دخول الى حقل المحرمات ( 5 ) - بقلم عبدالمجيد حمدان

2009-04-03

عبد المجيد حمدان

دخول الى حقل المحرمات

( 5 )

على يافطة، رفعها المتظاهرون امام مكتب رئيس حكومة اسرائيل، كتبوا: شاليط يساوي الف فلسطيني. المظاهرة جرت بمناسبة فشل محادثات اتمام ما عرف باسم صفقة تبادل الاسرى ، والتي عقدت في القاهرة ، متزامنة مع جلسات الحوار الوطني الفلسطيني ، المعقودة في حرم جهاز المخابرات هناك.

لم تستهدف اليافطة والشعار استفزازنا ، كما أظن، بل كانت نوعاً من تقرير للواقع، كما هو حادث على الأرض . لكن الشعار لم يكن دقيقاً في تقرير هذا الواقع. فالمفاوضات كانت تدور حول مبادلة هذا الجندي العادي ، ابن الحادية او الثانية والعشرين ، بعدد يفوق على الألف من القادة السياسيين والعسكريين ، والمناضلين المخضرمين في السجون الاسرائيلية . يعني ان المعادلة الصحيحة ، التي كان يتوجب رفعها على اليافطة هي: شاليط، المواطن العادي، الجندي العادي، يساوي ألف زعيم سياسي وقائد ومناضل فلسطيني عريق. وبين هؤلاء وزراء، اعضاء برلمان، وحتى سكرتيري فصائل فلسطينية مسلحة ، مثل احمد سعدات ومروان البرغوثي، الذي تتوقع له بعض الدوائر السياسية والاعلامية، ان يحتل موقع رئيس السلطة ، بعد خروجه واجراء انتخابات عامة.

هل استهدف رافعو اليافطة القول للشعب الاسرائيلي: انظروا ما اكبرنا وما اصغرهم؟ هل استهدفوا التذكير بأنهم أمة مختارة لا يجوز التساوي بين افرادها وبين الآخرين؟! واذا كانوا قد قصدوا ذلك فعلاً أم نقبل نحن – ونحن نصف مطالبنا في هذه الصفقة بالانتصار على العدو ، وباجباره على الرضوخ لمطالبنا – بما يمكن ان يكونوا قد ذهبوا اليه في هذا الشعار وفي هذه اليافطة ؟!

رداً على سؤال المتحدث باسم حماس، فيما اذا كانت مطالبها لإتمام الصفقة تنطوي على مبالغة، أجاب بأن لنا في اسرائيل احد عشر الف اسير، ولهم اسير واحد، وان مطلب حماس للتبادل وقف عند عُشر، العدد الكلي للأسرى الفلسطينيين ، فأين المبالغة في المطلب؟!

بهذه المناسبة، وعندما كانت تجري مباحثات الصفقات السابقة، ظلت تعاودني ذكرى محادثات لتبادل الاسرى ، وقعت اثناء حرب فيتنام . جرت احدى هذه المحادثات حول تبادل اثنين من طياري الطائرات القاذفة الاستراتيجية ب 52 ، العملاقة، كانت طائرتهما قد اسقطت فوق فيتنام الشمالية . بدا ان هذين الطيارين يحتلان مواقع مهمة عند القيادة الاميركية . ولذلك كانت هذه القيادة مستعدة لتلبية أي مطلب فيتنامي ، مهما بلغ به الشطط، لإتمام صفقة التبادل.

اوهم الفيتناميون الجانب الأميركي بأنهم سيطلبون اطلاق سراح اعداد كبيرة من مقاتليهم الأسرى مقابل هذين الطيارين . لكن فوجيء الأميركان عند اتمام الصفقة بأن القائمة الفيتنامية للتبادل اقتصرت على فتيين – صبيين – مقابل الطيارين. دهش المفاوض الاميركي من الطلب الفيتنامي . رد الفيتناميون بأنهم يرون ان الصفقة متكافئة ، وحيث ان الفتى الفيتنامي يكافيء الطيار الاميركي المحنك. قالوا: المسألة مسألة قيم . نحن نقيم مواطننا تقييماً عالياً. الصغير عندنا، كما نرى ، يساوي الكبير عندكم . وهكذا تمت الصفقة . وللأسف فالامر معكوس عندنا . الصغير الاسرائيلي يساوي العديد العديد من الكبار عندنا.

