريقة التعسفية التي يلجأ إليها العديد من المثقفين في الغرب لدى تطبيقهم قوانين مستندة إلى هذه المبادئ على الشعوب والأمم".  

من بين الموقعين: أدونيس ، الطاهر لبيب، مرسيل خليفة، عبد المجيد الشرفي، محمد برادة، علي أومليل، عزيز العظمة، نصير شما، واسيني الأعرج، نبيل سليمان، بسام كوسا، نبيل عبد الفتاح، جليلة القاضي، وفاء العمراني[1].

رسالة إلى أدونيس وإلى الموقعين على نداء المثقفين العرب

في 24 تشرين الثاني/نوفمبر 2023، وقّع عدد من المثقفين الغربيين، بلغ عددهم في حملة التوقيع الأولى 37 مثقفاً ومثقفة، كان من ضمنهم شعراء، وكُتّاب، وفلاسفة، ومؤرخون، ومسرحيون، وصحافيون، وعلماء اجتماع، وعلماء نفس، وأطباء، وموسيقيون، وأساتذة، وقّعوا رسالة جوابية على رسالة المثقفين العرب، جاء فيها:

"إلى العزيز أدونيس والموقعين،لقد قرأنا الرسالة التي وجهتموها إلى عدد من المثقفين الفرنسيين والغربيين الذين تأخذون عليهم صمتهم الكبير أمام الأحداث المأساوية التي تجري في غزة وفلسطين. ونحن نشارككم قلقكم واستياءكم. إن ما نشهده بشعور رهيب بالعجز هو مذبحة الآلاف من الرجال والنساء والأطفال؛ إنها "جريمة إنسانية" لا يمكن تصوّرها، وفقاً لعبارة الأمين العام للأمم المتحدة الشديدة.

نحن نشارككم القيم الأخلاقية الأساسية للحضارة الإنسانية. ومن الملح فرض وقف إطلاق النار، وإنهاء حظر المياه والكهرباء، وضمان المرور الآمن للشاحنات الإنسانية التي تحاول مساعدة سكان القطاع الفلسطيني المعذبين.

وبغض النظر عن هذا الإلحاح الحيوي، فإن هذه الأحداث الرهيبة تجبرنا على إيلاء ليس العاطفة فقط بل العقل كذلك مكانتهما الكاملة. نعم، نحن في حاجة إلى العقل. ويتوجب علينا بصفتنا مثقفين أن نتحمل مسؤولية الدفاع عن الحقوق مهما كانت الظروف. لقد أثار هجوم حماس في السابع من أكتوبر/تشرين الأول عواطف عميقة في أوروبا، وفي العالم الغربي عموماً، وأيقظ ذكرى المحرقة، مع كل ما يشعر به جزء من الرأي العام الأوروبي من ذنب تجاه هذا الموضوع. ومن المؤسف أن الأعمال الانتقامية التي ينفذها الجيش الإسرائيلي في غزة وما سببته من وقوع الآلاف من القتلى لا يبدو أنها أثارت العواطف نفسها لدى أغلبية وسائل الإعلام الغربية وزعمائنا السياسيين.

ونجد هنا دليلاً جديداً على "سياسة الكيل بمكيالين" التي تهيمن على عالم اليوم. ليس فقط في مجال العدالة، ولكن أيضاً في مجال المشاعر الإنسانية الأكثر جوهرية.

يجب أن نواجه الحقائق: ليس لحياة الفلسطينيين وزن كما لحياة الآخرين، بل وزنها أقل بأكثر من عشر مرات! وهو ما يفضح، على الرغم من تطورات العقود الأخيرة، العنصرية الأساسية التي لا تزال تطبع الفكر السائد في الغرب وتثير استياءنا العميق.

لكن التمرد ضد هذه الأحادية إزاء ما هو بغيض لا يجب أن يقودنا إلى تجنب بعض النقاشات التي ينخرط فيها البعض منا، والتي نريد تطويرها بين الشرق والغرب، وخصوصاً حول تاريخ شعوب وثقافات وأراضي الشرق الأدنى. إننا ندافع معكم عن حق الفلسطينيين، الذين هم من دون دولة ولا جيش حقيقي، في مقاومة احتلالهم الذي تفرضه عليهم دولة وجيشها. في وقت الانتفاضة، كنا حاضرين لدعم هبة الشعب الفلسطيني هذه، وهي الهبة التي تمكنت من حشد جزء كبير من الرأي العام العالمي وتغيير النظرة إلى هذا الصراع الذي لا ينتهي أبداً، جراء "مصالح عليا" للدول الغربية ولكن أيضاً لدول في المنطقة.

