"جديد" بنيامين نتنياهو في سياق مواقفه وتوجهاته "القديمة" - بقلم: د. ماهر الشريف

2009-07-04

د. مــاهـــر الشــــريــف

"جديد" بنيامين نتنياهو في سياق مواقفه وتوجهاته "القديمة"

في خطاب ألقاه حول سياسة حكومته إزاء "السلام" في المنطقة،  في 14 حزيران 2009  في جامعة بار-إيلان، لفظ بنيامين نتنياهو "الجوهرة" التي كانت تنتظرها إدارة باراك أوباما منه، عندما أعلن موافقته على  قيام  "دولة فلسطينية" تعيش بسلام إلى جانب إسرائيل، ودعا إلى استئناف مفاوضات "السلام"، وقال:" سيكون هناك شعبان، لكل منهما علم وحكومة، يعيشان جنباً إلى جنب على هذه الأرض"، لكنه وضع شرطين لذلك وهما: "الاعتراف [الفلسطيني]  بدولة إسرائيل كدولة قومية للشعب اليهودي، ونزع سلاح الدولة الفلسطينية" ، مؤكداً أنه لن يكون لهذه الدولة "سيطرة على مجالها الجوي، ولا على حدودها، وذلك كي نمنع تهريب السلاح. ومن دون تلبية هذه الشروط، ستصبح الدولة الفلسطينية غزة جديدة". وتابع: "عندما يكون هناك زعيم فلسطيني يقول هذه الكلمات لشعبنا، سينفتح الطريق لحل كل القضايا؛ والكلمات المطلوب قولها بسيطة: إسرائيل هي الدولة القومية للشعب اليهودي".

وبتناقض واضح مع موافقته اللفظية على قيام "الدولة الفلسطينية"، أطلق على الضفة الغربية الاسم  التوراتي "يهودا والسامرة"، وقال: "إن أرض يهودا والسامرة هي أرض أجدادنا... إن حقنا [فيها] لا ينبع من معاناة شعبنا، التي توجت بالهولوكست، الذي لم يكن له مثيل في التاريخ. إن حقنا في إقامة دولتنا على هذه الأرض ينبع من واقع بسيط وهو أن إسرائيل هي أرض الشعب اليهودي". ثم أضاف: "يعيش على هذه الأرض تجمع سكاني فلسطيني كبير، ونحن لا نريد أن نحكمهم ولا أن نفرض عَلَمنا عليهم".

وبعد أن أعلن نتنياهو أن حكومته ستراعي "الالتزامات السابقة"، دعا الدول العربية والفلسطينيين إلى "استئناف المفاوضات بسرعة ومن دون شروط مسبقة "، وذكّر العرب بأنهم كانوا قد رفضوا في الماضي مشاريع التقسيم، وقال: "إذا كانت فوائد السلام أكيدة، علينا أن نتساءل، في هذه الحالة، لماذا يدوم هذا الصراع منذ أكثر من ستين عاماً. ويجب علينا أن نتساءل ما هي جذور هذا الصراع. الحقيقة هي أن جذوره كانت ولا تزال تتمثّل في رفض الاعتراف بحق الشعب اليهودي في أن يعيش في دولة على أرض أجداده". كما أخذ على الفلسطينيين أيضاً رفضهم الاعتراف بإسرائيل، مذكّراً بأن الانسحاب الإسرائيلي من غزة قد أعقبه تصاعد في العنف، وفي إطلاق الصواريخ، وقال: "كلما اقتربنا من التوصل إلى حل ، كلما زاد الفلسطينيون من مطالبهم. والفلسطينيون، بمن فيهم الأكثراعتدالاً، لا يريدون النطق بهذه الكلمات البسيطة: "إسرائيل هي دولة الشعب اليهودي، وستبقى كذلك" ".