لم تكن صفقة شاليط هي الأولى عندنا. سبقها صفقات، ومنها ما هو مع حزب الله اللبناني ، وكلها جرت على نفس القاعدة . وفيها كلها اقمنا احتفالات النصر .. ولم نتوقف مرة واحدة للنظر في الجانب المعنوي، عند مسألة القيم ، وبينها القيمة الحقيقية لإنساننا، كما نراها نحن ، وكما يراها عدونا .

ولم تشكل صفقات تبادل الأسرى المؤشر الوحيد على الاختلال الكبير والخطير، الذي طرأ على الميزان القيمي الفلسطيني . حراس المقدس الفلسطيني بدورهم، واصلوا، وعلى مدى طويل، احداث الخلل في هذا الميزان القيمي. واظن ان الحاجة ، قد غدت ملحة، للوقوف على جوانب الخلل من جهة، وعلى الكيفية التي تم بها احداث الخلل من جهة اخرى. لكن قبل ذلك دعونا نواصل الوقوف عند قضية الأسرى وجوانب الخلل الذي رافق هذه القضية الهامة.

بعد عودة المنظمة تواصلت المفاوضات هنا في الداخل. آنذاك بدا ان الجانب الاسرائيلي يحاول جر المفاوض الفلسطيني للغرق في قضايا فرعية. كرس بشير البرغوثي، في مقالاته الاسبوعية، في صحيفة الطليعة المقدسية، جهداً كبيراً لتحذير المفاوض الفلسطيني من الانزلاق الى الافخاخ الاسرائيلية، فالغرق في قضايا فرعية. اشار، سكرتير عام حزب الشعب آنذاك، ابو العبد، الا ان الى حساسية بعض هذه القضايا الفرعية، والى خطورة الانزلاق اليها، وفي المقدمة قضية الاسرى. اوضح ان المفاوض الاسرائيلي سيجعل منها ، في حال انزلاق المفاوض الفلسطيني ، مواضيع ابتزاز ، لأن الجمهور الفلسطيني ، بما يكنه من عاطفة، ومشاعر جياشة ، تجاه هؤلاء الابناء، سيضغط بشدة على المفاوض الفلسطيني أملاً في الحصول على نتائج مباشرة منها . كما اوضح ان مثل هذه المواضيع الفرعية غير ممكنة، ان لم تكن مستحيلة ، الحل قبل وصول المفاوضات الى نتائج نهائية حاسمة .

لم تقع تحذيرات ابو العبد والطليعة على آذان تسمع . وقع المفاوض الفلسطيني في الفخ الذي نصبه المفاوض الاسرائيلي . وكان بدل ان يجري علاج هذه القضايا او المواضيع الفرعية، في الاطار العام ،  كان ان تحولت الى مواضيع اساسية وبحد ذاتها . والأهم انها اشاعت عند اهالي الأسرى ، اوهاماً كبيرة، بامكانية النجاح فيها ، والحظوة بامكانية حتضان ابنائهم وآبائهم واخوتهم وازواجهم .. وفي وقت قريب. ولما لم يحدث ذلك تحول هذا الجمهور لانحاء اللائمة على تقاعس المفاوض الفلسطيني واهماله لهذه القضية الحساسة . وهكذا تحولت قضية الاسرى ، وموضوع تحريرهم ، الى موضوع ابتزاز في يد المفاوض الاسرائيلي، والذي استغله بكفاءة عالية.

ومع ان التجربة اكدت، ما ذهبنا اليه في الطليعة ، من استحالة حل هذه المسألة الفرعية، قبل الوصول الى نتائج حاسمة لقضايا الحل النهائي ، الا ان المقدس الفلسطيني حال دون اعادة النظر فيها . وعلى العكس تضاعفت الضغوط المحلية على المفاوض الفلسطيني . وتحولت هذه القضية الفرعية الى قضية رئيسية ، تفرض نفسها على جدول المفاوض الفلسطيني ، وتتقدم على القضايا الرئيسية الأخرى.

