دخول الى حقل المحرمات ( 7 ) - بقلم عبدالمجيد حمدان

2009-04-23

عبــدالمجيــد حمـــدان

دخول الى حقل المحرمات

( 7 )

عبرنا، في الحلقات السابقة، حقول المحرمات المحيطة بالمقدس الفلسطيني ، عبوراً سريعاً وأوصلنا الى جدار المقدس، وأوقفنا على أبوابه. لكن وقبل الدخول الى المقدس نحتاج الى وقفة تذكير قصيرة، قد يراها القاريء من نافل القول ،  فيما نرى ان في الاعادة افادة.

في الحلقة السابقة استعرضنا مصنف الثورات وحركات المقاومة التي روى لنا التاريخ الحديث أخبارها. وكنا اعتمدنا السمات العامة أساساً لهذا التصنيف ، دون حاجة الى التذكير بأنه كان لكل ثورة ، او حركة مقاومة، سماتها الخاصة ، التي لا تشاركها فيها، او قد تشارك في بعضها، ثورات أخرى, وردت تحت نفس المصنف. كان الغرض محاولة وضع ارضية علمية للتعرف على موقع الثورة، او حركة المقاومة، الفلسطينية ، في هذا التصنيف العالمي، مع محاولة لابراز صفاتها، او سماتها الخاصة فيما بعد.

لكن ، كما بدا لي، هناك حاجة للتذكير بأن كل الثورات وحركات المقاومة، وجهت قواها لضرب الآلة العسكرية لقوى الاحتلال او الاستعمار. فكما اشرنا ظلت الآلة العسكرية هي اداة الاستعمار او الاحتلال في فرض ارادته، على الشعوب المستعمرة والمحتلة . وهذه الآلة هي الضمانة لحفظ مصالح الاحتلال والاستعمار، ولمواصلة اخضاع الشعوب المستعمرة والمحتلة ، ولمواصلة نهب ثرواتها ، ولفرض ثقافتها وانماط عيشها ، او ما يوصف بفرض حضارتها.

حركات التحرير او المقاومة، او الثورات، استهدفت بضرب الآلة العسكرية للعدو، اما تحطيم هذه الآلة ، وبالتالي اجبار العدو على الرحيل والفوز بالحرية والاستقلال، واستعادة الثروات المنهوبة، واما ايصال هذه الآلة الى حالة فقد القدرة، او العجز، عن السيطرة ، فتسيير الحياة في مسارها الطبيعي السابق. حالة العجز هذه ، او فقدان الآلة العسكرية للقدرة ، او للسيطرة ، تفضي الى انهاء الاستعمار، والى زوال الاحتلال . ولا أظن ان القاريء بحاجة الى تذكير ، بأن بقاء هذه الآلة سليمة، وتوجيه اسلحة المقاومة، الى الادارة المدنية مثلاً لا يزيد الآلة العسكرية الا عنفوانا ، وقدرة وطاقة على القمع فبقاء الاحتلال او الاستعمار.

لقد عرف التاريخ حركات مقاومة كثيرة وجهت سلاحها الى صدور المدنيين، تحت الزعم بأن ذلك يفضي الى فقدان الأمن، وبالتالي يقدم للشعب ، صاحب الآلة العسكرية ، برهاناً على عجز آلته للقمع عن توفير حالة الطمأنينة، وبالتالي سقوط ذلك النظام. ولم يعرف التاريخ ان حركة مقاومة ، انتهجت هذا السبيل ، ووصلت الى تحقيق مثل هذا الهدف. وفقط دخلت مثل هذه الحركات تحت مصنف الارهاب .. والأمثلة كثيرة لا حاجة الى تعدادها.

وإذن، وبعد هذه المقدمة ، دعونا نحاول عبور احدى بوابات المقدس الفلسطيني كي نقترب من التماس مع هذا المقدس. وهذه البوابة تتمثل في التجربة النضالية التي سبقت الثورة الفلسطينية الحديثة.

