كيف انهار اليسار الصهيوني وانزاح المجتمع الإسرائيلي نحو اليمين؟ - بقلم د. ماهر الشريف

2009-03-23

د. مـاهــر الشــريــف

كيف انهار اليسار الصهيوني وانزاح المجتمع الإسرائيلي نحو اليمين؟

في إطار التحضير لكتابي الجديد الذي سأعالج فيه العوامل التي حالت إلى الآن دون إيجاد حل عادل وشامل للصراع العربي-الإسرائيلي المفتوح منذ أكثر من قرن، ومن بينها التحوّلات التي طرأت على المجتمع الإسرائيلي في العقود الثلاثة الأخيرة وجعلته ينزاح أكثر فأكثر نحو اليمين، أقول إنّي في إطار التحضير لهذا الكتاب، رجعت إلى عدد كبير من الدوريات والكتب التي عالجت القضايا الإسرائيلية، وفي مقدمها إصدارات المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية (مدار) في رام الله: "قضايا إسرائيلية"، و"أوراق إسرائيلية"، و"التقارير الإستراتيجية" والكتب المتخصصة، مثل كتاب أنطون شلحت: في صورة إسرائيل [مداخلات حول سنة 2000 وما بعدها]، الصادر في آذار 2008، وكتاب ليف غرينبرغ: سلام متخيّل، الصادر عام 2007، بالإضافة إلى "مجلة  الدراسات الفلسطينية" الصادرة في بيروت، وشهرية "لوموند ديبلوماتيك" ويومية "لوموند" الصادرتين في باريس، وإلى عدد من المؤلفات التي تطرقت إلى هذا الموضوع، مثل مؤلف شارل أندرلين عن تاريخ إخفاق عملية السلام في الشرق الأدنى، ومؤلف نورمان فينكلشتاين عن أساطير الصراع الإسرائيلي الفلسطيني وحقيقته، ومؤلف آفي شلايم عن الجدار الحديدي ومؤلف جاك بندلاك عن العرب الفلسطينيين في إسرائيل ما بين الاندماج والانفصال، ومؤلفات عديدة أخرى.
وسأحاول فيما يتبع أن أشارك القارئ بعض المعلومات التي استقيتها من كل هذه المصادر. وأبدأ بالإشارة إلى أن نتائج الانتخابات التشريعية الإسرائيلية الأخيرة جاءت لتؤكد، مرة أخرى، أن المجتمع الإسرائيلي يتحوّل أكثر فأكثر نحو اليمين، ولا سيما القومي والديني. فمعسكر اليسار الصهيوني لم يفز في تلك الانتخابات سوى ب 16 مقعداً: 13 مقعداً لحزب العمل - المؤسس للدولة والمسيطر على الحكم فيها منذ ربيع العام 1948 وحتى ربيع العام 1977- و 3 مقاعد لحركة ميرتس. وبينما جمعت الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة، والقائمتان العربيتان 11 مقعداً، تقاسمت الأحزاب اليمينية والدينية مقاعد الكنيست الأخرى البالغة في مجموعها 120. وكانت مفاجأة تلك الانتخابات فوز حزب "إسرائيل بيتنا"، الذي يتزعمه أفيجدور ليبرمان، المعروف بنزعته القومية المتشددة وعدائه للعرب، ب 15 مقعداً. ويفسّر بعض المحللين هذا الانهيار في مواقع اليسار الصهيوني، وتصاعد نفوذ قوى اليمين، بالتحوّلات الاجتماعية والديموغرافية التي صار يشهدها المجتمع الإسرائيلي منذ عقد الثمانينيات، بالإضافة إلى الخوف الذي صار ينتاب الإسرائيليين ويشعرهم بأنهم مهددون في وجودهم، ويواجهون، بعد ستين عاماً على قيام دولتهم، تحديات أمنية متصاعدة ومعقدة، يأتي في مقدمها  التحدي النووي الإيراني وتحدي المنظمات التي توصم ب "الإرهاب" (د. عزيز حيدر، " إسرائيل بعد 60 عاماً: أزمة اتخاذ القرار في مواجهة ضغوط الأمن والديمغرافيا"، قضايا إسرائيلية، العدد 30، 2008، ص 7-17).