فقبل كل جولة جديدة للمفاوضات، يبادر نادي الأسير ، والمنظمات غير الحكومية الأخرى، المهتمة بشؤون الأسرى ، والاهالي، الى القيام بمظاهرات تطالب المفاوض بالتركيز على قضية الأسرى ، والأهم تطالبه بضرورة احراز نتائج ايجابية، وتتمثل في تحرير كم من هؤلاء الاسرى.

وفي خطابات الرئيس ، والخطابات السياسية الأخرى، صار هذا الموضوع يحتل مكاناً ثابتاً من الخطاب . كما يضطر الرئيس ، واي سياسي، لإصدار تعهدات باحراز نتائج ملموسة، ايجابية، في هذا الموضوع، مع علمه، وكما تؤكد تجربته ايضاً، ان احراز هذه النتائج الايجابية هو من سابع المستحيلات، في هذه المرحلة من المفاوضات . لكن ظل يسيطر على ذهن القادة ، ومنهم الرئيس ، ان موضوع الاسرى ، واظهار الاهتمام به، يشكل احد عوامل الحصول على الشعبية. والناظر للمسألة من الجانب القيمي يرى كيف ان الخداع، كما هو بارز في هذه المسألة ، وحتى الكذب، بات قيمة ايجابية لا غنى عنها ،وعند طرفي هذه المعادلة .

اسرائيل بدورها ، والتي نصبت هذا الفخ ، ودفعت المفاوض الفلسطيني للوقوع فيه ، طورته الى موضوع ابتزاز فعال من جانبها . أقله ان المفاوض الاسرائيلي نجح في استبعاد أي موضوع رئيسي من موضوعات الحل ، من جدول الاعمال. وظل هذا الجدول يقف عند حدود الموضوعات الفرعية ، مثل ازالة حاجز هنا او هناك، دفع جزء من المستحقات المالية ..الخ.

ولأن اسرائيل وعت من البداية قوة الضغط التي يواجهها المفاوض الفلسطيني ، بخصوص موضوع الاسرى، ابتدعت، ولا اقول ابتكرت، ما صار يوصف بمكرمات الحكومة الاسرائيلية في هذا الموضوع الحساس . وما زالت طرية في الذاكرة مكرمات اولمرت باطلاق سراح مجموعات، تتكون كل واحدة من قرابة مئتين وخمسين ، من هؤلاء الأسرى.

الانقلاب في الميزان القيمي الفلسطيني ، تجلى واضحاً في التلقي الفلسطيني لهذه المكرمات الاولمرتية. ومثل التعامل مع كل هزيمة، والتي تتحول بقدرة قادرة الى نصر، جرى التعامل مع المكرمات الاولمرتية . ورغم ان اولمرت وحكومته اعلنوا ان المكرمة القاضية بالافراج عن اسرى من فتح، ومن فصائل متحالفة معها، يستهدف تعزيز مكانة الرئيس عباس ، وحكومة السلطة ، ومن اجل تقوية فتح في مواجهة حماس، الا ان الجانب الفلسطيني لم ير في الأمر اية اهانة. وكالعادة قلب الحال وصوره على أنه نصر. ولأن العقل الفلسطيني مقيد بالمقدس الفلسطيني ، فقد تجاوز هذا الفعل  التساؤل عن كيفية تحول المكرمة هذه الى نصر.