ولكن إذا كانت إسرائيل مستعدة لاستئناف المفاوضات، فعلى ماذا سيجري التفاوض؟

لقد حدد نتنياهو بصورة صريحة مواقف حكومته من قضايا الوضع النهائي، بتأكيده على  أن حل قضية اللاجئين الفلسطينيين هو من مسؤولية الدول العربية: "فقضية اللاجئين الفلسطينيين يجب أن تحل خارج حدود إسرائيل. فنحن، ومن دون موارد، استوعبنا كل اللاجئين اليهود من الشرق الأوسط". أما وضع القدس فهو ليس مطروحاً على طاولة المفاوضات، وذلك لأن القدس: " ستبقى العاصمة الموحدة لإسرائيل". وبينما تستمر عمليات مصادرة الأراضي الفلسطينية على نطاق واسع في الضفة الغربية  وتوسيع المستوطنات القائمة، من خلال بناء آلاف  الوحدات السكنية الجديدة فيها بذريعة "النمو الطبيعي"، أكد نتنياهو أنه ليس في نية حكومته "بناء  مستوطنات جديدة، ولا الاستيلاء على أرض الفلسطينيين" (لوفيغارو، باريس، 15 حزيران 2009).

والواقع، أن مواقف نتنياهو هذه - على الرغم من "الجديد" فيها، والذي استهدف منها في الأساس الالتفاف على الضغط الأمريكي لقبول حل الدولتين والشروع في التفاوض – تنسجم مع مواقفه السابقة ومع توجهاته الإيديولوجية، وهو ما سأحاول أن أبيّنه عبر استعراض هذه المواقف والتوجهات، من خلال الرجوع إلى كتاب آفي شليم "الحائط الحديدي"  وإلى بعض المقابلات الصحفية التي أجريت في السنوات الفائتة مع رئيس الوزراء الإسرائيلي الحالي.    

ففي كتابه المذكور( القاهرة، ترجمة ناصر عفيفي، مؤسسة روز اليوسف، 2001 )، يشير آفي شليم إلى أن بنيامين  نتنياهو ينتمي إلى عائلة شهيرة تميل بشدة إلى الصهيونية القومية الجديدة، حيث كان والده بن صهيون مؤرخاً لليهود الاسبان ومستشاراً لزعيم الصهيونيين "التصحيحيين" جابوتنسكي . وقد انتخب نتنياهو زعيماً لحزب الليكود في آذار 1993؛ وفي ذلك العام، نشر كتاباًً بعنوان: "مكان وسط الأمم: إسرائيل والعالم"، استلهم أفكاره من تعاليم جابوتنسكي، وتبنّى فيه وجهة نظر تعتبر أن لليهود الحق في كامل "أرض إسرائيل"، وأن العرب هم الذين "اغتصبوا" الأرض من اليهود، وأن العالم كله يعادي دولة إسرائيل وأن اللاسامية موجودة  في جذور هذا العداء.  أما علاقة إسرائيل بالعالم العربي فهي، في نظره، علاقة " صراع دائم بين قوى النور وقوى الظلام "، ورفض بشدة الموقف الذي يرى بأن  المشكلة الفلسطينية هي " لب الصراع في الشرق الأوسط"، معتبراً أن هذه المشكلة هي "مشكلة مصطنعة"، كما أنكر على الفلسطينيين الحق في تقرير المصير، ورأى أن الوصول إلى تسوية مع منظمة التحرير هو أمر مستحيل، لأن هدفها هو تدمير إسرائيل. وبعد أن أكد بأن السيطرة العسكرية على مرتفعات الجولان السورية المحتلة وعلى جبال الضفة الغربية تكتسب أهمية كبيرة بالنسبة إلى إسرائيل، قدّر بأن " اقتطاع الضفة الغربية من إسرائيل يعني تقطيع أوصال إسرائيل" (الحائط الحديدي، ص537- 540).  

وفي منتصف سنوات التسعينيات، ألمح بنيامين نتنياهو إلى أن قسماً كبيراً من العرب الفلسطينيين هم "غرباء" عن هذه الأرض، وذلك عندما أشار إلى " أن تحويل فلسطين، الذي بدأ مع الموجات الأولى من الهجرة الصهيونية في سنوات 1880 وتواصل عبر الموجات المتعاقبة وبعد الحرب العالمية الأولى، قد تمّ بصورة سريعة... وأن تزايد حجم الهجرة اليهودية قد تسبّب في زيادة سريعة لعدد السكان العرب، حيث هاجرت أعداد كبيرة من العرب إلى فلسطين تجاوباً مع آفاق العمالة المفتوحة ومع ظروف المعيشة الأفضل التي وفّرها النمو الاقتصادي الذي خلقه اليهود" (الحائط الحديدي، ص 101-102).

