مواقف حزبنا الشيوعي الاسرائيلي في امتحان التاريخ ( 2 )

2009-03-31

النائب دوف حنين
عضو الكنيست الاسرائيلي
عضو المكتب السياسي
الحزب الشيوعي الاسرائيلي

مواقف حزبنا الشيوعي في امتحان التاريخ

( 2 )

  • نتائج الانتخابات للكنيست الـ 18 أكّدت هي أيضا حقيقتين لا جدل عليهما: إننا القوة الأولى بين الجماهير العربية من جهة وأننا القوة اليسارية الأولى في البلاد من جهة أخرى، ومن هنا فإن علينا كشيوعيين التعامل مع الجبهة وتطويرها بنفس الثقة التي عمل بها حزبنا في المؤتمر الثامن عشر، ولهذه القضية سأخصص هذه المقالة.

عند مراجعة تسعين عاما على تاريخ الحركة الشيوعية في البلاد، لا بد من التوقف بشكل خاص عند المؤتمر الـ 18 للحزب الشيوعي الاسرائيلي في العام 1976، فهو الأهم على الإطلاق منذ الانشقاق في العام 1965. هو المؤتمر الأهم، لأنه مؤتمر الثقة بالنفس: فقد كان هذا هو المؤتمر الأول بعد أحداث يوم الأرض من جهة ونصر جبهة الناصرة بقيادة توفيق زياد من جهة أخرى مع ما حمله هذان الحدثان البارزان في نضال الجماهير العربية من دلائل أكّدت أن حزبنا الشيوعي تمكّن بقيادته الحكيمة الجريئة من تعزيز مكانته قوة ريادية أولى بين الجماهير العربية في معاركها من أجل السلام والمساواة.

هذه المكانة المرموقة بين الجماهير العربية لم تنسِ حزبنا تركيبته العربية اليهودية وأهمية العمل على استقطاب قوى اليسار الاسرائيلية أيضا، ومن هذا المنطلق وعلى اعتبار أن المصالح الحقيقية للشعبين لا بد أن تلتقي أعلن حزبنا وهو في أوج قوته، عن إقامة الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة، لتكون جبهة لمختلفين يلتقون على أسس سياسية واضحة.

نتائج الانتخابات للكنيست الـ 18 أكّدت هي أيضا حقيقتين لا جدل عليهما: إننا القوة الأولى بين الجماهير العربية من جهة وأننا القوة اليسارية الأولى في البلاد من جهة أخرى، ومن هنا فإن علينا كشيوعيين التعامل مع الجبهة وتطويرها بنفس الثقة التي عمل بها حزبنا في المؤتمر الثامن عشر، ولهذه القضية سأخصص هذه المقالة.

الجبهات بين الاتفاق السياسي والخلاف الأيديولجيالمؤتمر الـ 18 للحزب، ميّز بشكل واضح بين شرعية الخلاف الأيديولوجي بين مركبات الجبهة وبين ضرورة وضع برنامج سياسي واضح لا لبس فيه.

وبناء عليه أكد المؤتمر المذكور على ضرورة ألا توضع حواجز فكرية أمام الراغبين بالانضمام للجبهة، وهو ما عاد المؤتمر الأخير، المؤتمر الـ 25 للحزب، للتأكيد عليه، إذ جاء في البند السابع وتحت عنوان "الجبهة" أن "الجبهة الحقيقية هي بتعريفها شراكة المختلفين. الجبهة تستلزم انفتاحا ورحابة صدر متبادلة. الجبهة تختلف عن الحزب. في الجبهة تهمّ، بالذات، الموافقة السياسية الأساسية. في الحزب تهم الحدّة الفكرية."

وبناء على هذا الموقف التاريخي الثابت، جاء في القرار الرابع من قرارات الجلسة السابعة للجنة المركزية للحزب، في 13 آذار 2009، التأكيد على أهمية "العمل على بلورة شراكة بين قوى اليسار في اسرائيل، فيما يتجاوز الخلافات القائمة بينها في القضايا الأيديولوجية، على أساس برنامج سياسي واضح: دولتان للشعبين في حدود 4 حزيران 1967، مناهضة الاحتلال والحروب، المساواة التامة للجمهور العربي في البلاد، الشراكة اليهودية- العربية، نبذ الانغلاق القومجي، الالتزام بالقيم الاشتراكية، النضال الاجتماعي البيئي التقدمي والمساواة الحقيقية للنساء."