لقد جرى استقبال المجموعات المفرج عنها، بموجب المكرمات الاولمرتية، بكل مظاهر النصر. السلطة، والرئيس اقاموا استقبالات رسمية، توالت فيها الخطابات التي تؤكد ان الجاري هو عملية تحرير، حدثت بفعل انتصار للمفاوض الفلسطيني . والمستقبلون المبتهجون لم يروا في الأمر أية اهانة. وعلى العكس هتفوا وصفقوا وطافوا بالاعلام ، واطلقوا الصفارات ، ابتهاجاً بهذا النصر . واما المفرج عنهم بموجب هذه المكرمات الاولمرتية فقد صدقوا انهم محررون فعلاً. ورغم توقيعهم على المستند الذي قدمته سلطات الاحتلال ، قبل الافراج عنهم، اقتنعوا، او اقنعوا انفسهم ، او قبلوا وتجاوبوا مع مظاهر الاستقبال ، ومنها اطلاق زخات من الرصاص ، وحفل عرس دام بضع ليالي ، بأنهم اسرى محررون. ولأنهم كذلك فمن حقهم ان ينالوا مكافأة، اجتماعية : اعتبارية، ومادية، تتناسب والصفة الجديدة:  مناضل محرر . وكان ، في الغالب، ان حصلوا على ما رأوه حقاً للمناضل المحرر ، او الاسير المحرر.

لا يقف موضوع الخلل في الميزان القيمي الفلسطيني ، الخاص بالأسرى، عند هذا الحد . فالتجربة الاعتقالية، او تجربة الأسر، تتشعب وتتنوع مركباتها وعواملها . واختصاراً يمكن وصفها بالتجربة المعقدة . وهذه التجربة تعرفها الاغلبية من الاجيال ما فوق العشرين من العمر ، بعد ان مرت بها.

لا احد يتجاوز الحقيقة ان قال ان ليس كل من دخل المعتقل مناضل. والحقيقة تقول ان الاكثرية من المعتقلين لا يمكن تصنيفهم بالمناضلين . نسبة كبيرة من هؤلاء هم اما ضحايا ثرثرة، واما ضحايا اعترافات لمسؤولين عن انتساب لفصائل مقاومة، وفي المرحلة المبكرة، التي قد تكون عرضاً كلامياً وعرضياً هامشياً. والحقيقة تقول بانه، باستثناء الثرثرة، والمظهرية ، لم تنخرط الاغلبية في فعل المقاومة. وبعض الذين ينالون احكاماً عالية، ينالونها نتيجة سذاجة توقعهم في شباك خدع المخابرات، او نتيجة اعترافات من مسؤوليهم ، يوقعون عليها، وهم لم يمارسوا ، وحتى لم يعرفوا، اغلبها.

هنا لا بد ان يلفت الانتباه ذلك التغير الذي حدث على مفهوم الصمود . من خاض التجربة الاعتقالية يتذكر، بدون شك ، الكيفية التي كان يتم بها التعامل مع هذه القيمة العليا، أي الصمود. هذه القيمة تبدلت الى درحة ان الاشارة اليها كانت تقابل بالهزء والسخرية ، وحيث يصير الصامد موضوع تندر، بدل ان يكون موضع احترام . ومن البداية لا يكون المعتقل مطالباً بالصمود ، بل الاعتراف بما عنده، وبما ليس عنده، تجنباً للعذاب ، الذي حسب مفهوم المسؤولين ، لا بد وان ينتهي بالاعتراف .. فلماذا اذن اطالة الطريق بدون نتيجة؟!

وحسب معلوماتي لم يجر يوماً ، في اغلب الفصائل ، اعادة تصنيف للمعتقلين – الأسرى – على اساس الصمود. ولم يجر تمييز بين الصامدين والمعترفين . والوقائع تقول ان التمييز، في واقع الحال، يحدث، لكن لصالح المعترفين.

نسبة غير قليلة من المعتقلين تكون في العادة، من الشباب حديثي العهد بالتنظيم. وهؤلاء، في الغالب ، لم ينالوا قسطاً مقبولاً من عملية صقل الوعي ، او توسيع المعارف . وهم في هذا الحال لقمة سائغة للمحققين المحنكين ، اصحاب الخبرة وذوي التجربة الطويلة. ويحدث كثيراً ان يُدخل المحققون في روعهم، ان التجاوب مع المحقق، وبالتالي التوقيع على ما يسند للمعتقل من تهم، مجرد مسألة شكلية، بعدها يتم الافراج عنهم . وبسذاجة، وبسبب شح الوعي، يوقع المعتقل على ما يطالب به، ليفاجأ في المحكمة بتهم تستوجب احكام عالية.