وقبل وصوله إلى السلطة في صيف 1996، وصف نتنياهو "اتفاق أوسلو" بأنه "كارثة قومية". وفي أول حديث له بعد فوزه بالانتخابات، أكد أن أولويته هي توحيد المجتمع الإسرائيلي بحيث " يبدأ السلام من الوطن ثم يمتد إلى الخارج". أما  الخطوط العريضة لسياسة حكومته، التي عرضها في 18 حزيران نيو 1996 ، فقد عبّرت – كما يتابع آفي شليم - عن سياسة حكومة قومية دينية، حيث  تعهد القسم الخاص بالتعليم، في برنامج تلك الحكومة،  بتنمية القيم اليهودية، ووضع التوراة واللغة العبرية وتاريخ اليهود في أساس المقررات الدراسية.  وعلى صعيد السياسة الخارجية، أعربت حكومته عن معارضتها الشديدة لإقامة دولة فلسطينية، ولحق عودة اللاجئين الفلسطينيين ولإزالة المستوطنات اليهودية أو تجميد بنائها، كما دعت سوريا إلى استئناف المفاوضات من دون شروط مسبقة، مع استبعاد أي تراجع عن مرتفعات الجولان السورية المحتلة.  وفي مقابلة أجرتها معه صحيفة هآرتس، أعاد التأكيد على إيمانه بأن إسرائيل  "مقدّر لها أن تحيا بحد السيف "، وزعم  بأن تآكلاً قد أصاب قوة الردع الإسرائيلية، عندما اعتقدت الحكومة السابقة  "بأن السلام وحده يمكنه أن يوفّر الأمن"، مؤكداً عزمه على تغيير هذا التوجه لأن "الردع القوي هو فقط القادر على حفظ وتوفير السلام" (الحائط الحديدي، ص 543-547).

أما العناصر الأساسية لإستراتيجيته إزاء الفلسطينيين فقد تمثّلت في  الحد من تطلعاتهم القومية، وإضعاف ياسر عرفات وسلطته، وإيقاف المزيد من عمليات إعادة الانتشار، واستخدام بنود الأمن في اتفاق أوسلو لإعادة تأكيد السيادة الإسرائيلية. ولم يجبر نتنياهو على توقيع اتفاقية الخليل مع الفلسطينيين، في 15 كانون الثاني 1997 ، إلا بعد اندلاع "انتفاضة النفق"، في الأسبوع الأخير من أيلول 1996، التي قتل خلالها 80  فلسطينياً و 15 جندياً إسرائيلياً، والتي اندلعت رداً على قرار نتنياهو بحفر نفق أثري بالقرب من المسجد الأقصى (ص 548-553).

ويخلص آفي شليم إلى أن نتنياهو قد قدم رؤية ل "الحائط الحديدي " أكثر تشدداً، وعمل منذ اليوم الأول لتوليه السلطة على تخريب  اتفاقيات أوسلو، إذ هو علّق، باستثناء الانسحاب الجزئي من الخليل، كل أنشطة إعادة الانتشار الملزمة لإسرائيل. ووتّر  علاقات إسرائيل مع مصر والأردن، وساهم في وقف  الاتجاه نحو التطبيع مع البلدان العربية.  ومع أنه قد وافق، تحت ضغط إدارة كلينتون، على عقد لقاء قمة مع ياسرعرفات، أفضى إلى التوصل إلى اتفاقية، عُرفت باتفاقية واي ريفر وتمّ التوقيع عليها في  واشنطن في 23 تشرين الأول 1998، تعهدت فيها إسرائيل بسحب قواتها من 13 في المئة أخرى من الضفة الغربية في مقابل تعهد ياسر عرفات بوضع خطة مفصلة لملاحقة " المتشددين" الإسلاميين وبشطب البنود التي تدعو إلى تدمير إسرائيل من الميثاق الوطني الفلسطيني، إلا أن نتنياهو قرر –كما يضيف شليم-  إدارة ظهره للاتفاق الذي وقّعه بنفسه، الأمر الذي أدّى إلى سقوط حكومته، وإلى قيام الكنيست، في 23 كانون الأول، باتخاذ قرار بحل نفسه وإجراء انتخابات جديدة (الحائط الحديدي، ص 572-577).