اشرنا، في بداية هذه الحلقات، الى ان بداية القضية الفلسطينية تعود الى ما قبل قرابة القرن وربع القرن. في بداية الفترة كانت فلسطين جزءاً من الامبراطورية العثمانية . وكانت مسؤولية ردع الاطماع الصهيونية في فلسطين تعود الى تلك الامبراطورية . اتخذت حكومة الامبراطورية ، المعروفة باسم الباب العالي، اجراءات مستندة الى اوامر السلطان، بالتصدي لتلك الاطماع . لكن الفساد الذي استشرى في جسم الامبراطورية اتاح للقيادة الصهيونية فرص العبور الى فلسطين ، وحيث شكلت رشوة الحكام اكثر وسائل ذلك العبور نجاعة.

فوجيء الشعب الفلسطيني بمخطط يستهدف سرقة وطنه وطرده من الوطن. لم يتشكل الوعي بالخطر القادم سريعاً، بل احتاج الى فترة غير قصيرة. بدأ الوعي على الخطر يتشكل مع اجراءات طرد الفلاحين الفلسطينيين من اراضي العائلات المقيمة في دمشق وبيروت، المباعة للحركة الصهيونية .

من هذه البداية البعيدة اخذت عمليات مقاومة الخطر في الظهور . رؤية الخطر، وبالتالي مقاومته، اقتصرت ، ولفترة طويلة، على الذين وقعوا ضحية التشرد وحدهم. لكن التشرد هذا نقل الاحساس بالخطر ، وتدريجياً الى الآخرين . ولم يصل الاحساس هذا الى مجموع الشعب ، الا بعد مرور عقود ، كانت الحركة الصهيونية خلالها، قد رسخت اقدامها على التراب الفلسطيني .

ومع ذلك يمكن القول، استناداً الى دراسة معمقة ، ان مقاومة المخطط الصهيوني بدأت في وقت ابكر كثيراً من مثيلاتها في بلدان العالم الأخرى . وسريعاً تحولت المقاومة الموضعية ، الى مقاومة تتصف بنوع من الشمولية، كما حدث في هبة البراق العام 1929 مثلاً.

نبهت هبة البراق، وهبة المكبر التي تلتها ، والهبات التي سبقتها ، واكثر مما فعلت الكتابات المختلفة ، وحتى الأنشطة السياسية المحددة ، نبهت جماهير الشعب الفلسطيني الى عدة اشياء ، من بينها اولاً: ان مسؤولية مجابهة المخطط الصهيوني ، تقع على عاتق الجماهير وحدها بالأساس . وثانياً ان الجيش البريطاني الذي رأى فيه الناس منقذاً من التبعية العثمانية ، يشكل القوة الحامية ، والمنفذة في ذات الوقت، للأطماع الصهيونية ، وثالثاً ان ضرب وتعطيل هذه الآلة العسكرية يفتح الطريق امام ازالة الخطر الصهيوني.

بعد هبة البراق اخذت في الظهور تباعاً، ما يمكن وصفها بارهاصات المقاومة المسلحة ، والموجهة نحو الوجهة الصحيحة ، أي الآلة العسكرية  للاحتلال البريطاني . الوجهة الصحيحة لأن شل فاعلية هذه الآلة، تعني رفع الغطاء عن المخطط الصهيوني، وبالتالي وقفه، ومن ثم ازالة خطره الداهم على الشعب وارضه وقضيته الوطنية .

ظهرت اولى هذه الارهاصات بتشكيل منظمة مسلحة ، عرفت باسم الكف الأخضر ، مباشرة بعد تنفيذ حكم الاعدام في ثلاثة من ابطال هبة البراق ،وهم فؤاد حجازي ، محمد جمجوم وعطا الزير.

تشكلت هذه المنظمة بداية من مشاركين في هبة البراق ، بلغ عددهم سبعة وعشرين، انضم اليهم آخرون فيما بعد، بينهم دروز سوريون. اتخذت هذه المنظمة من شمال فلسطين مسرحاً لعملياتها، لكن قوات الانتداب نجحت في محاصرتها, مستعينة بحرس الحدود الأردني من جهة، ومن قوات الاحتلال الفرنسي لسوريا ولبنان من جهة اخرى ، فالقضاء عليها بعد بضعة شهور، وحيث هرب قائدها احمد طافش الى الاردن باحثاً عن ملجأ.