ليس ذلك فقط ، بل ونشأت في المعتقلات قيمة جديدة، تقول بأن من تجر اعترافاته عدداً اكبر من المعتقلين يتحول الى قائد لهم، وان الذي ينال احكاماً اعلى ، ولو على تهم لا علاقة له بها، يحتل مكانة نضالية اعلى.

ولأن المحققين دائماً يستغلون ضعف المعرفة وشح الوعي لدى المعتقل ، فإنهم غالباً ما يبدؤون بمحاولة جره للتعاون معهم . وليست نادرة هي الحالات التي نجحوا فيها . ونسبة الذين ينزلقون الى هذا المهوى ليست قليلة ايضاً.

هل هناك داع للتذكير بأن كل دفعة من "المحررين! تتكون من كل التشكيلات السابق ذكرها؟ أي تحوي صامدين مناضلين حقيقيين، كما تحوي انتهازيين وصوليين ومتساقطين متعاونين؟!

في كل الدنيا تجري عملية فرز لهؤلاء . فرز يستند الى مراجعة رقيقه لسير تهم كلها ، قبل الاعتقال، في التحقيق ، في المعتقل ..الخ.  وفي كل الدنيا ، وقبل دمجهم في الوظائف المدنية، وغير المدنية، تجري لهم عمليات تسمى اعادة تأهيل، وهو ما لا يحدث ، وما لم يحدث عندنا.

ولتقريب القاريء من جزء من التجربة العالمية، نعيده الى الكيفية التي تصرفت بها الدول مع افراد جيوشها، بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية ، او بعد الحرب الفيتنامية . بعض هؤلاء عايش الحرب والمعارك اكثر من ست سنوات . وآخرون عايشوها اكثر من ذلك بكثير . اعداد غفيرة منهم حصلوا على اوسمة بينها اعلاها في بلدانهم . وقليلون حصلوا على الوسام العالي اكثر من مرة.

بعد الحرب عادوا الى حياتهم المدنية . وكان على الدولة اعادة دمجهم في وظائفها . واذا اخذنا المقياس الفلسطيني يتوجب ان نرى ان حكومتي الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي، لا بد ان تكون قد واجهت معضلة استيعاب ابطالها الحائزين على اعلى اوسمتها. ، لأن الوظائف المناسبة  غير متوفرة في جهاز الدولة المدني. والبلدان، وبدل ان تفصلا الوظائف الملائمة والمناسبة اعادتا تأهيل هؤلاء الابطال للوظائف المدنية التي كانوا يشغلونها قبل الانتقال الى ساحات الحرب. واكثر من ذلك لم تمنحهم سنوات الخدمة في الجيش اية امتيازات بما في ذلك حسابها في الخدمة المدنية . والأمر ذاته جرى في  كل الدول التي دخلت هذه الحرب بريطانيا وفرنسا ، والتي شهدت مقاومة للاحتلال الألماني، برز فيها ابطال حقيقيون مبدعون.. ومع عدم دقة معلوماتي عما حدث في فيتنام لكن واقع فيتنام يقول ان الوظائف المدنية لم تذهب الى ملايين المناضلين ، بدعوى حق هؤلاء المناضلين في تلك الوظائف. والا فمن اين لفيتنام ان تبتدع وظيفة مناسب مسقطي الطائرات الاميركية الاستراتيجية؟!

عندنا جرى الحال كالتالي. كما سبق وأشرت لم يتم اية عملية مراجعة او فرز للمناضلين او للأسرى المحررين . وظل عدد سنوات الحكم على الأسير  هو العامل الفيصل في تحديد الوظيفة . واذا كانت الوظيفة عسكرية يحصل  المحكوم بأكثر من خمسة عشر سنة على رتبة عقيد، مع احتساب سنوات الاعتقال . اما اذا كانت مدنية فلا بد ان تكون مدير عام ، حيث تحدد عدد سنوات الاعتقال الدرجة في منصب المدير العام هذا .