لقد ذكرت سابقاً أن نتنياهو غير مقتنع بأن من حق الشعب الفلسطيني أن يكون له دولة مستقلة، وأنه لم يتبنَّ في خطابه الأخير فكرة "الدولة الفلسطينية" المنزوعة السيادة، مع كل الشروط التعجيزية التي طرحها، إلا للالتفاف على الضغط الأمريكي. أما قناعته الفعلية فهي أن تحسين الأوضاع الاقتصادية للفلسطينيين، وانتهاج ما يسمى بطريق "السلام" الاقتصادي، يكفيان، في هذه المرحلة، لضمان "إدارة" الصراع والتخفيف من حدته، وهو ما أكد عليه في المقابلة التي أجراها معه الصحافي والكاتب  يوري دان في صيف العام 2005. ففي تلك المقابلة ("إسرائيل: "النمر" الجديد"، السياسة الدولية، باريس، عدد 108، صيف 2005، ص 35-54)، أكد نتنياهو أن الثورة الاقتصادية التي تشهدها إسرائيل حالياً " سيكون لها بالتأكيد انعكاسات دولية على الصعيد السياسي"، وستؤثر أيضاً "على علاقاتنا مع جيراننا، أو على بعضهم، بحيث يتخلون شيئاً فشيئاً عن نظرتهم إلى إسرائيل بوصفها "دولة صليبية جديدة"، ويقبلون أن بلدنا يمثّل، في هذه المنطقة، عامل قوة ودينامية" ("إسرائيل: "النمر" الجديد"، ص 43).

ورداً عن سؤال حول ما يتوجب على الفلسطينيين فعله "كي يخرجوا من ركودهم الاقتصادي"، تجاهل نتنياهو كل الإجراءات التي اتّخذها ويتّخذها الاحتلال والتي تكبح نمو الاقتصاد الفلسطيني، وذلك عنما رأى أن مشكلة الاقتصاد الفلسطيني هي "المركزية الشديدة "، التي "يفاقمها الفساد وغياب المنافسة الحقيقية"، معتبراً أن ما يحتاجه الفلسطينيون هو "إصلاحات تضمن لهم نمواً اقتصادياً"، وذلك لأنه " لن  يكون هناك سلام من دون نمو [اقتصادي] " ("إسرائيل: "النمر" الجديد"، ص 44-45).

وفي مقابلة أخرى أجريت معه في خريف 2008، كان نتنياهو أكثر وضوحاً في الدفاع عن مشروعه بتحقيق ما يسميه ب "السلام الاقتصادي". ففي تلك المقابلة ("عندما سأصبح رئيساً للوزراء"، مقابلة أجراها جيل-ويليام غولدنادل، السياسة الدولية، باريس، عدد 121، خريف 2008، ص 317-327)، ورداً عن سؤال حول مقترح جورج بوش بإقامة "دولة فلسطينية قابلة للحياة"، أجاب رئيس وزراء إسرائيل الحالي: "من وجهة نظري، نحن نخطئ عندما نسعى بكل ثمن إلى التوصل سريعاً إلى "وضع نهائي للدولة الفلسطينية"، وذلك لأنني ببساطة لا أؤمن بأن الفلسطينيين مستعدون لقبول شكل التسوية التي تضع حداً للصراع.  ففي الواقع، ليس هناك ما يدل على أن في وسعهم التجاوب مع مطالب الحد الأدنى، التي يمكن لزعيم إسرائيلي مسؤول أن يطلبها منهم. وقبل ثماني سنوات، رفض الجانب الفلسطيني قبول التنازلات المهمة التي قدمت له، ولا يبدو أن موقفه قد تطوّر منذ ذلك الحين في اتجاه تبنّي مواقف أكثر اعتدالاً. ولهذا، أرى أنه بدلاً من مضاعفة المفاوضات غير المفيدة حول "الوضع النهائي"، ينبغي على إسرائيل أن تركّز جهودها على المساعدة الملموسة التي يمكنها تقديمها إلى الرئيس أبو مازن وإلى رئيس الوزراء سلام فياض من أجل تمكينهما من تحسين الحياة الاقتصادية للفلسطينيين. إن هذا التطوّر لن يحل الصراع، ولكنه سيساهم في تخفيف حدة العنف وفي خلق بيئة مناسبة لمفاوضات السلام. عندما سأصبح رئيساً للوزراء، سأركّز على هذا "السلام الاقتصادي" " ("عندما سأصبح رئيساً للوزراء"، ص 320-321).

