حـواريـةُ سـمـيـح الـقـاسـم الأخـيـرة | سميح محسن *

2023-08-20

حـواريـةُ سـمـيـح الـقـاسـم الأخـيـرة

| سميح محسن *

(1)

(أنا لا أحبّكُ يا موتُ ... لكنّني لا أخافُكَ)

كانتْ يداكَ تَخُطّانِ فوقَ البياضِ مراثيكَ في الموتْ،

وكانَ الجَليلُ العليُّ يُعِدُّ خطاكَ الأخيرةْ،

وكنتَ الذي لم تفارقْهُ يوماً

تودّعُ أشجارَهُ الوارفاتِ بِظِّلِكَ

تضحكُ،

تهزأُ بالموتِ

تغرسُ زيتونةً في جبالٍ تُطلُّ على رملِ غزّةْ،

وغزّةُ، تلكَ التي لمْ تفارقْ دماها عيونَكَ

أعتى القلاعِ التي تقهرُ الموتَ

كانت تُغنّي نشيدَ الحياةِ

وكانَ النّشيدُ نشيدَكْ،

تَعضُّ على جُرحِها كلّما ازدادَ نزفاً

تعاندُ أيامَها،

تقهرُ الموتَ مثلكْ،

وأنتَ تحدّيتَ موتَكْ...

وأنت تُعِدُّ البلادُ خطاكَ

 كأنّكَ، كنتَ تَخُطُّ وصاياكَ في جسدِ الأرضِ

ترسمُ شاماتِها من خُيوطِ الجَليلِ،

تُعلّمُنا مصدرَ الفِعلِ خارجَ نصِّ القصيدةِ

قبلَ الدّخولِ إليها،

وتُصْعِدُنا فجرَها الشّاعريّ،

إلى جبل الجرمقِ العربيّ،

تضيءُ لنا شعلةَ النّبضِ

حينَ تجفُّ ينابيعُ ضوءِ الحقيقة...

كأنّكَ كنتَ تقولُ القصيدةُ: نبعٌ، ونهرٌ، وبحرٌ، وموجٌ، وصوتٌ، وقولٌ، وبوحٌ، وفعلٌ، ونارٌ، ونورٌ، وروحٌ، وريحٌ، هواءٌ، وماءٌ، بلادٌ، وناسٌ

سِهامٌ بوجهِ الغُزاةِ    

قلاعٌ أمامَ الغريبِ

حياةٌ من الموتِ تولَدُ

تنمو كسيّدةٍ في فضاءِ نديّ...

 (2)

أنا ابنُ روحِكْ،

وروحُكَ عَصْفُ البلادِ التي ألبَسْتنا عباءاتِها

ثمّ طافَتْ تُلَقِّنُ أبناءَها حكمةَ السّنديان ...

أيحمي الكلامُ البلادَ من الغزوِ ؟

نسألُ:

أيَّ القِلاعِ سَنَبْني لِنَحمي المَدائنَ

نحرسُ أسماءَها ؟

قلتَ: ذاكرةُ الرّعدِ تحرسُ

رائحةُ الزّعترِ الجَبَليّ

الصُّخورُ

التّرابُ

الرّمالُ

الحقولُ

ولونُ العيونِ

الوجوهُ التي تُشبِهُ الأرضَ في لونِها،   

والكُهوفُ التي أنطَقَتها حكاياتُ أبنائِها،

والنّساءُ اللواتي يُطرّزنَ أثوابهنَّ بخيطِ الحريرِ الدّمشقيِّ

روحُ البلادِ

أغاني الحصادِ

ورائحةُ البحرِ

والأمّهاتُ اللواتي يودّعنَ أبناءَهنَّ بفيضٍ من الأغنياتْ...

أتحمي الأغاني المدائنَ من عبثِ العابثينَ بِها ؟

المدائنُ ذاكرةٌ للبلادِ كأسوارِ عكّا

الأغاني هويّتُها عندما تعصفُ الرّيحُ فيها

لتأخُذَها في المتاهةِ

لكنّها لا تبدّلُ أسماءَها كالزّمان...

لَبستَ العباءةَ يا صاحِبي، وانتفَضّتَ

حملتَ البلادَ وطفتَ

 تُغنّي، فكانَ النشيدُ نشيدَك، 

وفعلُكَ هذا المضارعُ فينا يكون...