وأيا كان حال المحرر هذا في داخل المعتقل، فإنه يتم اسدال الستار على مسيرته تلك ، لتبقى منها سيرة المناضل المحرر، مع ما يليق بها من مكانة اعتبارية، اضافة للوظيفية.

لا يجب ان يُفهم مما سبق أنني أعارض مكافأة المناضل. وعلى العكس هناك ضرورة لأن يتم ذلك . لكن يتوجب الأخذ في الاعتبار ان الوطن دخل مرحلة اعادة بناء. وهذه المرحلة تحتاج الى كفاءات مستندة الى تأهيل علمي مناسب. وغير ذلك يكون الحديث عن اعادة البناء والاعمار والتطوير مجرد ثرثرة لا غير.

القداسات التي اوجدتها المسيرة النضالية الطويلة ، حالت دون النظر في صحة ما يوصف بالاقتباسات عن الثورات الناجحة ، واعادتها لتشكيل السلطة. الثورة الروسية مثلاً عهدت بسلسلة طويلة من وظائف الدولة الرئيسية الى مناضليها الذين كانوا يفتقرون الى التأهيل المناسب. ومثلها فعلت الثورة الصينية . لكن السلطة الثورية الجديدة عوضت النقص بأن اقامت سلسلة كبيرة ايضاً من معاهد اعادة التأهيل، ورفع الكفاءة ، وحيث كان المناضل يمارس وظيفته في النهار ويلتحق بالمعهد في الليل.

بديلاً لذلك انتهجت اغلبية الفصائل الفلسطينية سبيل الحط من قيمة العلم. استعاضت عن المؤهل العلمي بمؤهل الانتساب للفصيل . وكانت صحيحة النكتة القائلة بأن شهادة الانتماء لفتح، او لحماس، تعادل او تتفوق على شهادة الماجستير ، وحتى الدكتوراه من جامعة اوكسفورد.

وفي المعتقلات بلغ الحط من قيمة العلم اعلى درجاته . ومن عايش التجربة الاعتقالية يعرف كم هي مجافية للحقيقة مقولة تأهيل المعتقلين جامعات السجون والمعتقلات . وهذه المقولة ، في الواقع، صحيحة تماماً اذا كان المقصود بالتأهيل التعصب للفصيل . لكن اذا كان المقصود الاستفادة من المكتبات المتوفرة في المعتقلات لزيادة التثقيف ، او لصقل الوعي، فالمقولة يعتورها الكثير الكثير من عدم الدقة . صحيح ان نسبة من المعتقلين تستغل فراغ السجن في المطالعة ، وتثقيف الذات . لكن الأغلبية، وبفعل توجيه القيادات ، تفعل غير ذلك . كانت تلك واحدة من التجارب المريرة التي عانيتها شخصياً في المعتقل .

ولا اكون مخطئاً ان قلت انه يحدث ، ولأول مرة في تاريخ الثورات، ان يكافأ المعتقل بشهادة علمية لا يستحقها. وبعد خروجه من المعتقل تكون هذه الشهادة كرت الانتساب الى الجامعة، ليبنى كل تحصيله الجامعي على فراغ .

في المعتقلات جرت العادة ، ما تزال ، ان تتم مساعدة المعتقل للحصول على شهادة التوجيهي . ويحدث ان يتقدم للحصول على هذه الشهادة من لم يكمل المرحلة الاعدادية ، ولا يعرف شيئاً عن مناهج الثانوي. وفي الامتحان ينجح هذا المتقدم ويحصل على الشهادة .

لا اعرف حتى الآن من الذي ابتدع هذه الغواية . لكن وبدعوى النضال تحول الغش في الامتحانات من رذيلة الى فضيلة . بل ويمارس هذه الفضيلة الجديدة كل المقيمين في المعتقل.. من اجابة الاسئلة الى نسخها وتوزيعها على "الطلبة!"، الى كتابتها على الدفتر بدلاً عنهم ، كما في امتحانات اللغة الانجليزية مثلاً. ومن غير الضروري ان اشير الى انني تعرضت شخصياً الى مضايقات متنوعة ، جراء معارضتي لهذه الفضيلة، وجراء محاولتي انشاء نوع من المدرسة داخل سجن الخليل اواسط السبعينات.