وقد أكدت اللجنة المركزية إن أي شراكة يسارية من هذا النوع يجب أن ترتكز على الشراكة القائمة حاليا في الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة ومن خلال بذل الجهود لتوسيعها وتطويرها.

* هل نحن، اليوم بحاجة إلى جبهة واسعة؟!*طبعا، ليس فقط أن مصلحة شعبيّ هذه البلاد تتطلب جبهة يسارية حقيقية، بل أن مسؤولية بناء هذه الجبهة ملقاة على عاتقنا نحن، خاصة في الوضع الراهن، الناتج عن انتخابات الكنيست الـ 18 وانهيار ما سميّ باليسار الصهيوني مقابل انتعاش الجبهة وتعزيز مكانتها بين الجمهورين: العربي واليهودي.

السياسة الاسرائيلية اليوم في أزمة، ونحن كشيوعيين مطالبون بإيجاد الفرصة في هذا الوضع، لقيادة معسكر اليسار.

وفي عودة للمؤتمر الخامس والعشرين للحزب، نجد في الفصل الرابع من مواد المؤتمر، تحت عنوان "تزايد المخاطر على الهامش الديمقراطي وخطر الفاشية" ما يلي "مواجهة المخاطر المحدقة بالديمقراطية تحولت إلى تحد اجتماعي سياسي من الدرجة الأولى. السؤال "من يعزل من؟" أصبح أكثر إلحاحا. في هذا المجال هنالك امكانيتان أساسيتان: إما أن يعزل اليمين الاسرائيلي الترانسفيري اليسار والجماهير العربية في البلاد وإما أن تهزم قوى الديمقراطية اليمين."

وأما في البند الثامن وتحت عنوان "التحدي أمام الشيوعيين" فقد جاء: ".. لكن الأزمة تنتج امكانايات أخرى. أكثر مما كان في الماضي، ثمة أمل اليوم لبديل يساري حقيقي. التحدي التاريخي الكبير أمام الحزب الشيوعي هو العمل على طرح هذا البديل أمام المجتمع الاسرائيلي. لدينا مهمة أساسية ببلورة البديل اليساري المطلوب. على أساس رؤيتنا تمكنا من الوقوف بالامتحانات في السنوات الأخيرة: لم ننجر خلف التيارات السلبية القوية، وطرحنا- حتى في الأيام القاسية وفي فترات التخبط السياسي بين الجمهور- إجابات سياسية واضحة وصحيحة. الحفاظ على تميزنا هذا هو الشرط الأول لنجاحنا.

وبعد قراءة متأنية لنتائج الانتخابات البرلمانية الأخيرة، ومع الإشارة إلى التصاعد المقلق لقوى اليمين الفاشي والترانسفيري في البلاد، لم تكتف اللجنة المركزية في جلستها السابعة بالدعوة آنفة الذكر إلى بناء جبهة يسارية، إنما دعت إلى بناء جبهة للتصدي للفاشية المتصاعدة، ليس فقط بين قوى اليسار الحقيقية، وفيما يلي القرار إياه "علينا استثمار الجهود ببلورة التعاون بين القوى الديمقراطية في المعركة ضد المحاولات بفرض أجندة فاشية في البلاد. تعاون كهذا، علينا أن نطوره مع عناصر تعارض العنصرية وتلتزم بالديمقراطية، حتى إن كانت بعيدة عنّا في أسئلة سياسية أخرى. على هذه الجبهة أن تكون مناهضة للفاشية وواسعة أمام مخاطر اليمين المتطرف المتربصة. هذا التعاون حيوي في إثر الظواهر الخطرة كقرار المستشار القضائي للحكومة بمحاكمة النائب محمد بركة، عضو المكتب السياسي للحزب الشيوعي ورئيس الجبهة، بالادعاء الملفق، أنه اعتدى على شرطيين خلال مظاهرات ضد الحرب على لبنان وجدار الفصل في الضفة الغربية."

هذا القرار يعني أن علينا التعاون لصد الفاشية، حتى مع قوى يمينية ليبرالية متحررة من الخطاب الترانسفيري، رغم كل الخلافات ورغم تأكدنا من أن هذا التعاون لهدف عيني لن يؤدي بأي شكل من الأشكال إلى شراكات سياسية بعيدة الأمد.


أين تقف حدود الجبهة؟!ثمة أهمية للتمييز بين جبهتيّ العمل آنفتيّ الذكر، فالجبهة المناهضة للفاشية ترتكز على قواسم مشتركة أقل بكثير من جبهة اليسار.