ومما يعزّز قناعة نتنياهو بعدم جدوى إقامة "دولة فلسطينية"  تبنيّه لفكرتين مترابطتين، سادتا في المجتمع الإسرائيلي بعد إخفاق مفاوضات كمب ديفيد في تموز 2000، الأولى تقول إن الفلسطينيين لا يريدون السلام، والثانية تقول إنه لا يوجد شريك فلسطيني لصنع السلام معه.

ففي مقابلة أجراها  معه جيل-ويليام غولدنادل، في ربيع 2008 ("إسرائيل في مواجهة أعدائها" السياسة الدولية، باريس، عدد 115،  ربيع 2008، ص 101-112)، رد نتنياهو عن سؤال بخصوص خطته للسلام بقوله: " نحن لا نحتاج إلى "خطة" سلام جديدة للتوصل إلى السلام. فإيهود باراك قدم في كمب ديفيد قبل سنوات، كما تذكر، إلى ياسر عرفات كل ما كان يطالب به الفلسطينيون، لكن رد عرفات كان شن حرب إرهابية، بيّنت بأنه غير مهتم مطلقاً بدولة فلسطينية إلى جانب إسرائيل، وإنما أمله أن تحل دولة فلسطينية محل إسرائيل. فالمسألة تكمن في أن المجتمع الفلسطيني اليوم تكبحه ثقافة تمجد الموت، وتحتفي بالشهداء وتدعو يومياً إلى تدمير إسرائيل. فكل يوم، تقوم محطات التلفزيون والراديو والصحف الفلسطينية بتحريض الناس على كراهية إسرائيل، وأمريكا، واليهود بوصفهم يهوداً، والمسيحيين، والغرب بوجه عام. وعندما يتوقف هذا التحريض على الكراهية –وعلى المجتمع الدولي أن يلعب دوراً في هذا المجال – وتحل ثقافة الحياة محل ثقافة الموت، عندها سيكون السلام ممكناً" ("إسرائيل في مواجهة أعدائها"،("إسرائيل في مواجهة أعدائها"، ص105- 106).

فالفلسطينيون، وعلى الرغم من كل التنازلات التي قدموها من أجل التوصل إلى حل شامل ودائم للصراع، وعلى الرغم من قبولهم بفكرة إقامة دولة فلسطينية مستقلة إلى جانب إسرائيل على مساحة 22 في المئة تقريباً من وطنهم التاريخي، ما زالوا، بحسب نتنياهو، ينكرون  حق إسرائيل  في الوجود " من الحاج أمين الحسيني إلى ياسر عرفات، مروراً بأحمد الشقيري "، ويحلمون "بالعودة إلى بيوتهم في يافا، وعكا، والرملة"، ويعتقدون " بأن ما يسمونه الكفاح المسلح، أي الإرهاب، سيتسبب في هروب اليهود... فالإرهاب  طرد اليهود من لبنان، والإرهاب يطرد اليهود من غزة، والإرهاب سيطردهم من يهودا والسامرة، والإرهاب، أخيراً، سيطردهم من فلسطين. وهو ما يعلنونه صراحة: إنهم يريدون طردنا من موقع حصين، إلى آخر، حتى يدفعوننا في اتجاه البحر، كما حصل مع آخر الصليبيين...  تصوّروا أننا نحن كالصليبيين! نحن الشعب المرتبط بهذه الأرض منذ 3500 سنة! إنه تشويه كامل للتاريخ. ومن السهل أن نعرف من هو الذي غزا هذه الأرض وحاول أن يغزو كل أوروبا. بينما نحن لم نأتِ لطردهم، كما فعل شارل مارتيل وإيزابيلا الكاثوليكية. نحن نتطلع إلى التوصل إلى اتفاق يضمن لنا التعايش معهم " ("إسرائيل: "النمر" الجديد"، ص 47-50).