بعد مجيء السلطة واجهتنا في قيادة حزب الشعب معضلة . جرى التصرف على ان الارض المحتلة – القدس ، الضفة ، وغزة – غنيمة ، او كعكة ، تجري عملية تقسيم لها بين الفاتحين . وهنا فعل الاختلال القيمي فعله. طالب كل من زعم انه على علاقة بالمقاومة ، من قريب او بعيد ، بحصة من هذه الكعكة . واستأثرت فتح كعادتها، وكما سبق واشرت ، بالحصة الأكبر . وكعادتها ايضاً قامت بتوزيع فتات الباقي على الآخرين . ولم يتوقف الأمر عند حد اعتبار العائدين للأرض المحتلة – التي غدت محررة ، هكذا - مزرعة خاصة ورثوها ليس عن آبائهم ، ولكن بحق نضالهم .

بدأت عملية بناء مؤسسات تهيء لاقامة الدولة العتيدة ، والتي ستشهد مرحلة صراع اعلى مع اسرائيل ، كونها مرحلة صراع حضاري. هذا الصراع القادم تم تجاهله تماماً. ورأت قيادة السلطة الجديدة ان المسألة ، مسألة بناء المؤسسات،  هي في شكلها ومضمونها مسألة استيعاب جيش المناضلين، في وظائفها.

وبصورة غير مسبوقة في التاريخ ، حسب معلوماتي المتواضعة ، جرى استحداث مناصب او وظائف تتناسب مع السيرة النضالية لهؤلاء المناضلين، من جاء منهم من الخارج ، ومن كان من الداخل . انشئت في الوزارة الواحدة، على سبيل المثال ، عشرات الوظائف لمسمى المدير العام . وعدد من وظائف مساعد وكيل وزارة .. وغيرها كثير.

وفي مؤسسات الأمن كان عدد الرتب العليا كبيراً الى حد ان كان التندر بها على كل لسان . قيل مثلاً ان عدد العقداء في جيشنا يتفوق على مثيلهم في الجيش الاميركي. وقيل ان عدد المدراء العامين عندنا تجاوز امثالهم في الصين ، الامر الذي يدل على اننا دولة اكبر من هاتين بكثير.

المهم اننا في قيادة الحزب ووجهنا بمعضلة . تتمثل المعضلة في أن الرفاق ضغطوا للحصول على نصيبهم من الكعكة. فالذين قضموا من هذه الكعكة لم يقدموا اكثر منهم ، ولم يتفوقوا عليهم في أي مجال . وفي حالات كثيرة كان العكس صحيحاً.

تمثلت المعضلة في أننا في قيادة الحزب لم نقبل بمقولة ان الارض المحتلة غدت غنيمة للمناضلين . ولم نقبل بأي حال رؤية البعض لها كمزرعة آلت لهم بحق الميراث . ولم نر في المؤسسات الناشئة ، مدنية او عسكرية ، كعكة يمكن تقاسمها . حكمتنا رؤية الصراع القادم بصورته الحضارية. وتماشياً مع هذه الرؤية ، رأينا ان يكون بناء مؤسسات السلطة عتبة لدولة متحضرة ، يكون التطوير ، التقدم العلمي ، الامساك بمفتاح التكنولوجيا ..على رأس جدول مهماتها القادمة. ومثل هذا التصور يقتضي ان تكون الكفاءة والاهلية العلمية هي معيار شغل الوظائف العامة.

هكذا رفضنا التجاوب مع مطالب الرفاق ، الذين كانت تدفعهم الحاجة الماسة من جهة ، والتنافس ، او التنابز ، مع القوى الاخرى من جهة اخرى .. وكان ان شدة الضغط اجبرتنا على التراجع والتجاوب الجزئي المحدود معها.

