| وليد العوض*
مصطفى سالم فتى في الخامسة عشر من عمره، ينطلق صبيحة كل يوم من مركز "استيعاب" النازحين الذين دمرت منازلهم ودفعتهم وحشية العدوان لمغادرتها بحثاً عن مكان يوفر لهم الأمان، بعد ان يسأل الأسر المقيمة في المكان عن كل ما يحتاجونه من مستلزمات الحياة اليومية، يمتطي صهوة دراجته الهوائية بشجاعة نادرة، مخترقاً الأزقة التي يحفظها عن ظهر قلب غير أبهٍ بالخطر الذي تحمله في أي لحظة قذيفة دبابة أو صاروخ طائرة أو رصاصة قناص.
تراه تارةً يصل لأطراف مخيم الشاطئ الشرقية غرب المدينة، لإجلاء عمته وأطفالها الذين عَلقوا في منزلهم خلال اقتحام جيش الاحتلال للمخيم، وتارةً أخرى ينطلق برباطة جأش لأقرب صيدلية لشراء علبة دواء نفذت عند مرض، وتارةً يذهب نحو الشيخ حي رضوان لإحضار أسطوانة غاز من أحد البيوت لإحدى الأسر كي تتدبر أمورها، وتارةً يساعد في جمع الحطب والكرتون للخبز.
وكما ينطلق كالسهم على فرسه السمراء نحو شارع الصحابة، لشراء أي احتياجات تطلبها بعض الأسر المقيمة في المكان من مستلزمات متواضعة لاستمرار الحياة، كملح الطعام وصلصلة ومعكرونة وقليل من أرز وطحين من بقايا ما تحتفظ به بعض الدكاكين في الازقة، ويحمل على دراجته غالون ماء فارغ، على أمل أن يعود به ممتلئاَ إن أمكن من محطة مياه بعيدة ما زالت تعمل بين فترة وأخرى.
مصطفى هذا الفتى الفلسطيني الغزي، لوحته شمس غزة لكثرة تردده قبل الحرب على ميناء غزة، ليصطاد السمك، فغدت سَمرته تشبه تراب فلسطين، وعيناه تلمعان كعيني صقر يحلق في أعالي السماء، يَقبل بخجل ما يمكن أن تقدمه له أي أسرة من بضعة شواقل ليس أجراَ، بل تشجيعاً ومكافئةً لما يقوم به من عمل شجاع.
مصطفى هذا نموذج لفتى جريء، عندما تعرض مركز الإيواء وما جاوره يوم الرابع عشر من نوفمبر الجاري لقصف شديد وزخات كثيفة من الرصاص، جاء لاهثاً يجر عربةً لاستخدام نقل ماء الشرب، مردداً أن هناك جريحاً ملقى على الشارع سأعمل على نقله لأقرب مركز طبي. فعل مصطفى ذلك بكل شجاعة، وعاد مبتسماً قائلاً: لقد أوصلته لقسم الطوارئ في مستشفى الصحابة والباقي عليهم.
مصطفى هذا كأي فتى طموح يحاول أيضاً الاستفادة من كل فرصة لتوفير مصروفه اليومي، تجده يذهب لميدان فلسطين وسوق فراس وسوق الزاوية وشارع الصحابة وساحة الشوا تحت الخطر ليشتري بعض الاغراض المتواضعة من مواد غذائية وسجائر وحليب وبسكويت، ولا ينسى شراء أكل عصافيره التي تغرد بانتظار عودته سالماً. مشترياته وحاجاته هذه يحملها بالشنطة على ظهره ليقوم ببيعها بما تيسر للمقيمين في مراكز الإيواء، وهم باتوا يعرفونه جيداً وينتظرون وصوله حيث يلتفون حوله، كلٌ لشراء ما يتوفر معه من حاجات ضرورية لهم، ويوصونه على أخرى لإحضارها في جولته القادمة.
في ساعات المساء، يجلس مصطفى يهمس في أذني متى تنتهي الحرب لقد اشتقت للذهاب للميناء، هذه الأيام موسم الصيد على أشده، كما يتحدث بكل طيبة الأطفال وبساطتهم عن ما فعله اليوم، دون عنجهية أو غرور، يعترف كم دَرت عليه تجارته المتواضعة هذه ربحٍ بسيط رغم الخطر.
مصطفى سالم هذا، مختلف كلياَ عن لصوص الحرب الذين يتسللون تحت جنح الظلام وفي بطن النهار نحو محلات السوبر ماركات والمولات ومحلات الجوالات وخزانات الوقود وحتى إلى البيوت التي هجرها أصحابها وخَلع القصف أبوابها، يسرقون مقتنياتها ويبيعونها بأسعار مضاعفة. كما إنه مختلف أيضاً عن تجار السياسية وأصحاب المصالح الذين يَضعون مصالحهم الشخصية والفئوية فوق مصالح الشعب الذي يئن ويئن وبصمت يقول، لا وقت للعتب.
* عضو المكتب السياسي لحزب الشعب الفلسطيني.