في جبهة يسارية حقيقية، ورغم الخلافات الأيديولوجية، يجب الحفاظ على المبادئ السياسية المتفق عليها بصرامة: الديمقراطية، السلام، المساواة، العدالة الاجتماعية والبيئية.

حدود الجبهة تكون بالحفاظ على طابعها السياسي، فالحفاظ على هامش للفرق بينها وبين المركب الأساسي لها شرط ضروري لإيجاد متسع لمركبات وشخصيات أخرى. لذا الحفاظ على الفارق الجوهري ما بين الحزب الفكري والجبهة السياسية هو أمر هام لصالح الحزب والجبهة معا.

* عمل الجبهة في الشارع اليهودي *الانتخابات البرلمانية الأخيرة هي الأولى التي أشارت إلى ارتفاع ملحوظ بعدد أصواتنا بين الجمهور اليهودي، وثمة قيمة رمزية لأن تكون الجبهة الوحيدة تقريبا التي تمكنت من رفع دعمها بشكل جدي في الشارعين، العربي واليهودي معا.

هذه النتيجة المبشرة بآفاق تطورنا في الشارع اليهودي أسهمت، إضافة إلى عوامل أخرى، إلى طرح سؤال جدي حول دورنا ببناء اليسار الجديد وإن كان هنالك متسع للتعاون حتى مع أجسام صهيونية لهذا الغرض.

موقف الحزب الشيوعي المناهض للحركة الصهيونية، فكرا وممارسة، والذي تطرقت إليه موسعا في الحلقة السابقة ليس موضعا للنقاش، فموقفنا التاريخي متين في هذه القضية أيضا. لكنه لم يمنعنا من قراءة المشهد بموضوعية، فنفس الرفاق، وعلى رأسهم ماير فلنر وتوفيق طوبي، الذين قادوا حزبنا إلى شاطئ الأمان في العام 1965، ووقفوا بمبدئية وجرأة ضد التدهور القومجي - الصهيوني لميكونيس وسنيه، نفسهم من بادروا لبناء الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة في المؤتمر الـ 18، وأجابوا بوضوح على هذا السؤال بالتأكيد على أن هنالك مكانا للتعاون والشراكة السياسية، حتى مع من يرون بأنفسهم صهيونيين. ولكن هل كان الثمن تنازل الحزب عن موقفه من الصهيونية؟ ولا بأي شكل من الأشكال!

الحقيقة هي أن حزبنا أدرك الفرق بين كنه الصهيونية وبين صورتها بأعين اليهود، فالكلمة "صهيوني" بنظر الأغلبية كلمة مرادفة للوطنية اليهودية، وهو ما نؤكد أنه غير صحيح ومناف تماما لفكرنا، فما هو سيء لشعب معين لا يمكن أن يكون جيدا لشعب آخر.

التحدي أمامنا كشيوعيين إماطة اللثام عن الأكذوبة التي تحاول المساواة ما بين الصهيونية والوطنية، فنظرنا، الوطني اليهودي الذي يهمه مستقبل شعبه عليه أن ينخرط بنضال عربي يهودي مشترك ضد الاحتلال والتمييز العنصري، والتوصل إلى هذا الهدف لا يكون فقط بتسجيل الموقف، إنما بالعمل المتواصل بين الناس، وفكرنا الشيوعي يعلّمنا في هذا المجال ضرورة الالتصاق يالهموم اليومية للناس وخوض النضالات معهم إن كانت عادلة. علمتنا شيوعيتنا أنه مهما بلغت أممية الشيوعي عليه ألا ينسلخ عن أبناء شعبه وهمومهم، عليه ألا يتجاهل النزعات القومية إنما أن يسخّرها في المسار الصح.

بناء على ما ذكرته فإن الامتحان أمام الشيوعي لا يكون بإصراره على وضع حاجز أيديولوجي أمام من يرى بنفسه صهيونيا إنما الامتحان امتحان النتيجة: أنجعل من نشاركه همه أن يفهم في نهاية المطاف أن الحركة الصهيونية ليست هي من يحمل همّه إنما الشيوعيون هم من خاضوا النضال إلى جانبه؟! أنثير لديه الشكوك بمواقفه ونجعله يقتنع أن الوطنية الحقيقية لا تكون إلا بتحرير شعبه من احتلال شعب آخر؟

* إجابات من تجربة "مدينتنا جميعا" *هذه الأسئلة رافقتنا دوما في الحملة الانتخابية لبلدية تل أبيب- يافا. إذ بنينا حركة "مدينتنا جميعا"، وهي حركة يسارية متنورة بلا أدنى شك، إذ أنها وفرّت الحلول الأكثر يسارية، ديمقراطية وتقدمية في كل القضايا المتعلقة بالمدينة وحياة سكانها بما في ذلك، الموقف من مدينة يافا وحقوق أهلها والتعاون مع قائمة "يافا".