لكن مصيبة المصائب كما يقال ، تمثلت في تجاوز هذه الاجراءات ، المستمدة من الانقلاب في ميزان القيم ، لوظائف مؤسسات الدولة العامة ، لتصل الى الجامعات.

قبل ذلك،  ولتوفير المال من اجل الوظائف المستحدثة ، وما رافقها من امتيازات شكلت عناوين صارخة للفساد ، جرى الابقاء على الحال المتردي لقطاعات التربية والتعليم. وانعكس حال المعلم المتردي ، والفقر في توفير الاحتياجات المدرسية ، على التعليم في اكثر من مجال. وكان واضحا ان اهمال التعليم ، بهذه الصورة الفاضحة ، يعكس واقع ان المتنافسين على تقسيم الكعكة ، لم يضعوا في اعتبارهم ، أي تصور لبناء دولة متقدمة ، رغم كل الصخب الذي نشروه في هذا المجال.

وكما اشرت وصل هذا الحال الى الجامعات . فلقد استغلت السلطة واقع مساهمتها بحصة من ميزانيات الجامعات ، لتدعي حقاً للتدخل في سائر شؤونها ، بما في ذلك حق توظيف المحاضرين ، بعيداً عن معايير الكفاءة العلمية التي تقتضيها العملية التعليمية الجامعية. وكثيرون هم الذين جرى تعيينهم على اساس شهادة الانتساب للتنظيم، تعويضاً عن شهادات التخرج الجامعية. واكثر من ذلك اعطي لمجالس الطلبة، التي سيطر عليها خريجو السجون في فترة معينة، صلاحيات اعلى من صلاحيات أساتذتهم ومن  الهيئات الجامعية.

هل نجانب الحقيقة ان اشرنا الى ان التعليم ، بدءاً من المدارس الأساسية ، وانتهاءاً بالجامعات يسير في خط تراجعي متواصل ، ومنذ بدء اقامة مؤسسات السلطة ؟! وكيف يحدث ان التدخل بالضغط على استاذ الجامعة للتساهل مع طالب مناضل !" ومنحه علامات غير مستحقة ، هذا التدخل كيف يحدث بأن يغدو  فضيلة ، وفضيلة مقبولة غير معترض عليها؟! وكيف غدا فضيلة التدخل لترفيع هذا الاستاذ او ذاك رغم ان سجله الجامعي لا يؤهله لذلك؟!

لم يفعل هذا الانقلاب القيمي ما سبق واشرنا اليه فقط . كان للانقلاب القيمي انعكاسات شتى. غدا  كل شيء مقلوبا، واقفاً على رأسه . ولم ير حراس القداسة ان كل ما يجري يتعارض مع منطقهم للقداسة. لم يروا ولا يرون ان هذه الشقلبة في كل شيء لا تخدم مقاومة، ولا يمكن ان تنتج تحرراً ، كما لا يمكن ان توصل الى استقلال.

في العام 1995 استضافني نادي الحزب الشيوعي في مدينة الطيرة بالمثلث. قبل اللقاء اتفقت مع منسق الدعوة على الحديث بصراحة تامة. قلت ما ملخصه ان طريق بناء المؤسسات الفلسطينية ، ومجمل طريق نشاطها العام لا يمكن ان يفضي الى تحقيق الآمال المعلنة بازالة الاحتلال واحراز الاستقلال واقامة الدولة المستقلة . لم يرتح الجمهور لما قلت ، وانبرى بعضهم لمعارضته، زاعمين ان طرحي يحبطهم بدل ان يرفع معنوياتهم. وكان ان توقعاتي التي عرضتها آنذاك جاءت متفائلة قياساً لما حدث . وكان ان أمل الخلاص من الاحتلال ما زال يبتعد .. وحيث يبدو ان الاستقلال واقامة الدولة قد تحولا الى نوع من سراب. سراب يراه كل الناس ، والكثير منهم توقف ، عن الجري وراءه.

لمراسلة الكاتب عبر البريد الالكتروني التالي : abdulmajidhamdan@yahoo.com

3/4/2009