وكما قال الكاتب زيف سترنهل، المصنّف في معسكر اليسار، فإن الإسرائيليين "صاروا يتجنبون مواجهة المشكلات السياسية ويحيلونها إلى المستوى الأمني، ويعيشون في مناخات تسيطر عليها النزعة القومية والنزعة الشوفينية، الأمر الذي يجعل الانحراف نحو اليمين المتطرف أمراً طبيعياً"، ويتابع: "إننا لم نعد نثق سوى بالسواعد القوية، وسيكون اللجوء إلى الأمن مريحاً  لنا لأنه سيسمح لنا بتجنب طرح الأسئلة وبتأجيل مواجهة الصعاب". ويتابع  الكاتب نفسه "صرنا  ننظر إلى أنفسنا دوماً على أننا ضحايا، لا نفعل سوى الدفاع عن أنفسنا، وهو ما يبقي ضميرنا مرتاحاً... فنحن دوماً في موقع دافيد في مواجهة جوليات". وبحسب النائبة العمالية كوليت أفيتال، فإن الشعب اليهودي الذي "أصيب بالعمى السياسي، لم  يعد يكترث لمعاناة الآخرين، ولم يعد يرى سوى نفسه"، وهي تعتبر بأن أكثر ما يثير القلق في ظاهرة تجذّر مواقع اليمين المتطرف في إسرائيل هو " أن هذا التوجه يتجلّى بوجه خاص بين الشبان". أما الصحفي أكيفا إلدار من هآرتس، فهو يلاحظ بأنه بات يسيطر على وعي اليهودي الإسرائيلي "الشعور بكونه ضحية، وذهنية الحصار، ونزعة الوطنية العمياء، والنزعة العدائية، والشعور بالرضا عن النفس، وتجريد الفلسطينيين من إنسانيتهم". بينما يكتب مناحيم كلين، أستاذ العلوم السياسية: "إننا نحكم بالاستناد إلى القوة، وأصبحنا نظاماً اتنو-أمنياً، متغطرساً وأنانياً، حيث نحن على قناعة بأننا الأفضل وبأن الآخرين لا يساوون شيئاً ". وحذّر الأستاذ نفسه من أن الصراع "يتحوّل إلى صراع ديني-اتني، ولم تعد السياسة فاعلة معه".
ووفقاً لدراسة تمت بإشراف دانييل بار- تال، الأستاذ في جامعة تل أبيب، فإن نسبة 56 من الإسرائيليين لا تزال  تعتبر أن "إيهود باراك قدم عرضاً سخياً للسلام إلى ياسر عرفات، إلا أن هذا الأخير رفضه لأنه لا يريد السلام". وكان استطلاع للرأي، أجري في كانون الأول 2008 ، قد بيّن بأن 36 في المئة من الإسرائيليين فقط يؤيدون مبادرة السلام العربية (ميشيل بول- ريشار، "إسرائيل: الانكفاء"، لوموند،10 شباط 2009).

مظاهر الانزياح نحو اليمين ومحطاته  

إن انزياح المجتمع الإسرائيلي نحو اليمين يبرز في مظاهر عديدة، من بينها امّحاء الحدود تقريباً بين معسكر اليسار ومعسكر اليمين الصهيونيين، فيما يتعلق بالسياستين الاجتماعية والأمنية، وتوحد خطابهما في إطار سياسة "الإجماع القومي"، وتنامي نفوذ الأحزاب المتطرفة، الدينية أو القومية، التي تدعم الاستيطان وتوسّعه في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وتؤيّد مشاريع ترحيل المواطنين العرب الفلسطينيين باعتبارها الحل الوحيد للحفاظ على الطابع اليهودي للدولة.