لم يطل الوقت حتى تشكلت منظمة سرية وضعت اغتيال العملاء بديلاً للمواجهة مع آلة الانتداب العسكرية . وبديهي ان منظمة من هذا النوع احتاجت لأعلى الدرجات من حيث السرية ودقة التنظيم ، والأمران لم يتوفرا في تلك الظروف ، كشفتها مخابرات الانتداب بعد تنفيذ عملية واحدة، ورسالة تهديد لقاض بريطاني . اتهمت ادارة الانتداب الحزب الشيوعي بالمسؤولية عن انشاء هذه المنظمة لأن احد عشر عضواً من بين اعضائها الاربعة والعشرين ، كانوا شيوعيين .

في هذه الفترة كان قد وصل الى حيفا ثائر سوري محنك ، هارباً من حكم بالاعدام، هو الشيخ عز الدين القسام. وفيما يبدو حاول القسام معالجة وسد الثغرات التي ساعدت في افشال محاولات من سبقوه . كرس الشيخ بضع سنوات في التعبئة والتنظيم، وتأمين الاتصالات ومصادر السلاح ..الخ، وليجمع في النهاية خمسة وعشرين رجلاً، وقف على رأسهم، وليقرر بدء نشاطه من منطقة جنين . لكن المصادفة ، او سوء الخط ، كان له بالمرصاد . تصادف ان اصطدمت مجموعته وعلى غير موعد ، بمجموعة من الدرك، وليقع معها اشتباك لم يخطط له الشيخ . انتقل الشيخ بمجموعته الى احراش بلدة يعبد، وحيث حاصرته القوات البريطانية ، وتمكنت من قتله وآخرين ، بعد اقل من اربع وعشرين ساعة من انطلاقته .

كان واضحاً من ارهاصات الثورة هذه ، افتقادها لجملة من العوامل، ذاتية وموضوعية ، اللازم توافرها لانجاح الثورة . بدا واضحاً ان وضع الجماهير ، ودرجة وعيها، لم ينضج بعد للانخراط في ثورة. كما افتقدت القيادات ، باستثناء الشيخ القسام، الى الشخصية القيادية القادرة على جمع الثوار من حولها ، وتحمل مسؤولية ادارة ثورة تتشعب احتياجاتها ، وتتعدد ميادين عملها . وبعد ذلك افتقدت كلها الى محيط عربي صديق ومساند . فرغم تعاطف الجماهير العربية من حول فلسطين، الا ان الانظمة كانت خاضعة اما لارادة المحتل البريطاني ، او لمنافسه الفرنسي . الأمر الذي دلل عليه بوضوح تكاتف هؤلاء ليس باغلاق طرق الامداد بالسلاح ، بل والتعاون معاً لضرب مجموعة الكف الأخضر . وحتى عندما لجأ قائدها الى الاردن ، باحثاً عن ملجأ آمن، اعتقلته السلطات الأردنية وسلمته لعدوه, الاحتلال البريطاني.

على كل حال قام استشهاد القسام، بشخصيته المحبوبة ، وبموقعه الديني، بمهمة شحذ الوعي الوطني. فليس فقط ان جماهير عارمة شيعت جثمانه، بل وان هذه الجماهير اسبغت عليه صفة بطلها القومي، واخذت على عاتقها نشر تعاليمه، والتمثل بشخصه ، ومتابعة مسيرته.

وكان ان تسارع نضوج العامل الذاتي لانطلاق ثورة تحدد هدفها في مواجهة آلة الاحتلال العسكرية ، بصفتها الحامية للاستيطان الصهيوني . برز هذا النضوج في اعلى درجاته مع بدء الاضراب لعام 36 الشامل والذي استمر قرابة ستة اشهر ، وحيث عجزت قوات الانتداب عن فكه، رغم تبؤ بريطانيا آنذاك، لموقع القوة العالمية الأولى.

انفجرت ثورة 36 مصاحبة للاضراب ، وعجزت بريطانيا عن قمع الثورة وعن حل الاضراب . وكان ان لجأت بريطانيا لاصدقائها من الملوك العرب – الجوار ، او المحيط غير الصديق للثورة – لمساعدتها على الخروج من هذا المأزق . ولبى الملوك النداء .. وكان ان نجحت وساطتهم في حل الاضراب ووقف الثورة . لكن نتج عن هذه الوساطة العربية ان جاءت اللجنة الملكية البريطانية – لجنة بيل – للتحقيق ، فاصدارها لمشروع التقسيم الأول المعروف باسم تقسيم بيل.