بيد أن إمكانية التوصل إلى مثل هذا الاتفاق غير متوفرة الآن –كما يرى نتنياهو-  بسبب غياب الشريك الفلسطيني. من الصحيح أن محمود عباس "مختلف" عن ياسرعرفات لأنه " لا يدعم الإرهاب بكل قواه، لكنه للأسف، على غرار عرفات، لا يقف في وجه الإرهاب ... في كل الأحوال، وقبل أن نعتبر أننا نمتلك شريكاً ذا مصداقية للتفاوض معه، يتوجب عليه أن يلتزم بشرطين: تفكيك المنظمات الإرهابية، حيث لا يمكن أن يكون هناك تعايش ممكن بين السلام والإرهاب، وإلغاء التحريض على تدمير إسرائيل.

فهذا التحريض لا يزال مستمراً... [و]  المتطرفون، المتدينون والعلمانيون، ما زالوا يشكّلون، للأسف، الأغلبية في المجتمع الفلسطيني، بينما أخفق المعتدلون في تحقيق الاختراق اللازم . والدليل على ذلك هو أن محمود عباس يتخوف من محاربة المتطرفين، مع أنه مجبر على ذلك إن أراد البقاء في السلطة" ("إسرائيل: "النمر" الجديد"، ص 46-47).

وإلى أن يظهر هذا "الزعيم" الفلسطيني المطلوب، ويقتنع الفلسطينيون بأن "وهمهم غير واقعي، لسبب بسيط هو أننا لن نتحرك من هنا"،وتنفتح بالتالي آفاق "السلام"،  ينبغي التركيز، من وجهة نظر نتنياهو، على ثلاثة ملفات، هي :"الأمن، والاقتصاد والضغط من أجل إطلاق سيرورة الدمقرطة [في العالم العربي]".

فالهدف الأول لإسرائيل يجب أن يكون تعزيز أمنها من خلال  "إقامة سور حول الكتل الاستيطانية، واستكمال بناء الجدار الأمني وتعزيز سيطرتنا على المناطق الخالية من وادي الأردن ومن صحراء يهودا  لضمان التواصل الجغرافي لدولة إسرائيل. ولا يتعلق الأمر هنا بعملية ضم لهذه المناطق، وإنما بضمان دوام الأمن لإسرائيل" (إسرائيل: "النمر" الجديد"، ص 51). كما ينبغي على إسرائيل أن تضع "عاجلاً أم آجلاً حداً لسيطرة حماس على غزة"، وأن تمنعها من "تطوير الوسائل الاستراتيجية التي تسمح لها بتهديد البلد" ("عندما سأصبح رئيساً للوزراء"، ص 320). ومن جهة أخرى، يتوجب على إسرائيل أن تحول دون "أن تمتلك إيران أسلحة نووية... وسنفعل كل ما في وسعنا لحماية أنفسنا من هذا النظام الذي وعد بتدميرنا" ("إسرائيل في مواجهة أعدائها"، ص 106-107).

وعلى صعيد الاقتصاد، ينبغي على إسرائيل، كما يرى نتنياهو، أن تستمر "في تطوير منتجات المعرفة والتكنولوجيات الطليعية"، بما  في ذلك "البيو-تكنولوجيا والهندسة الوراثية"، وأن تواصل تشجيع تدفق الاستثمارات الأجنبية، وأن تعزز دورها بوصفها "نمراً" اقتصادياَ جديداً في العالم. ولا يتوجب عليها، في الوقت نفسه، أن تتخوّف من تحوّل بعض البلدان العربية، كمصر مثلاً، إلى "قوة اقتصادية"، لأن  هذا التوجه "سيساهم في تخفيف حدة مشكلات المنطقة"، ويفتح المجال أمام تعزيز التعاون بين بلدانها. وفي هذا السياق، اعتبر نتنياهو أن إقامة  خط  للسكك الحديدية بين البحر الأبيض المتوسط والبحر الأحمر "سيسمح بتطوير صحراء النقب وسيجعل من إيلات "لاس فيغاس" البحر الأحمر...  وسيمكّن الإسرائيليين من قطع المسافة بين تل أبيب وإيلات في أقل من ثلاث ساعات".

