تناقضات السلطة والأيديولوجيا في قضية الصحافية السودانية لبنى الحسين

2009-09-03

تناقضات السلطة والأيديولوجيا
في قضية الصحافية السودانية لبنى الحسين

قبل أقل من شهر كان الموعد المحدد لجلد الصحافية السودانية لبنى أحمد الحسين، تنفيذاً للحكم الذي صدر بحقها، على خلفية ارتدائها ملابس فاضحة ومخلّة بالذوق العام (وهي الملابس التي ظهرت بها لبنى في الفضائيات، والصحافة العالمية، وكانت عبارة عن بلوزة وبنطال وغطاء للرأس). كان يوم تنفيذ الحكم - بحسب أحد الشهود - مناسبة ليس فقط للمزيد من التحدي والتشبث بالحق في مواجهة الإهانة، بل أيضاً لكشف المزيد من الهشاشة والتشويش والتناقض الذي أصاب السلطة وأربكها.ففي موازاة إعلان يوم الأربعاء 29 تموز (يوليو) موعداً لجلد الصحافية السودانية، كانت هناك جهود متعددة لتسوية الوضع سلمياً مع لبنى؛ منها عفو شخصي من الرئيس عمر البشير، ومنها عرض خاص من طرف رئيس اتحاد الصحافيين السودانيين؛ لكن المثير في الأمر هو أن تلك العروض، كانت بمثابة صب للزيت على النار، للمزيد من الكشف الذي يعرّي طبيعة السلطة. فإذ ظن النظام أن التسوية الخاصة لقضية لبنى عبر إسقاط العقوبة، هي بمثابة مخرج لها وحفظ لماء وجهه، لم يكن يدري أن ذلك الأمر فات أوانه. فالهامش الضيق الذي وضعته فيه تلك القضية بطريقة جعلت من فكرة لها من قوة المواجهة ما يجعله خاسراً ومتناقضاً في كل الاحتمالات، هو الذي حول قضية لبنى إلى قضية رأي عام بامتياز.

ومنطق المواجهة هنا على رغم أنه بدا بمثابة دفاع شخصي طبيعي عن موقف واضح من الحكم، إلا أن التوقيت والشخصية والحالة حولت مسار القضية كما أرادت لبنى إلى ضرب من التفكير والاحتجاج بصوت مسموع على ما هو مسكوت عنه برسم كثير من التقاليد الأوتوقراطية، والنمذجة النمطية المضمرة لطريقة اشتغال السلطة المتواطئة مع السلطة الرمزية لنظرة المجتمع السوداني حيال المرأة في الذاكرة التقليدية من ناحية، وإلى تلك النظرة الأشد قتامة لواقع المرأة الجنوبية من ناحية أخرى، حيث يحضر الكثير من الحيثيات المضمرة كحالات تتغذى على الاختلاف العرقي والديني والأقلوي، ما يجعل من تطبيقات الأحكام المماثلة التي وقعت وتقع على الآلاف من النساء الجنوبيات بمثابة فعل لا إرادي يمر عادياً برسم السلطة وتواطؤ المجتمع.

وهكذا، إذ تصر لبنى الحسين على دعوة الجميع لحضور تنفيذ الحكم، عبر توزيع بطاقات دعوة عامة وعبر وسائل الإعلام، فإنها تعرف تماماً أنها تضع السلطة والنظام أمام حرج او مأزق ضيق لا يترك لهما هامشاً للمناورة.
ما تريد لبنى الحسين، فقط، هو تنفيذ حكم الجلد عليها، لا أكثر ولا أقل.
وإزاء هذا الطلب المحدد تتكشف التداعيات التي يمكن حدثاً مثل هذا أن يعرّيها ويردها إلى الكثير من التناقضات التي درج عليها نظام الإنقاذ، لا سيما في دعواه العريضة حول تطبيق الشريعة، التي استندت إليها لبنى في حيثيات دفاعها؛ فإذ تقضي الشريعة بعدم جواز رمي المحصنات بأمور فاضحة، فإن تنفيذ حكم الجلد على ذلك اللباس الذي ظهرت به في وسائل الإعلام هو بمثابة تهمة ستلتصق بها بقية عمرها، لا سيما في مجتمع تقول أمثاله الدارجة: «السمعة أطول من العمر»؟!