(3)

يقولُ المغنّي الذي ألبستهُ البلادُ عباءتِها ذاتَ ليلٍ طويل:

هنا يولدُ الشّعراءُ على مرجلِ النّارِ

تُكْوَى أصابِعُهُم بالحرائقِ

والاشتعالاتِ في مَوقِدِ الشِّعرِ     

لكنّهم يحلمونَ بيومٍ بسيط...

كأن يجلسوا في الحديقةِ

يسقونَ وردةَ جوري بماءٍ نقيّ

ولا يسمعونَ فحيحَ الأفاعي...

كأنْ يجلسوا في المقاهي

ولا يُقحِمونَ السّياسةَ بين الأحاديثِ عن عاشقيْنَ

يغيبانِ خلفَ حِجابِ المَدى، 

كأن يذهبوا للوظيفةِ

ثمّ يعودونَ من غيرِ سُوءٍ

ولا يغرقونَ ببحرِ النّميمة،

كأن يكتبوا ما يريدونَ في الحبّ،

عن زهرَةٍ نَبَتَتْ في الجدار،

وعنْ نخلةٍ صَعَدَت في الغَمامِ لأمرٍ خفيّ

وعن شاطئِ البحرِ في الصّيفِ

وامرأةٍ لا تجيدُ السّباحةَ

لكنّها حاولتْ أنْ تُطَوِّعَ سرباً من الموجِ

أنْ يسرحوا في الجبالِ وراءَ القطيعِ

ويعتكفوا في المغاراتِ كالأولياءِ

ولا يُرجَمونَ بقولٍ على أنّةِ النّاي...  

هنا يحلمُ الشّعراءُ كطفلٍ شقيّ بقطعةِ حَلوى،

كطيرٍ يحلّقُ فوقَ ضفافِ الجداولِ حرّا،

كقلبٍ سليمٍ، يقلّبُ أيامَهُ في الدفاترِ

يبحثُ عن فُسْحَةٍ لاصطيادِ الحياةِ

لينجو من الموتِ حتى اكتمالِ القصيدة...

 (4)

يقولُ المغنّي

أنا لستُ إلا صدى الأرضِ حينَ تئنُّ

تودِّعُ أبناءَها

أو يعودونَ قتلى، وجرحى إليها...

وحينَ تجِفُّ، وأغرقُ بالنّارِ

أسألُ: كيفَ أطوِّعُ تلكَ الغيوم لِتَبكي ؟!

وحينَ يتوهُ عن البيتِ طفلٌ

وتخطفُه الطائراتُ بغمضةِ عينٍ

على شاطئ البحرِ

كيفَ أعيدُ دفاترَهُ للحقيبةِ دونَ نزيفٍ

وأحفظُ مقعَدَه المدرسيَّ

إلى أن يعودَ إليهِ مُعافى،

وحينَ تسافرُ أمٌّ وراءَ السّرابِ

تُناجي سَحابةَ صَيفٍ

بأن يُهْطِلَ الليلُ سرباً من الطيرِ

قُبّرةً من سماءٍ نَضيقُ بأفعالِها...

وحينَ أرى طفلةً سَقَطَتْ

وهي تبحثُ عن نقطَةِ الماءِ

شيخاً توضّأ بالرّمل قبلَ الشّهادة ...

يقولُ المغنّي

أنا لستُ إلا صدى الأرضِ حينَ تئنُّ

أنا لستُ إلا أنا...  

(5)

يقولُ المغني قبيل الرحيلِ الأخير سأتلو عليكَ وصايايّ...

بماذا تُفكّرُ

حين يُغطّي السّماءَ السّواد ؟!

وأنتَ وحيداً تُرتِّلُ سورةَ جُرحِك،

تُبَلّلُ بالماءِ روحَك،

تُبَرّدُ أوجاعَ قلبِكْ،

تُسكِّنُ فيكَ الصِّراعَ

وهيهاتَ تهدأُ روحُكْ،

فالموجُ أعلى من الريحِ

أعتى من الوجعِ النبويّ

كنْ أنتَ إنْ شئتَ تعرجُ

وأعرجْ إلى منتهاكَ المقدّسِ

أنتَ المقدّسُ،

أصلُ الحكايةِ

رتّلْ لوحدكَ

سورةَ جرحِكَ

حتّى تكون...

وحتّى تكونَ

تسلّحْ بذاتِكَ يا أيّها الناصريُّ

تَقَدّمْ، تَقَدّمْ،

ولا تلتفتْ للوراء...

* شاعر وكاتب صحفي فلسطيني