كما سيسمح " بنقل المعادن التي تستخرجها المصانع الأردنية والإسرائيلية من البحر الميت إلى البحر الأحمر بتكاليف رخيصة، الأمر  الذي سيجعل أسعار هذه المعادن أكثر قدرة على المنافسة في الأسواق العالمية". كما أن الفلسطينيين سيستفيدون من إقامة هذا الخط، "لأنه سيمكّنهم من استخدام الموانئ الإسرائيلية لتصدير منتجاتهم إلى أوروبا، ولكن بعد أن يكونوا قد  شرعوا في إجراء الإصلاحات الضرورية" (إسرائيل: "النمر" الجديد"، ص 43-45) .

أما الضغط من أجل إطلاق عملية الدمقرطة، في العالم العربي ، فهو، في نظره، مهمة تقع، في الأساس، على عاتق الغرب. من الصحيح أن هذه العملية لن تنجز بسرعة لأن الأوضاع  في البلدان العربية "معقدة جداً، بسبب الإرث التاريخي-الثقافي والديني"، إلا أنه لا بدّ  من الدفع في هذا الاتجاه، وذلك لأن "  حلول السلام في منطقتنا مرهون بنتيجة المعركة ضد الإرهاب وضد الأنظمة [غير الديمقراطية] التي تدعمه". ومع أن هناك خطراً بوصول العناصر "المتطرفة" إلى السلطة، إلا أن الديمقراطية "المحمية بحواجز مناسبة تضمن تطبيق قيمها، وتوفّر الشفافية، وحماية الأقليات والحقوق الفردية-  تشجع الاعتدال وتنطوي على عامل التقدم الاقتصادي ". كما أن الأنظمة الديمقراطية فعلاً " لا تشجع الإرهاب ولا تصنع القنابل البشرية" (إسرائيل: "النمر" الجديد"، ص 48-49).

هذه إذن خلفية المواقف والتوجهات السياسية والإيديولوجية للخطاب الذي ألقاه رئيس وزراء إسرائيل الحالي قبل أسابيع، ووافق فيه، من باب رفع العتب، على مبدأ "الدولة الفلسطينية"!!
فهل يمكن القول، بعد كل ذلك، أن هناك شريكاً إسرائيلياً لصنع السلام معه؟؟

إن الجواب عن هذا السؤال يبدو بديهياً. لكن الكرة اليوم هي، في الواقع، في الملعب الأمريكي وليس في الملعب الإسرائيلي، في ملعب إدارة باراك أوباما، التي دعت إسرائيل إلى وقف الاستيطان بصورة نهائية، والقبول بحل الدولتين واستئناف المفاوضات مع الفلسطينيين، وعيّنت موفداً خاصاً للرئيس إلى الشرق الأوسط.

هل ستكتفي هذه الإدارة بالضغط اللفظي على حكومة نتنياهو أم أنها ستلجأ إلى إجراءات ملموسة للضغط عليها، تجبرها على الانصياع لمتطلبات السلام العادل والشامل؟

إن الإجابة عن هذا السؤال ترتبط، ارتباطاً وثيقاً، بالإجابة عن السؤالين التاليين:
هل دخلت منطقتنا، والصراع المشتعل فيها، فعلاً ضمن أولويات سياسة إدارة أوباما الخارجية، واتصلت بما أسماه مستشاروه، خلال حملته الانتخابية، ب "قوس الأزمات" الممتد من إيران إلى أفغانسان، والذي قيل بأنه سيحتل مكان الصدارة في اهتمامات الإدارة الجديدة على الصعيد الخارجي؟

وهل توصلت هذه الإدارة إلى قناعة بأن ضمان المصالح القومية الأمريكية في الشرق الأوسط تحتم عليها الانتقال من نهج "إدارة" الأزمة إلى نهج البحث عن حل جذري لها، أم أن هذه الإدارة لا تزال تشعر، كسابقاتها، بأن ما من خطر جدي يهدد هذه المصالح، وبالتالي لا حاجة للدخول في "معركة" مع إسرائيل ومع "اللوبي" اليهودي الأمريكي الذي يدعمها، والذي لا يزال قوياً في دوائر صنع القرار في واشنطن، على الرغم من التحوّلات الإيجابية التي صار يشهدها المجتمع الأمريكي في الآونة الأخيرة؟

4/7/2009