يجب أن نفهم أن الكثير من الفلسطينيين يشعرون باليأس ويعانون من شعور قاسٍ بأن الجميع قد تخلى عنهم. فقرارات الأمم المتحدة المتعلقة بالأراضي المحتلة أو بالمستوطنات غير الشرعية لم تعرف أدنى بداية لتطبيقها. ولم تخضع دولة إسرائيل لأدنى عقوبة قط. وبعد كل ما جرى، فإن أي زعيم آخر لبلد ارتكب ما ترتكبه إسرائيل في غزة كان سيلاحق من جانب المحكمة الجنائية الدولية. ومن غير العدل الادعاء بأن كل شيء بدأ في 7 أكتوبر، وذلك عبر طمس النكبة وعقود عديدة من القمع والظلم والاستعمار.

إن الوضع اليوم في أسوأ حالاته، ولا يترك مجالاً لتصوّر مخارج، ليس فقط لأن ميزان القوى العسكرية لا يقارن، ولكن أيضاً لأن الإرادة في السلام لا تتوقف على الشعوب بقدر ما تتوقف على حكامهم الذين يضحون بهم على مذبح إعادة البناء العالمي للنفوذ.

بيد أن ما يبدو من المؤكد هو أنه في نهاية هذه الحرب، لن يكون في الإمكان تصوّر مستقبل الإسرائيليين من دون الفلسطينيين. وإن أي محاولة لحسم هذا الصراع "بصورة نهائية" لن تفضي إلى إنهائه. ويبدو لنا أن الحل الوحيد هو أن نسلك الطريق نحو السلام معاً، وهو طريق صعب ولكنه الطريق الوحيد الممكن.

إن الأراضي التي تشكلها فلسطين التاريخية وإسرائيل هي منطقة صغيرة ولكن سيكون هناك مكان للجميع، بشرط إنهاء العلاقات الاستعمارية والفصل العنصري.

من الواضح أننا نراقب الوضع من بعيد ولا نزعم أننا نفهم كل شيء، لكن يبدو لنا أن الأمل الوحيد الممكن، للفلسطينيين كما للإسرائيليين، هو المسار الذي أشّرت إليه جنوب أفريقيا بقيادة مانديلا وبوتا عندما تحررت هذه الدولة من الفصل العنصري: الاعتراف بالحقوق المتساوية للجميع. لقد فقد حل الدولتين، الذي دافعنا عنه دوماً، مصداقيته إلى حد كبير بسبب الطريقة التي تم بها تحريف اتفاقيات أوسلو وانتهاكها. ومع أنها تظل، بلا ريب، نقطة العبور الوحيدة الممكنة حتى اليوم، إلا أنه سيتعيّن علينا، في نهاية المطاف، أن نجد طريقة للعيش معاً؛ ولكي نعيش معاً، سيتعين علينا أن ننبذ كل النزعات القومية المتطرفة، ونزعات التعصب الديني، والسلطات الثيوقراطية والعنصرية، ونتفق على العيش في دولة مختلطة، لعلها تكون فيدرالية وديمقراطية وعلمانية، كما طُرح في زمن معين ليس ببعيد. كن على يقين، أيها العزيز أدونيس، ومعك الأصدقاء من مثقفي العالم العربي، أن التزامنا بأن يتم الاعتراف بحقوق الشعب الفلسطيني لن يضعف أبداً، وأننا ندرك العمل الشاق الذي انخرطنا فيه منذ فترة طويلة جداً كي نسمع للصامتين، وحتى للبكم، صوت القانون والعدالة والإنسانية التي تحترم نفسها.

من الموقعين على هذه الرسالة، الشاعر فرنسيس كومب، الفيلسوف إيف فارغاس، الكاتب جاك لانسييه، المسرحي جيرار آستور، الموسيقية كلوديا كريستيانسن، الصحافي والمؤرخ دومينيك فيدال، السينمائي اليوناني إرو سيافلاكي[2].

* باحث ومؤرخ - مؤسسة الدراسات الفلسطينية - بيروت.