وإذا كانت سيرورة هذا الانزياح قد انطلقت مع وصول حزب الليكود، للمرة الأولى، إلى الحكم في أيار 1977، ومرّت، منذ ذلك التاريخ، بمحطات عديدة، فإن  المحطة الأهم  في مسار تطوّرها كانت في العام 2000، الذي شهد فشل مفاوضات كمب ديفيد بين ياسر عرفات وإيهود باراك، من جهة، واندلاع الانتفاضة الثانية، من جهة ثانية. فإثر هذين الحدثين، حصل انقلاب على مواقف قطاعات واسعة من الإسرائيليين، المحسوبين على معسكر اليسار، من عملية السلام، عبّر عن نفسه في بروز شعور لدى هذه القطاعات بخيبة الأمل من التوّصل إلى سلام مع الفلسطينيين وتشكّل قناعة لديهم بعدم وجود شريك فلسطيني لصنع هذا السلام. وقد ساهم هذا الانقلاب في تراجع كل الظاهرات "الانشقاقية" التي ظهرت داخل المجتمع الإسرائيلي بعد الاجتياح الإسرائيلي للبنان، في صيف العام 1982، واندلاع الانتفاضة الأولى في نهاية العام 1987، وتطوّرت بعد التوقيع على اتفاق أوسلو، وفي مقدمها ظاهرة "ما بعد الصهيونية" وظاهرة "التأريخ الجديد".

امّحاء الحدود بين المعسكرين السياسيين

عزّزت عودة حزب العمل إلى السلطة بزعامة إسحاق رابين، إثر الانتخابات التي جرت في حزيران 1992، ومن ثم التوقيع على اتفاق أوسلو، الأمل في السلام الذي راح يبرز مع انعقاد مؤتمر مدريد، لا سيما وأن البرنامج الذي استند إليه حزب العمل، خلال حملته الانتخابية، كان متقدماً نسبياً، من زاوية الاستجابة لمتطلبات السلام، على كل ما سبقه من برامج.
إلا أن حكومة حزب العمل لم تلتزم، في ممارساتها العملية، ببنود اتفاق أوسلو، ولم تتقيّد بالمواعيد المتفق عليها لتنفيذها، بل استمرت في سياستها الاستيطانية، وفرضت الحصار الاقتصادي على المناطق الفلسطينية المحتلة، وعطّلت عمل اللجنة الرباعية المكلّفة بحث عودة نازحي العام 1967، ورفضت إطلاق سراح معظم السجناء السياسيين الفلسطينيين، وحالت دون إشراف السلطة الفلسطينية على القطاعات الحيوية. أما إسحاق رابين، فقد ظهر بوصفه زعيماً حذراً، يتجنب خوض المواجهات الحاسمة مع المستوطنين والمتطرفين اليمينيين من أعداء السلام، حتى أنه لم يجرؤ، إثر المذبحة التي ارتكبت في المسجد الإبراهيمي في الخليل في 25 شباط 1994، على إبعاد بضع عشرات من المستوطنين المتمركزين في قلب المدينة، علماً بأن عدداً كبيراً من الإسرائيليين كان سيدعم إقدامه على خطوة كهذه. وبينما كانت حكومة حزب العمل تتخذ هذه المواقف، كانت حركات السلام، التي عرفتها إسرائيل في الثمانينيات، تذوي شيئاً فشيئاً. فحركة "السلام الآن" اختفت تقريباً من مسرح الأحداث في أعقاب وصول حكومة إسحاق رابين إلى السلطة وتوقيعها على "اتفاق أوسلو"، وذلك بعد أن تشكّلت قناعة لدى قيادتها بأن الضغط الجماهيري على تلك الحكومة سيؤدي إلى إضعاف معسكر اليسار. وقد تسبّبت حالة الشلل التي صارت تعيشها هذه الحركة في خروج مجموعة راديكالية من صفوفها شكّلت ما عُرف باسم "التكتل من أجل السلام"، بيد أن نفوذها بقي محدوداً. وعلى الرغم من استمرار وجود تنظيمات صغيرة أخرى تناضل من أجل السلام تحت رايات مختلفة وبأساليب متنوعة، إلا أن حركة السلام الإسرائيلية بمجموعها لم تعد تمثّل ومنذ سنوات - كما رأى أوري أفنيري- قوة سياسية ذات شأن في المجتمع الإسرائيلي (أوري أفنيري، "النضال من أجل السلام في إسرائيل"، لوموند ديبلوماتيك، آب 1997، ص 12).