والحال أن لبنى الحسين هنا لا تعيد تعريف او إدانة التأويل الضيق للشعارات الإسلاموية بحسب تصوراتها في رؤوس أهل النظام، فحسب، بل تكشف إلى أي مدى يكون الإقصاء او الإهانة التي تلحق بالآخر المختلف والمعارض بناء على تأويل فردي وفضفاض وغير منضبط لمواد قانونية يتم تطبيقها من أجل الهيمنة والتسلط على الحلقة الأضعف في المجتمع. وهو ما بدا ظاهراً في محاولات النظام من أجل تسوية القضية، عبر إسقاط العقوبة على نحو شخصي.

غير أن سلوك النظام الذي يعكس تناقضاً بيّناً لا يمكن أن يأخذ مساره سلباً أو إيجاباً إلا من خلال نتيجتين لا يرغب في أي واحدة منهما. فإما أن يتم جلد الصحافية لبنى، كما طلبت، وهو ما سيكشف عن الرؤية الضيقة لمفهوم أهل النظام حيال تعريف أوصاف من مثل «الفاضحة» و «المخلّة بالآداب» لتنفيذ حكم جلد بناء على ذلك الزي الذي ظهرت به لبنى، وهي أوصاف لا يمكن أن تستدعيها إلا مخيلة طهورية مشحونة بالخوف من الجسد (الصورة أظهرت أن ملابس الصحافيه التي دينت بسببها لا يمكن أن تكون سبباً لأن توصف بالمخلّة والفاضحة)، وإما أن يتم إلغاء المادة 152 التي تم بموجبها إصدار حكم الجلد على لبنى الحسين واللواتي تمت إدانتهن معها، وهو ما سيعني الاعتراف بخطايا ارتكبها النظام حيال المئات والآلاف من النساء اللواتي تعرضن للضرر المادي والمعنوي بسببها، وما سيجره ذلك الاعتراف من اهتزاز لصورته بطريقة لا يمكنه أن يقبلها؛ الأمر الذي سيؤدي إلى إصدار تأجيلات متكررة لتنفيذ الحكم - كما نرجح - بهدف كسب الوقت كسبب للنسيان، لكن هذا التأجيل من ناحية أخرى - وقد تحولت القضية إلى قضية رأي عام - سيكون بمثابة ذكرى مزعجة للنظام عندما تتجدد في كل موعد جديد، وعندما يتجدد الجدل حولها في الإعلام. وإذ تتقاطع في هذه القضية عناصر متعددة تتصل أطرافها بنقاط التقاء لعبت وسائط الإعلام المعولم دوراً كبيراً في تعويمها على هذا النحو الذي أحرج النظام، فإن الكثير من النتائج الأخرى التي تترتب عليها يمكن أن تكون سبباً لحراك مطلبي وحقوقي كبير، لا سيما في مجال حقوق المرأة، مثل حملة التوقيعات النسوية التي تضامنت مع لبنى، وحوت القائمة فيها كل النساء من صحافيات ومعلمات وربات بيوت وبائعات شاي... ألخ.

ذلك أن هذه القضية وفي هذا التوقيت من عمر النظام، أي بعد عشرين عاماً من تطبيقات الشعارات الإسلاموية المؤدلجة؛ تلك التي تحولت مع الزمن إلى مجرد قشرة لا تنهض حتى للحفاظ على السلطة العارية، تأتي لا لتكشف عن مجرد السلطة العارية، وهي تتخلى عن أجندتها الدعائية فحسب، بل تكشف أيضاً عن هشاشة هذه السلطة في ما تشرعه من القوانين التي تحاول أن تقمع بها الناس، في وقت أثبت مسار البرنامج الأيديولوجي لنظام الإنقاذ تحت شعار تطبيق الشريعة، كم هو متناقض ليس مع طبيعة الواقع الاجتماعي وضغوط الحياة الحديثة فحسب، وإنما أيضاً مع تصورات أصحاب «المشروع الحضاري» أنفسهم.