صدم قرار اللجنة الملكية الجماهير الفلسطيني فتجددت الثورة، بزخم اعلى كثيراً من سابقتها .. وفشل تجدد الوساطة العربية في وقفها ، وحشدت بريطانيا اكثر من مئة الف جندي في فلسطين . مستخدمة اقسى اشكال العنف في مواجهة الثورة دون نجاح.

ولمساعدة القاريء على فهم مجريات وتطورات الثورة الفلسطينية الحديثة ، نرى ان هناك حاجة لوقفة تحليلية مع ثورة 36 والتي استمرت حتى نهاية العام 1939 .

اول ما يلفت الانتباه ان الهبات الجماهيرية ، والارهاصات الثورية ، تم الاضراب والثورة ذاتها ، نشأت وتطورت ، بعيداً عن فعل القيادة السياسية . انشغلت القيادة ، بجناحيها الحسيني والنشاشيبي – المجلسي و المعارض - ، ومنذ بدء الانتداب ، وحتى اضراب العام 36، في المنافسة على نيل الحظوة لدى ادارة الانتداب ، أي قصر المندوب السامي وادارته . واقتصر دورها – حتى ثورة 36 – على مناشدة المندوب السامي فعل شيء ، يساعدها على الاحتفاظ بهيبتها لدى الجماهير الفلسطينية .

استمر هذا الحال حتى صدور تقرير لجنة بيل بالتقسيم الأول عام 37 ، اسقط مشروع التقسيم مراهنة المفتي – الحاج امين الحسيني – على النوايا البريطانية ، وأمله بعدالة بريطانيا تجاه القضية الفلسطينية . وحدثت حالة طلاق بين الطرفين، او كما يقال قلب المفتي ظهر المجن لبريطانيا ، معلناً انحيازه للثورة، وبالتالي تبوأ مركز قيادتها ، رغم انه فر هارباً من الملاحقة البريطانية ، وليستقر ، ويقود الثورة من ملجأه في لبنان .

وثاني ما يلفت الانتباه ، ان الارهاصات الثورية، خصوصاً حركة القسام ، جاءت فيما يشبه الاحتجاج على حال القيادة السياسية الفلسطينية ، التي وضعت كل بيضها في سلة الانتداب البريطاني ومندوبه السامي في القدس .

لكن القيادة ركبت ظهر الثورة ، دون ان تقدم لها فعلاً قيادياً. لجأت القيادة الى المنفى ، كما اشرنا ، ومن هناك حاولت توجيه الثورة . ورغم ان الاحتلال الفرنسي غض الطرف، نكاية في منافسه البريطاني، عن تحركات القيادة, الا ان ضعف الاتصالات في ذلك الوقت، والبعد عن الميدان ، وعدم قدرة القيادة على لمس الاحتياجات السريعة الطارئة ، حال دون قيامها بدور فعال، خصوصاً في معالجة الاخطاء ، والخروقات ، والانحرافات التي تزايدت وبدأت تهدد الثورة .

اقتصر دور القيادة اذن على محاولات تأمين امدادات السلاح ، وبعض الاحتياجات المرافقة، ومحاولات كسب الاصدقاء والمساندين ، خصوصاً من بين الجماهير السورية واللبنانية ، وحركاتها الوطنية، المؤيدة بطبيعتها للثورة . كما حاولت القيادة ، في هذا الوقت الحرج، البحث عن حليف دولي، وحيث لم تجد امامها غير ايطاليا الفاشية والمانيا النازية . ولأن نذر الحرب العالمية الثانية كانت تتجمع ، وحيث كانت بريطانيا وفرنسا تسعيان جادتين لتشكيل حلف يواجه دول المحور – المانيا وايطاليا – فرض الحال على الاحتلال الفرنسي لسوريا ولبنان، مساندة بريطانيا في اغلاق طرق امداد الثورة الفلسطينية باحتياجاتها عبر الاراضي السورية اللبنانية. كما فرض تقييدا على حركة القيادة، وبالتالي على دورها في توجيه عمل الثورة .

بعد أقل من سنة نجحت بريطانيا في اكمال الطوق على فلسطين ، التي غدت مثل جزيرة معزولة ، يحيطها الاعداء من كل جانب. وكما هو معروف بنت على الحدود السورية واللبنانية ، وجزء من الحدود الاردنية – الغور الشمالي ، جداراً عالياً و عريضاً من الاسلاك الشائكة ، وحيث قطع خطوط الامداد كلية.

