مدرسة في السجن ! - بقلم: عاطف سعد

2010-04-20

مدرسة في السجن !

الكاتب: عاطف سعد

قد لا يصدق القارئ، أن المعتقلين الفلسطينيين نجحوا في وقت مبكر من اعتقالهم بتأكيد احترامهم وتقديرهم للتعليم في استغلال وقت السجن الطويل، بالدراسة والتثقف وتحصيل العلم. ففي مطلع عام 1969، حصلت مجموعة منهم على موافقة مدير سجن نابلس المركزي "ميخائيل  جولان"  باقامة صف تدريسي للمعتقلين اليافعين. وذاع صيت الصف في أوساط المعتقلين في سجن نابلس وغيره من السجون باسم "مدرسة السجن".

من خارج السجن، كان هناك، من يحث ويضغط ويطالب سلطات الاحتلال، مثل رئيس بلدية نابلس آنذاك المرحوم الحاج معزوز المصري،( 1898 -1994 ) بتمكين الفتية والصبايا، ممن اعتقلتهم القوات الاسرائيلية، تأدية فحص التوجيهي، أو امتحان الصف الثالث ثانوي.

وبتاريخ 24 أيار 1969، زار مدينة نابلس، الحاكم العسكري العام للضفة الغربية، الكولونيل فاردي الذي التقى المصري وأعضاء المجلس البلدي. فكان أول طلب تقدّم به رئيس البلدية   أن يسمح الحاكم ل 29 طالبا و 5 طالبات بتأدية امتحان الشهادة الثانوية للعام 1969، وان يسمح لطالبين آخرين بتأدية امتحان الشهادة الأعدادية.

واللافت أن التوافق على "التعليم داخل السجن" لم يتم بتنسيق مسبق بين من هم داخل السجن و من هم خارجه.  

فكان الحاج معزوز المصري يقصد من الطلب منه اشعار الحاكم العسكري العام بأهمية التعليم عند الفلسطينيين وايجاد فرصة للتخفيف عن هؤلاء المعتقلين، فيمكن تكفيلهم أو حتى الافراج عنهم. وكان المناضل المعتقل تيسير قبعة، الذي بادر بطلب انشاء الصف المدرسي يهدف الى تجميع ما أمكن من طلاب معتقلين وتأهيلهم لتأدية الأمتحان ، اذا ما ووفق عليه، بصفته ناشطا طلابيا قبل اعتقاله.

تيسير قبعة ، الذي يشغل حاليا موقع نائب رئيس المجلس الوطني الفلسطيني، كان فعليا مدير المدرسة أمام ادارة السجن. وكان الى جانبه في "طاقم التدريس" التدريس مثقفين وزملاء مناضلين، مثل ساجي سلامة خليل "أبو خليل" وأحمد دخيل الجمل. وكان الثلاثة  قبل اعتقالهم من كوادر حركة القوميين العرب التي انبثق عنها لاحقا تنظيم الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين.  حين اعتقاله في عام 1968، كان تيسير قبّعة رئيسا للأتحاد الدولي للطلبة الفلسطينيين الدارسين في البلدان الأجنبية. وانضم للمجموعة لاحقا، المناضل الفتحاوي عبد الآله الأتيرة (أبو خليل)، الذي تعرض للأسر الاسرائيلي  في اعقاب معركة الكرامة الباسلة التي وقعت في آذار 1968. وكان الأتيرة ،من ضمن أول مجموعة أدت امتحان التوجيهي بنجاح في مدرسة السجن.

غرفة المدرسة كانت منفصلة عن جسم السجن الرئيسي القائم في الجهة الغربية. كانت تقع بالضبط قبالة برج المراقبة وأقرب لمبنى ادارة السجن الواقع في الجهة الشرقية، وتطل على  ساحة الفورة  حيث "يتنزه" المعتقلين مرتين في اليوم لمدة نصف ساعة في كل مرة. وعلى بعد خمسة أمتار من غرفة المدرسة كانت توجد غرفة صغيرة ومقفلة ويسميها السجانين "غرفة المشنقة" غير المستعملة. غرفة المدرسة  كانت تحمل الرقم 14، ويطبق عليها نفس النظام السائد في السجن. لكن "فورة" الساحة أو النزهة اليومية ومدتها نصف ساعة فكانت تتم في ساحة صغيرة مقابلة محاطة بالأسلاك الشائكة.

مدرسة السجن كان لها نظام. يبدأ التدريس فيها بعد تناول وجبة الفطور. وينتهي لذاك اليوم قبل موعد توزيع وجبة الغذاء في الثانية عشر ظهرا. كانت  المجموعة الكبيرة وعددها يتراوح في العادة من 24 -30 معتقلا تقسم الى ثلاث مجموعات تدار على التوالي من قبل تيسير وساجي وأحمد. وكل مجموعة تراجع مادة معينة: رياضيات ، علوم ، لغة انجليزية أو لغة عربية تاريخ  وهكذا.

لم تتوفر كميات كافية من كتب المنهج المقرر. لكن رئيس البلدية وبتعاون وثيق مع مدير التربية والتعليم آنذاك المرحوم رشيد مرعي وبتنسيق من مقرر لجنة الامتحانات في المديرية المرحوم غازي المصري، نجحوا بادخال كتاب واحد عن كل مادة مقررة في المنهاج بواسطة مندوب الصليب الأحمر

لم يكن التدريس اكاديميا مئة بالمئة. ما تيسر من الرياضيات والعلوم  يستوعبه الطلاب المعتقلين. وأحيانا لم يعرفوا كيف يحلون بعض المعادلات الرياضية، فينتقل المدرس لموضوع آخر مثل اللغة الانجليزية  التي كان ساجي سلامة يتقن تعليمها.  

وفي شهر أيلول 1969 أدى الطلاب المعتقلين أول امتحان توجيهي في سجون اسرائيل. وقد خصصت كافتيريا السجن الخاصة بالسجانين لتقديم الأمتحان الذي اشرف على مراقبته مدرسين طلقاء من التربية والتعليم. وبالطبع لم يكن المدرسين صارمين في الرقابة بل كانا متعاونين لأبعد الحدود مع الطلاب المعتقلين اليافعين. واقتصر تعاون المدرسين على تقديم أجوبة ما يعرفونه من مواد. أما المواد التي لا يعرفون عنها فكانا يعتذران عن الأجابة. كانا متعاطفين مع معتقلين اظهروا حرصا على العلم والتعلم  في السجن. وكانت تجربة مثيرة لهما رغم خشيتهما، أحيانا، أن لا يخرجا منه !

استغرقت تأدية الأمتحان سبعة أيام. وبعد شهر ظهرت النتائج : نجح نصف المتقدمين للفحص بمعدلات تراوحت بين 58%-61%. فيما رسب النصف الآخر.  

لكن التجربة كانت ممتعة للجميع. فالسجانين أظهروا احتراما للمعتقلين وللمراقبين. والعبرة الأهم كانت للجميع أنهم كانوا شركاء بتأسيس وعي جماعي بين أوساط المعتقلين الفلسطينيين لأستغلال وقت السجن بالتحصيل العلمي والمعرفي.  

20/4/2010