وذهب إسحاق رابين، في نهاية الأمر، ضحية تردداته؛ وعوضاً عن أن يسعى خلفه شمعون بيريس إلى تغيير مجرى الأحداث بصورة جذرية، مستفيداً من أجواء العداء لليمين المتطرف التي سادت إسرائيل إثر اغتيال رابين، اختار الهروب إلى الأمام من السلام؛ فشنّ عدوانه الواسع على لبنان، وعلّق المفاوضات السلمية مع سورية، وبدأ التحضير لحملة الانتخابات المبكرة متسلحاً بخطاب "حربي" لم يختلف كثيراً عن خطاب منافسه زعيم الليكود بنيامين نتنياهو.
وبيّنت نتائج الانتخابات التي جرت في أيار 1996، والتي أعادت حزب الليكود إلى السلطة، أن الإسرائيليين، في ظل افتقادهم قيادة شجاعة وحازمة في توجهها نحو السلام مع العرب، يخشون السلام أكثر مما يخشون الحرب. ومع أن حزب العمل قد عاد من جديد إلى السلطة بزعامة إيهود باراك، في عام 1999، إلا أن السياسات التي انتهجها هذا الأخير، خلال فترة رئاسته القصيرة للحكومة، لم تكن مختلفة كثيراً عن سياسات بنيامين نتنياهو، حيث أرفق دعوته الفلسطينيين إلى إدارة مفاوضات مباشرة حول الحل الدائم  بأربع "لاءات": لا للعودة إلى حدود 4 حزيران 1967، لا لتفكيك مستوطنات، لا للانسحاب من القدس الشرقية، ولا لعودة اللاجئين.
وقد تمثّل المظهر الأبرز لامّحاء الحدود بين معسكري اليسار و اليمين الصهيونيين في تبنيهما الموقف نفسه من الاستيطان اليهودي داخل المناطق الفلسطينية المحتلة، حيث بقي المستوطنون وأنصارهم، على مدار السنوات التي أعقبت التوقيع على اتفاق أوسلو، عنصراً شديد التأثير في الساحة السياسية، وظلت حكومات إسرائيل المتعاقبة، بتلاوينها المختلفة، تؤيد وتدعم توسيع الاستيطان، الذي كانت غايته إيجاد ظروف ووقائع ميدانية تحول دون قيام دولة فلسطينية مستقلة وذات تواصل جغرافي.

تحوّلات اجتماعية وديموغرافية في المجتمع الإسرائيلي

كان تراجع نفوذ اليسار الصهيوني نتيجة تحوّلات عميقة، ديموغرافية واجتماعية، راحت تحدث داخل المجتمع الإسرائيلي منذ منتصف ثمانينيات القرن العشرين.