في هذا الوضع كان لبقاء القيادة السياسية في المنفى ، ومباشرتها الضعيفة لقيادة الثورة ، دوره الخطر على استمرارية الثورة . خصوصاً وقد اخذت الثورة تواجه سلسلة من المصاعب ، عاد جزء منها الى سلسلة الاخطاء والتجاوزات التي ارتكبها القادة الميدانيون ، وجزء آخر ناتج عن اجراءات قوات الاحتلال البريطاني .

كما سبق واشرنا حشدت بريطانيا في فلسطين اكثر من مئة الف جندي مقاتل . فرضت حالة الطواريء واصدرت سلسلة من القوانين والاحكام العرفية ، وشنت حملة قمع بالغة العنف على الريف الفلسطيني . وفي ذات الوقت والى جانب حائط الفصل الحدودي ، اقامت في مدن وبلدات فلسطين قلاعاً عرفت باسم بنايات تيغر، باسم المهندس الذي صممها ، وهي القلاع التي قامت اسرائيل بتدميرها في الانتفاضة الثانية.

قبل هذا وذاك كانت القيادة السياسية الفلسطينية – اللجنة العربية العليا – قد تنازلت عن اكثر صلاحياتها للملوك العرب ، المرتبطين بمعاهدات مقيدة مع بريطانيا ، حين سمحت لهم بالتدخل المباشر لفك الاضراب . دور الملوك هذا استمر, وحيث اخذوا يوجهون نداءاتهم مباشرة للجماهير الفلسطينية ، ودون ان تحصل منهم القيادة الفلسطينية على شيء ملموس لصالح الثورة . هؤلاء الملوك لم يقدموا للقيادة وللشعب الفلسطيني شيئاً غير مطالبتهم بالركون لنوايا الصديقة بريطانيا ، وللعدل البريطاني . هل كانت القيادة الفلسطينية – اللجنة العربية العليا التي جاءت على صورة جبهة وطنية ضمت كل الاحزاب القائمة عدا الشيوعي – على علم بحقيقة التزامات, وبالتالي مواقف الملوك ؟ هل كانت على معرفة باطماع بعضهم في فلسطين ؟!

الحقيقة انها كانت تعرف كل ذلك ، لكنها سلمت دفة التوجيه لهؤلاء الملوك . ومع هذا التسليم لم يتحول المحيط الاقليمي غير الصديق للثورة الى محيط صديق. بمعنى ان الملوك ونظمهم لم يساعدوا الثورة بأي امداد لاحتياجاتها ، وعلى العكس احكم الاردن مثلاً ، وحرس الحدود الاردني ، اغلاق حدوده التي كانت ، بعد اقامة حائط العزل الشمالي ، المنفذ الوحيد لامدادات السلاح والذخيرة ..الخ، كما لم يشكل الأردن ملجأ آمناً معالجاً للجرحى والمطاردين ..الخ والحال ذاته ظل مستمراً على الحدود الجنوبية .

وثالث ما يلفت الانتباه ان الثورة المسلحة التي نشبت العام 36 ، ثم توقفت ، وعادت نهاية العام 37 ، كانت ثورة فلاحية . شكل الفلاحون لحمة هذه الثورة وسداها. وبسبب ذلك تميز معظم قادة الفصائل بأنهم أميون ، الى جانب اتصافهم بالصفات القيادية، كالشجاعة والجرأة والاقدام ..الخ . ومع تقدم الثورة ، وغياب التوجيه الفعلي للقيادة السياسية ، كان لا بد للجوانب السلبية في اشخاص قادة الفصائل الأميين من البروز ، الأمر الذي الحق اضراراً كبيرة بالثورة.

تأخرت المدينة عن اللحاق بالثورة  ، وعندما لحقت اتصف دورها بالمساندة اكثر من اتصافه بالمشاركة . هذا الحال حرم الثورة من مدها بالقيادات المتحصلة على حد مقبول من الوعي السياسي والاداري ، وبالتالي القدرة على معالجة الاخطاء والانحرافات ، قبل استفحالها .

