| وليد العوض*
تحت لهيب الحرب المجنونة التي تحرق الشجر وتدمر الحجر وتقتل البشر، هنا في غزة تتطاير أشلاء الناس كأوراق الشجر في فصل الخريف، تملأ الشوارع ترفرف فوق ركام البيوت تصدر أنيناً خافتاً على من رَحل.
في غزة هذه، حتى تعيش عليك أن تصبر حتى الجنون وتصمد صخرة صلدة في وجه إعصار تستعد له في أي لحظة، لمصافحة الموت أو ربما تصارعه وتتغلب عليه في فورة غضب.
في شوارع غزة الخالية وأزقتها الحزينة وجنباتِ ما تبقى واقفاً من مبانيها السكنية وأبراجها الشاهقة، عيك أن تجيد السير بين قذيفتين ورصاصة، لا تنحني فالحياة وقفةُ عزّ.
في غزة التي لا تخاف هدير البحر ولا قذائف السماء، عليك أن تجيد السباحة في بحرٍ من النار وتحلق في سماءٍ تحتله غربان الاحتلال، يمكن أن تخاف، لكن عليك أن لا ترتعش وأن لا يسكنك الرعب فتنهار وتكبلك سلاسل الخوف ويعقد لسانك. السير في حقول الموت شاقٌ ومتعب وخطرٌ، لكنه مبعث للكفاح من أجل الحياة، فلا تفقد الأمل، فالحياة تحترم من يكافح من أجلها، هكذا هو حال شعبنا هنا في قطاع غزة الشامخ من شماله إلى جنوبه، ومن شرقه حتى رمال شواطئه، متمسك بالحياة ومسلحاً بالإرادة والأمل، يواصل السير بين قذيفة وقذيفة، ويعبر من زؤام الموت إلى نبض الحياة، يشنف أذنيه يستمع لسمفونية القصف اليومي، تعزفها آلة الفتك والدمار الصهيونية منذ ستة أسابيع وربما غدت هذه عادة يفتقدها الغزيون إذا ما تأخرت ذات ليلٍ أو نهار.
في غزة المدمرة كليةً، باتت الأخبار مقطوعة إلا ما ندر، الاتصالات مشلولة إلا بمعجزة، وشريان حياة سكانها متوقف إلا منَ بعض الأمل كحقٌ يتمسكون به ولا يساومون عليه، يجترحون المآثر في صحاري الموت بحثاً عن كيس طحين تحت الانقاض، وبضعة لترات من الماء يتحصلون عليها تحت زخات الرصاص من مربعات الخطر، يعيشون النهار رتيباً يَعدون كل شيء، الصواريخ والقذائف والطائرات وهي تجوب السماء.
يسجلون أسماء شهدائهم على لوحة الشرف ويمضون، على أطراف اللهيب المستعر، يمكن أيضاً أن تختلس قيلولة لدقائق أو أكثر تحت ظلال شجرة كينيا باسقة، غُرست في ساحةٍ منذ أكثر من سبعين عاماً، وباتت عصية كما الشعب عن الاقتلاع والتهجير.
في غزة يترقبون بقلق الليل بسواده الكالح وطعمه المالح، يَعدون النجوم التي تحجبها سحب الدخان والغيوم، يرفعون أياديهم للسماء حيارى، تارةً طلباً للمطر حيث تخف وتيرة القصف وتارة أخرى لتأخيره، يخافون البرد والمطر معاَ، حيث لا غطاءً في مركز الإيواء أو حتى سقف وشباك.
في هزيع الليل الغزي، تصبح الحركة في مناطق الاشتباك المباشر أو أطرافها، مغامرة خرقاء، ينتظرها وابل من قصف وأزيز الرصاص المتطاير في كل صوب.
في عتمة الليل يأوي كل غزي إلى ملجأه، الأطفال يرتعشون في أحضان أمهاتهم، الناس يحبسون أنفاسهم وغيرها، يمضون لياليهم على وقع الانفجارات وسحب الدخان ورائحة البارود، بينما أصوات جنازير الدبابات تصطك تطحن شوارع غزة، وكأنها تطحن عظامهم وشظايا القذائف المتطايرة تعصف بأغصان الأشجار وحبات البرتقال، لكنهم ينامون مغمضي عين واحدة، والأخرى تنتظر أن يبكر الصبح وتشرق الشمس.
تترقب الموت وهو قادم اليك، وربما تصارعه لتنجو وتعيش بقوة الإرادة والأمل، وفق قول أبو قاسم الشابي: "إذا الشعب يوماً أراد الحياة فلا بد أن يستجيب القدر".
* عضو المكتب السياسي لحزب الشعب الفلسطيني.