نحن كيسار عالجنا من خلال "مدينتنا جميعا" المصالح الحقيقية للسكان، لكن اليمين الذي عجز عن منافستنا في هذا الملعب حاول أن يجرّنا إلى ملعب الرموز، وعندما حاولوا الترويج ضدي على أنني شيوعي لم يقصدوا أن يناقشوا مواقفي الفكرية والسياسية إنما أرادوا أن يصوروني خائنا، وأما نحن في اليسار فقد رفضنا الانجرار إلى هذا الملعب وكان على الناخب أن يختار أحد اثنين: إما الرموز، العلم والنشيد القومي وإما المصالح الحقيقية، العيادة الطبية والصف المدرسي وكانت النتيجة هائلة فقد فضّل 46 ألف مواطن، 35%، بمعظمهم من الناخبين اليهود، المصالح الحقيقية على الرموز.

الإنجاز الكبير في "مدينتنا جميعا" انعكس أيضا على انجاز الجبهة في الانتخابات البرلمانية، لكنه انعكس أيضا في حركة الاحتجاج على الحرب على غزة. لقد تأثرت بشكل شخصي من انضمام عدد كبير من قادة "مدينتنا جميعا" إلى حركة الاحتجاج على الحرب، علما أن أغلبهم أتوا إلينا من خلال اهتمامهم الضيق بقضايا محلية.

إمتحاننا هو أن نسأل أنفسنا دائما: هل يخوض هذا الشخص أو هذه المجموعة نضالا عادلا؟ إن كان الجواب إيجابيا فواجبنا هو التجند إلى جانبهم والعمل معهم، ليس من خلال التلقين إنما من خلال التعب معا وبناء الثقة وحملهم إلى نضالات أخرى، توسيع آفاقهم وتمكنيهم من الربط بين القضايا.

وهنا أيضا أسجّل نموذجا آخر: في تل أبيب هنالك حي فقر اسمه "كفار شليم" وكسائر الأحياء الجنوبية الفقيرة كان يعتبرهذا الحي معقلا لليكود واليمين، لكن سكانه تعرضوا قبل نحو عامين إلى مخطط بترحيلهم. نحن، تجندنا إلى نضالهم لأنه عادل. لم نشترط هذا التجند بأن يعلنوا براءتهم من الحركة الصهيونية بل ولا حتى من الليكود. وأستطيع أن أقول أن سكان هذا الحي، وبخاصة قادته، مروا عملية تسييسية، هي لم تكتمل بعد لكنها بالطبع هامة، ولعل إدراكهم لأهمية الربط ما بين نضالهم ونضال سكان يافا العرب ومد جسور التعاون معهم ضد الترحيل مؤشر حقيقي على هذا.

التواصل مع الناس وهمومهم هو ميزة أخرى من ميزاتنا وشرط أساسي لنجاحنا حيث أخفق اليسار التقليدي الصهيوني المنقطع عن هموم الناس، ولعل إحدى أهم الاستنتاجات من تجربة "مدينتنا جميعا" وتفوقنا على "العمل" وميرتس" هي حقيقة ان طرح يسار حقيقي، أممي التركيبة، اشتراكي التوجه، واضح المواقف والملامح، المبني على فكرة النضال الجماهيري، لا الصفقات السياسية والقوائم الانتخابية العابرة، لا يمكن إلا أن يكون خصما عصيّا أمام اليسار التقليدي الصهيوني، الذي سيتصرف معنا بالطريقة الدارجة: سيحاول تجاهلنا أولا، ثم يسخر منا فيحاربنا لننتصر!

أخيرا: تحية إلى الحزبين الشقيقين في فلسطين والأردنفي هذه المرحلة سأكتفي بهذه الحلقة والتي سبقتها وكلي أمل أن تسهما بإثارة نقاش حيوي وهام في الذكرى الـ 90 للحركة الشيوعية في البلاد. وقد رأيت من المناسب اختتام هاتين الحلقتين بتوجيه تحية خاصة إلى الرفاق في الحزب الشيوعي الأردني وفي حزب الشعب الفلسطيني إذ أن هذين الحزبين وإلى جانب حزبنا الشيوعي الاسرائيلي هم ثمرة البذرة الشيوعية منذ 90 عاما.

31/3/2009