حققت الثورة في شهورها الاولى انجازات كثيرة . وباتت مناطق واسعة من الريف الفلسطيني شبه محررة . الوضع الجديد تطلب انشاء ادارة مدنية ، قضائية تعمل على تسيير حياة الناس . كما تطلب جمع تبرعات ، تحولت الى ضرائب ثم الى اتاوات احياناً، لتمويل الثورة .

وجد القادة الاميون، وشبه الأميين ، انفسهم في وضع جديد . هالات من المجد ، سلطات، قوة ، نفوذ ..الخ وكان طبيعياً ان يثمل قسم منهم بهذا النصر وما رافقه . الأمر الذي ابرز جوانب سلبية في شخصياتهم . استقل بعض القادة في مقاطعاتهم ، وبدل مساندة جيرانهم في صد قوات الاحتلال ، ظهر التنافس على النفوذ والسلطة . وشهدت الثورة حالة من التفكك بدل الوحدة . واستمرأ البعض حالة الجاه الجديدة ليحولها الى تحقيق مطامح ذاتية على حساب المصلحة العامة . ثم بدأ نوع من تصفية لحسابات قديمة ، بما يتبعها من مكائد وتصفية للخصوم ، تحت مسمى تنقية الثورة من الخونة .. ولتغرق الثورة في بحر من الدماء والصراعات الجانبية التي اخذت تهدد ، ليس مكاسبها فقط، بل ووجودها قبل استمرارها .

حدث كل ذلك والقيادة غائبة بعيدة . ولتتحول الثورة من ممثل لمصالح الجماهير الى مغتصب ، في احيان كثيرة ، لهذه المصالح . ولينقلب تعاطف الجماهير معها الى نقمة عليها.

وزاد الطين بلة ان التنافس على قصر المندوب السامي ، في الفترة التي سبقت الثورة، استمر بعدها, لكن هذه المرة على شكل تنظيم مسلح مناهض للثورة ، وتحت مسمى فصائل السلام ، وبسبب ركوب جماعة الحسيني للثورة . وكان ان تكالب كل هذه العوالم قاد الى ان تسير الثورة نحو نهايتها المحتومة .. التراجع التدريجي وحتى الخمود في نهاية العام 1939 ، وحيث كانت نذر الحرب العالمية قد تجمعت،  وحيث زعم الملوك العرب ان مصلحة الشعب الفلسطيني تقضي بوقف الثورة لتحرير المئة والعشرين الف جندي بريطاني ، المثبتين في فلسطين ، للانتقال الى جبهات القتال في اوروبا .

وهكذا يمكننا اعادة تلخيص عوامل الثورة على النحو الآتي:

1-اذا كان العامل الذاتي  ، قناعة الجماهير بعدم امكانية استمرار الحال ، قد نضج ، كما عكسه الاضراب الطويل فانفجار الثورة ، الا ان جانبه المتمثل في القيادة لم يواكب هذا النضوج . فالقيادة السياسية لم تفعل شيئاً ، لم تحرض ، لم تعبيء لم تخطط ، وهي وبعد ان ركبت الثورة فإنها لم تقدها.

2-وقعت سلسلة من الانحرافات والتجاوزات والاخطاء ، اغرقت الثورة نفسها وجمهورها ، بسبب ذلك في بحر من الدم .
الملفت للانتباه في الثورة الحديثة اعتبار ان وقوع هذه الاخطاء والانحرافات ، التجاوزات ، مكون طبيعي من مكونات الثورة . ويلفت الانتباه اكثر ان المطالبة بتصحيح الانحرافات ، معالجة الاخطاء ، ووقف التجاوزات ، تأتي كما لو كانت بغرض التعدي على الثورة ، ولتكتسب الانحرافات والاخطاء والتجاوزات نوعاً من القدسية التي تحرم المساس بها ، وتقضي بالسماح بتراكمها كان ما كانت النتائج .

3-كان المحيط الاقليمي، رغم حماس الشعوب العربية ، محيطاً غير صديق، جعل من فلسطين اشبه ما تكون بجزيرة معزولة محاطة بالاعداء من كل جانب .

4-فشلت القيادة في الوصول الى سند عالمي فاعل. وعلى العكس شكل توجهها للحليف العالمي عبئاً هائلاً سقط على اكتاف الثورة .