فعلى الصعيد الاجتماعي، أدّت سياسة الانفتاح الاقتصادي والاندماج في سيرورات العولمة وتراجع الدولة عن وظائفها في الحقل الاجتماعي إلى إضعاف الركائز الاجتماعية التي استند إليها اليسار الصهيوني، وإلى تعميم قيم ونزعات جديدة في المجتمع، كالفردية والتنافس والتهافت على الاستهلاك. أما على الصعيد الديموغرافي، فقد أحدثت هجرة ما يقرب من مليون من الناطقين بالروسية إلى إسرائيل تحولاً عميقاً في المجتمع، فأضعفت، من جهة، المكانة المهيمنة التي كانت تحتلها المجموعة الإشكنازية-الغربية العلمانية، التي كان يستند إليها اليسار الصهيوني، وقوّت، من جهة ثانية،  النزعات الرامية إلى إبراز التعددية الثقافية والاتنية. ومنذ العام 1997، قدّر سيرج شميمان، مراسل جريدة  "نيويورك تايمز" في إسرائيل، بأن " قوة جديدة" يمينية مشكّلة من أقليات إتنية ودينية واجتماعية: السفارديم [اليهود الشرقيون]، والمهاجرون الروس، والمتديّنون الأرثوذكس والمستوطنون، صارت تتحكّم في سياسة إسرائيل، ورأى بأن بروز هذه القوة لا يمثّل ظاهرة عابرة في المجتمع الإسرائيلي بل هو يعبّر عن واقع اجتماعي وسياسي سيزداد رسوخاً مع الوقت. ومع أن هناك نزاعات مصالح  تدور فيما بين الأطراف المكوّنة لهذه القوة، كالنزاع بين المتدينين والعلمانيين، أو النزاع بين المهاجرين الروس واليهود الشرقيين، الذين عبّروا عن استيائهم من المساعدات السخية التي قدمتها الدولة للمهاجرين الروس، إلا أن هذه الأطراف تلتقي كلها على عدد من  القواسم المشتركة، مثل عدم الثقة بالسلام مع العرب، والعداء لاتفاق أوسلو، وكره اليسار والنخبة الليبرالية العلمانية الغربية المسيطرة على الإعلام والثقافة والاقتصاد (ماهر الشريف، "هل للسلام مستقبل؟"، الطريق، بيروت، آذار -  نيسان 1998، ص 4-21). .
وقد أدّى بروز هذه القوة اليمينية إلى حدوث تغيّر في طبيعة تركيب فئة ضباط الجيش، حيث أدّى تراجع استعداد الشبان العلمانيين الغربيين لاختيار المهنة العسكرية، وتبدّل الحوافز المتعلقة بالخدمة العسكرية وارتباطها  بالمصالح المادية في ظل التحوّل النيو ليبرالي للاقتصاد – كما يلاحظ البروفسور يورام  بيري - إلى نشوء مخزون احتياطي جديد من الضباط المشحونين إيديولوجياً. فقد زاد ثقل المعسكر الديني –القومي داخل الجيش، وارتفع العدد النسبي لمرتدي قلنسوات المتدينين بين الضباط،. كما راحت فئة المهاجرين الروس تترك بصماتها على الجيش؛ فمع أنه يوجد بين الناطقين بالروسية اتجاه يعارض الخدمة العسكرية، إلا أن هناك اتجاهاً معاكساً يرى في الخدمة العسكرية عملاً إيجابياً بسبب الفائدة المادية أو لأسباب قومية. ومنذ بدء الانتفاضة الثانية ارتفعت معدلات تجنّد هذه الفئة، التي من المتوقع أن يصبح وزنها، في صفوف كبار الضباط، بارزاً في المستقبل. أما الفئة الثالثة التي زاد وزنها في أوساط النخبة العسكرية فهي فئة اليهود الشرقيين.
وقد ترافق هذا التغيّر الاتني في تركيب القيادة العسكرية، الذي خفض الوزن النسبي للنخبة القديمة الأشكنازية- العلمانية ورفع وزن النخب الجديدة، مع تغيّر اجتماعي، حيث تدنّى الوزن النسبي لمنتسبي الطبقات العليا، وارتفع التمثيل النسبي لأبناء الطبقات المتوسطة والمتدنية.