ظل النظام طوال عشرين عاماً، يرهن باستمرار مكتسبات الحياة السودانية وما ذخرت به من تنوع ومرونة، وقابلية للانفتاح استوت سمة مؤسسة لطبيعة التعدد والتنوع الجميل لنسيج المجتمع السوداني؛ ظل يرهن كل تلك المكتسبات لتأويلات إسلاموية ضيقة طاول حرجها كل نواحي الحياة.
ذلك أنه إذا كانت التحولات السالبة عادة ما تعيد إنتاج نفسها مع كل نظام عسكري، فإن التحولات التي أجريت خلال العشرين عاماً الماضية هي الأسوأ والأكثر ضرراً في مجمل الواقع السوداني. لقد دمرت تلك التحولات الإطار الذي كان يمكن أن يكون قابلاً للإصلاح والذي كانت تدور في داخله كل التحولات السالبة لفساد الأنظمة العسكرية السابقة، أي أن مفاعيل السياسات الأيديولوجية الاسلاموية خلال العشرين عاماً ضربت بنية العلاقات الاجتماعية والسياسية والتعليمية وفتتت نسيجها عبر سياسات انعزالية مؤدلجة كانت حسماً على مهمة الدولة، وبالتالي أدت تلك السياسات إلى إشاعة حالة كيانية عامة أقرب إلى التفسخ والتحلل، أصبحت متروكة لتفاعلاتها السائبة وما يمكن أن ينجم عنها من فوضى في المستقبل.

فـ «المشروع الحضاري» - وهو الاسم الذي سكه نظام الإنقاذ لمشروعه الإسلاموي حين كان الترابي شريكاً في السلطة - دمر مرة وإلى الأبد صورة جنينية للسودان كانت قابلة لأن تكون مشروعاً لدولة الهوية والمواطنة. كان التصور الطوباوي لحسن الترابي وحوارييه في ما خص إصلاح المجتمع عبر التعليم والإعلام بعد الانقضاض على السلطة بالعنف، هو الطريق الملكي للخراب، أي أن «المشروع الحضاري» الذي بشر به حسن الترابي، كان مشروعاً ينطوي على عجز ذاتي بسبب الأيديولوجيا الإسلاموية الانسدادية ذات الطابع الانشقاقي، والتي أثبت الزمن مدى فقرها. وفي ظل هذه الانسدادات جاءت قضية لبنى وموقفها الصلب لتعيد تجديد الحرج والهشاشة إلى نظام أصبح أشد حرجاً في أن يواري تناقضاته الظاهرة.

بيد أن هناك الكثير من الهوامش التي حركتها هذه القضية، فهذه القضية ليست فقط صراعاً مع السلطة على خلفية مادة قانونية جائرة فحسب، بل هي أيضاً إدانة للكثير من السلطات الرمزية والاجتماعية التي سمحت عبر تواطؤها وسكوتها بالتغول لسلطة النظام في تجديد القمع الواقع على المرأة.

المحزن أن الفوضى التي ضربت الحياة السياسية السودانية وخلخلت قوى المعارضة عبر التفتيت الذي أصاب أحزابها على يد النظام، جعلت من تلك القوى السياسية المعارضة أعجز حيلة من أن تجعل من قضية لبنى انطلاقة جديدة لاصطفاف مطلبي وحقوقي عابر لجميع القوى السياسية، بحسب الطبيعة الكلية لفكرة الحقوق.
إنها قضية ربما ذكرت بصورة ما، بقضية درايفوس الشهيرة، ولكن في زمان ومكان مختلفين.

  • كاتب سوداني مقيم في الرياض

المصدر: عن الحياة اللندنية

3/9/2009