5-ورغم صحة تحديد هدف الثورة المتمثل بضرب الآلة العسكرية الانتدابية ، ورغم النجاح، في بداية الثورة، بايقاع ضربات موجعة بهذه  الآلة. الا ان قوة بريطانيا ، آنذاك ووضعها الدولي والاقليمي، ما كان يوفر لشعب صغيرا كالشعب الفلسطيني ، فرصة الحاق هزيمة جدية بهذه القوات .
والنتيجة ان الثورة توقفت دون ان تحقق في الواقع هدفاً من اهدافها ، وان كانت ساعدت في نقل المسؤولية من ايدي قيادته السياسية الى ايدي ملوك العرب المتواطئين مع اعدائها .

ويبقى القول ان من اكثر الامور غرابة ، والتي وقعت في الثورة ، ذلك التعاون الذي قام بين قيادتها السياسية ، والقيادة الصهيونية . كانت القيادة الصهيونية ، وقبل وقت غير قصير، قد انشأت جهاز استخباراتها . القيادة الفلسطينية – قيادة المفتي وبدعوى الحاجة للكشف عن الخونة والعملاء للانتداب البريطاني ، عرضت مشروع تعاون مع استخبارات القيادة الصهيونية ، لمساعدتها في التعرف على هؤلاء العملاء . القيادة الصهيونية رحبت بالعرض ، واقامت هذا التعاون الذي استمر بضع سنوات . وبواسطة هذا التعاون جرت تصفية العديد ممن دمغتهم القيادة الفلسطينية بالعمالة او الخيانة ، ناشرة حالة او جواً من الارهاب السياسي، خنق صوت المعارضة، اياً كانت منطلقاتها فيما بعد .

للمزيد عن هذا الموضوع اقرأ كتابنا – اطلالة 2 –

سأقفز هنا عن الجانب الآخر للثورة ، اعني متابعة القيادة الصهيونية لمجرياتها ، والاجراءات ، الافكار ، البرامج ، الخطط والاستعدادات التي وضعتها هذه القيادة الصهيونية ، استعداداً للايام والجولات القادمة.

وإذن نصل الى القول ان الشعب الفلسطيني خرج منهكاً من ثورته الكبيرة بكل المقاييس ، ولم يكن الانهاك فقط بفعل اجراءات القمع العنيفة ، والممارسات الوحشية، وافعال القتل والتدمير الهائلة ، التي نفذتها قوات الاحتلال . جانب كبير من الانهاك سببته اخطاء وانحرافات الثورة ، والتي اغرقت البلاد في بحر من الدماء ، وحيث حظيت هذه الانحرافات والتجاوزات والاخطاء ، بنوع من القدسية فيما بعد ، منعت التعرض لها او مناقشتها ، وبدعوى انها مكون طبيعي من مكونات الثورة، لا محيص عن وقوعها ، ولا مجال لتجنبها او معالجتها .

اثناء الانتفاضة الاولى والثانية واصلت مطالبة القيادة الوطنية والاسلامية بمعالجة بعض الانحرافات والتجاوزات. وعجزت عن فهم، ولوقت غير قصير ، سبب الممانعة في التقدم للمعالجة. عجزت عن الفهم اكثر لدوافع الملاحظات الساخرة التي ظل يواجهني بها الزملاء ، والتي ملخصها ان ابو وديدة يريد انتفاضة سوبر لوكس .وظلوا يتجاهلون حقيقة ان مطالبي تمحورت على ان لا تكون الانتفاضة سوبر وساخة .

على أي حال، عملت حالة الانهاك التي خرج الشعب الفلسطيني بها من الثورة على بقائه اشبه بالمراقب , او المنتظر لما تحمله الأيام القادمة . استمر هذا الحال على مدار سنوات الاربعينات والتي شهدت خروج عصابات صهيونية على الانتداب البريطاني ، وما اتصف به هذا الخروج من عنف ، كان من المفروض ان ينذر الشعب الفلسطيني بخطر ما هو قادم .

لكن التطور الاهم وقع على صعيد القيادة الفلسطينية . هزيمة الحليف العالمي ، المانيا النازية وايطاليا الفاشية ، او ما عرف باسم دول المحور – لم يجرد القيادة الفلسطينية من حليفها العالمي فقط ، بل ووضعها ، خصوصاً زعيمها المفتي  ، في موقع المطلوب للمثول امام محكمة العدالة الدولية .