وكما يرى بيري نفسه، فإن هذه التغيّرات التي يشهدها الجيش تنطوي على  مدلولات سياسية وإيديولوجية مهمة، حيث يتميّز الضباط الكبار الذين ينتمون إلى النخب العسكرية الجديدة بميولهم القومية والدينية أكثر من تلك الموجودة لدى ضباط النخبة العسكرية القديمة، وهو ما سينعكس على مسائل سياسية ملموسة، مثل مواصلة الصراع ضد الفلسطينيين، ومستقبل المستوطنات وموقف الجيش من احتمال تفكيك بعضها والانسحاب من الضفة الغربية. ونظراً إلى أن عدداً غير قليل من الضباط، وبصفة خاصة من الوسط الديني – القومي، يقيمون داخل المناطق المحتلة، فمن المحتمل أن تنشأ نواة من الضباط الذين يقاومون عمليات تفكيك المستوطنات أو الانسحاب من الضفة الغربية، ولو بالقوة (بروفسور يورام بيري، "النخبة العسكرية الجديدة في إسرائيل: لماذا يعتبر فهم النخبة العسكرية أمراً مهما؟"، قضايا إسرائيلية، العدد 28، 2007، ص 50-66).

تزايد نفوذ الأحزاب الدينية

كما ساهمت في انزياح المجتمع الإسرائيلي نحو اليمين ظاهرة تزايد نفوذ الأحزاب الدينية التي باتت أقوى من أي وقت مضى، وتتمتع بقوة انتخابية كبيرة وتشكّل، عموماً، قاعدة لأنصار "إسرائيل الكبرى"، والحاضنة التي نمت فيها المنظمات والحركات اليمينية المتطرفة مثل حركة "غوش إيمونيم" الاستيطانية. وكان الصحفي الإسرائيلي جوزيف الغازي  قد أرجع تنامي نفوذ هذه الأحزاب إلى ظاهرة جديدة صار يشهدها المجتمع الإسرائيلي وتتمثّل في " التحوّل نحو الإيمان "، حيث تشير استطلاعات الرأي إلى أن عدداً متزايداً من الإسرائيليين صار يتحوّل، بأشكال مختلفة، في السنوات الأخيرة، نحو الإيمان الديني، إما بتأثير إعلام الأحزاب الدينية وإذاعاتها، أو كردة فعل على أحداث مهمة وخيبات أمل أو لمجرد الشعور بالحاجة إلى التديّن (لوموند ديبلوماتيك، شباط 1998، ص 10 ).
وتسعى الأحزاب الدينية، التي يشغل ممثلوها مواقع مهمة في حكومات اليمين و اليسار الصهيونيين على السواء، إلى زيادة تحكّمها بالدولة، حيث يطالب المتديّنون الأرثوذكس بأن يكون لهم وحدهم الحق في تقرير مَن هو اليهودي، إضافة إلى احتكارهم صلاحية عقد الزواج وفسخه. بينما يريد غلاة اليهود الأرثوذكس في مدينة القدس، الذين يُطلق عليهم اسم "الحارديم"، أي "خشاة الله"، أن يفرضوا على سكان المدينة التقيّد الحازم بتعاليم الشريعة اليهودية. ويُعتقد بأن هذه الطائفة، التي تشكك بدور المحكمة العليا في إسرائيل، وتدّعي بأن هذه المحكمة لا تمثّل الشعب تمثيلاً كاملاً، ستغدو خلال السنوات القليلة القادمة مهيمنة ديموغرافياً، وبالتالي دينياً وسياسياً، على القدس، لا سيما وأنها ترفض الالتزام بمبدأ تحديد النسل.
ويرى إيلي برنافي، في الكتيب الذي أصدره بعنوان: "إسرائيل- فلسطين. حرب أديان" (باريس، منشورات بايار، 2006) أن هناك عوامل تفسّر هذا التزايد في نفوذ الأحزاب الدينية، من بينها أن الديانة اليهودية، هي " ديانة قومية يتشابك فيها الاتني والديني بصورة وثيقة، ولا يحمل فيها معنى التمييز بين الديني والسياسي"، وكذلك التباس علمانية دولة إسرائيل، في ظل استمرار وجود رابط وثيق بين المواطنة، والاتنية والدين فيها، وانطواء الصهيونية على مكوّن مسياني يرجع إلى العمق التاريخي للتوراة وإلى الرغبة في الانتساب إلى ماض عريق يمتلك شرعية. ويعتبر الكاتب نفسه أن حرب حزيران 1967 قد مثّلت محطة مهمة على طريق تنامي نفوذ الأحزاب الدينية. وبرجوعه إلى التاريخ، يذكر برنافي بأن الأرثوذكسية اليهودية بمجموعها كانت تاريخياً  معادية للصهيونية، وتعتبر بأنه إذا كان نفي اليهود عقوبة إلهية لهم، فإن الله وحده هو القادر على إرجاع الشعب اليهودي إلى أرضه، الأمر الذي يعني بأن إرجاعهم بالوسائل السياسية، كما تبغي الصهيونية، يمثّل خطيئة. لكن، فيما بعد، برزت فئة من داخل معسكر الأرثوذكسية الدينية، هي الحركة المزراحية، قررت أن تتحالف مع الصهيونيين، لأسباب عملية، معتبرة "أن مرتكبي المذابح لم يفرّقوا بين الطرفين"، ولأسباب لاهوتية ، مقدّرة "بأن الله في وسعه تسريع الافتداء كما يشاء، بما في ذلك عبر حركة تتجاهله ظاهرياً". وبعد قيام دولة إسرائيل، عقد بن غوريون –كما يتابع برنافي- تحالفاً مع ما بات يعرف بالحزب القومي الديني، سيطر بموجبه الصهيونيون العماليون على مؤسسات الدولة، وبخاصة في مجالي الدفاع والاقتصاد، بينما حافظ المتدينون على شبكتهم التعليمية وضمنوا للحاخامين احتكار البت في الأحوال الشخصية للمواطنين ومجموعة تدابير أخرى تضمن " الطابع اليهودي " للدولة. بيد أن اعتدال الحركة المزراحية في السنوات الأولى للدولة كان "خادعاً"، حيث ظلت هذه الحركة السياسية الدينية تنظر للدولة بوصفها أداة مقدسة، وبداية مرحلة افتداء الشعب اليهودي ووسيلة لتسريع مجيء المسيح. واتّخذت الحركة طابعاً راديكالياً إثر حرب حزيران 1967، معتبرة الانتصار الذي حققته إسرائيل فيها والسيطرة على "يهودا والسامرة" بمثابة "معجزة" وتعبير عن "التدخل الإلهي". وبذلك، كانت حرب حزيران نقطة انطلاق صهيونية مسيانية، صارت تمثّل أقلية نشيطة ومنظّمة تنظيماً جيداً. فالشبان المتدينون، الذين لم يكن لهم دور يذكر في تاريخ "اليقظة القومية" باتوا يمثّلون قلب المشروع الصهيوني. وساعدهم الإعياء الذي أصاب الصهيونية العلمانية، التي استنفدت قواها في نجاحاتها، على احتلال الفراغ الإيديولوجي الناشئ.  إن هذه الصهيونية الجديدة المسيانية قد قلبت، في نظر برنافي، آفاق الصهيونية الأصلية: فالقدسية التي تتمتع بها الأرض، في نظر أنصارها، تمنع بالمطلق أي تنازل عن أي جزء منها، وتحكم طريقة التعامل مع "الغريب" (في هذه الحالة مواطني إسرائيل العرب)، وكذلك مع "العدو الخارجي" (الفلسطينيين والدول العربية)، ومع العدو الداخلي، الخصم الإيديولوجي في المعسكر اليهودي. وفي منطق هذه الصهيونية، فإن الخائن من الداخل