رافق ذلك ، وربما سبقه بقليل، ان تحولت المشاركة العربية في الشأن الفلسطيني ، الى الاستفراد بهذا الشأن تماماًً بعد النجاح في ازاحة القيادة الفلسطينية جانباً، وحلول الجامعة العربية مكانها . وفي واقع الحال غدا الشعب الفلسطيني بدون قيادة ، وان بقيت الهيئة العربية العليا كذلك من الناحية الاسمية.

وفي هذه السنوات زاد التدخل الدولي في القضية الفلسطينية ، وتواصلت الزيارة حتى غدت الأمم المتحدة المقرر الرسمي للمصير الفلسطيني كما ظهر في قرارها للتقسيم المعروف باسم القرار 181 والصادر في 29/11/1947.

رغم كل هذا التعقيد في وضع القضية الفلسطينية ، لم تر الهيئة العربية العليا – القائد الأسمى للشعب الفلسطيني  ما يوجب اعادة النظر في برنامجها . فهي وقبل صدور قرار التقسيم ، ومع وصول اللجنة الدولية الى المنطقة ، عاودت القيادة الفلسطينية ترفع شعارات الرفض، سواء بخصوص مقابلة اللجنة ، التي استفردت بها القيادة الصهيونية استفراداً شبه مطلق، او اثناء مناقشة تفريرها في الجمعية العامة، وثم بعد صدور القرار.

الهيئة العربية العليا – القيادة الاسمية – رفضت القرار واصدرت سلسلة من البلاغات الخطابية المصرة على منع تطبيقه ، رغم معرفتها بأنها لا تملك ما يقربها من احتمالية تطبيق تهديداتها. وفي واقع الحال اثكلت الهيئة العربية العليا على الاعلانات العربية الرافضة للقرار، رغم علمها اليقيني بان النظم العربية قبلته واقعاً ورفضته لفظاً.

ما يعنينا ان الهيئة ، من مقراتها في القاهرة ، بيروت ودمشق ، بدأت من تحت الصفر بناء جيش الجهاد المقدس، دون ان تتوفر لها أية امكانيات جدية لاقامة هذا الجيش ، وفي واقع الحال استسلمت لوهم ان منع تطبيق القرار قد غدا مهمة عربية، يقع تنفيذها على عاتق الجيوش العربية ، القادرة حسب وهم الهيئة على انجازها . نقول انها استسلمت للوهم لسببين : الاول معرفتها التامة بان التضحية بفلسطين ، او باجزاء منها هي الطريق لضمان مصالح اكثر من نظام عربي يزعم بمساندة القضية ، ولمعرفتها باتصالات هذه الانظمة مع الحركة الصهيونية ، وعقدها لأكثر من اتفاق على حساب فلسطين ، بغرض تحقيق تلك المصالح .

الثاني ان القيادة الفلسطينية ، ومعها القيادات العربية، ظلت تجهل جهلاً تاماً كل ما يتعلق بمخططات, ومن ثم استعدادات, الحركة الصهيونية لاستلاب فلسطين وتطهير ارضها من اهلها الشرعيين . ومثلاً ساد الجهل حال القيادة والنظم العربية فيما يخص استعدادات الحركة الصهيونية العسكرية ، وقدراتها الفعلية ، من حيث التنظيم ، الادارة ، البنى التحتية ، السلاح ، التدريب ..الخ ..الخ

ويمكن القول بألم شديد ان دور القيادة الفلسطينية اثناء نكبة 48 اقتصر على دور المساعد الصغير للفعل العسكري العربي المنتظر . وبمعنى آخر استسلمت القيادة الفلسطينية لرؤية قائلة بان مهمة الدفاع عن فلسطين ، ثم مهمة تحريرها ، انتقلت لتكون عربية بدل ان تكون فلسطينية . ومنذ ذلك الوقت غدا هذا الحال عقيدة، رغم فشل العمل العسكري العربي ، ورغم النكبة التي ساهم
التواطؤ العربي في ايقاعها . هذه العقيدة هي ما حكم الفعل الفلسطيني اللاحق في اغلب مراحله .. وهو ما وسم فعل حركة المقاومة الفلسطينية الحديثة.

لمراسلة الكاتب عبر البريد الالكتروني التالي : abdulmajidhamdan@yahoo.com

23/4/2009