هو أسوأ من العدو الخارجي. ويخلص الكاتب نفسه إلى أن هذا الشعور هو الذي يحرّك أعضاء "كتلة الإيمان"، بوصفها رأس حربة الاستيطان في المناطق الفلسطينية، أو "شبيبة الهضاب" في "السامرة"، الذين يقيمون المستوطنات "العشوائية"، بالإضافة إلى منتسبي المجموعات الأكثر تطرفاً الذين يعارضون بحزم فكرة الانسحاب من الضفة الغربية. ويبدي بعض أعضاء هذه المجموعات استعدادهم للبقاء في مواقعهم في ظل سيادة فلسطينية، والانفكاك عن دولة إسرائيل، التي ستفقد في نظرهم، في حال الانسحاب من المناطق الفلسطينية، شرعيتها النابعة من كونها "بداية الافتداء، وتأسيس مملكة الله على الأرض". بينما يبحث آخرون منهم  فكرة التضحية بأنفسهم، التي تذهب إلى حد الانتحار والاستعداد للموت قبل " مخالفة تعاليم الله "، وأهمها استيطان البلاد. ويستشهد برنافي بمقال كتبه دافيد هائيفري، وهو زعيم منظمة يمينية متطرفة تدعى " رفافاه" (عشرة آلاف) وتنشط في مستوطنات "السامرة"، ووجّه فيه دعوة إلى أنصاره يحثهم فيها على حمل السلاح للوقوف في وجه تفكيك المستوطنات، معتبراً بأن الحرب الأهلية أمر مشروع، كما كانت مشروعة في الماضي حرب سبط بنيامين ضد الأسباط الأحد عشر الأخرى، والصدامات التي دارت بين مملكة إسرائيل ومملكة يهودا أو بين المكابيين واليهود المتأثرين بالهيلينية. "فأرض إسرائيل –كما كتب- "هي هبة من الله لشعب إسرائيل ولا يمكننا التنازل عن إرثنا للعدو بحجة وحدة زائفة مع أولئك الذين يهدفون إلى محو قدسية أمتنا وأرضنا ".

تصديق مقولة "العرض السخي" الذي قدّمه باراك ورفضه عرفات

شكّلت مفاوضات كمب ديفيد نقطة تحوّل في مواقف معسكر اليسار الصهيوني، حيث ولّد الفشل الذريع الذي مُنيت به انقلاباً في وعي أنصاره، جعل الفلسطينيين يظهرون كعدو لدود لا يقبل المساومة وبالتالي لا سبيل للتوصل إلى سلام حقيقي معه. وقد تبنّى معظم أنصار هذا المعسكر الموقف الذي عبّر عنه إيهود  باراك لدى تفسيره كيفية إخفاق تلك المفاوضات في التوصل إلى سلام و صدّقوا ادّعاءه بأنه قدّم تنازلات عديدة، بما في ذلك ما يخصّ القدس، لكن ياسر عرفات رفضها لأنه لا يريد، في الواقع، تحقيق السلام.
فقد رأى الروائي عاموس عوز في باراك "الزعيم الأكثر شجاعة الذي عرفته إسرائيل"، بينما اختار عرفات –كما تابع - " أن يحافظ على صورة صلاح الدين الحديث الذي ينطلق لتحرير فلسطين بدلاً من أن يكون صانعاً للسلام، وذلك ربما بسبب تخوّفه من أن لا يعود سوى رئيس دولة صغيرة من دول العالم الثالث، يدير مشكلات عادية كالبطالة والسكن والمخدرات والمنافسة مع الإسلاميين، وليس زعيماً لحركة تحرر وطني يطير من قمة إلى قمة، ويُستقبل مرة في البيت الأبيض وأخرى في الإليزيه ". وعليه، لم يعد عرفات، في نظر أنصار هذا اليسار الصهيوني، شريكاً،  بل أصبح – كما وصفه شلومو بن عامي في مقابلة أجراها معه آري شفيط لصحيفة هآرتس - " يمثّل خطراً استراتيجياً، ويهدد السلام في الشرق الأوسط والعالم "، وأضاف " بأن تنازل عرفات لإسرائيل في أوسلو كان تنازلاً شكليا، حيث هو لا يعترف في الواقع، من ناحية أخلاقية ومبدئية، بحق إسرائيل في الوجود" (سيلفان سيبل، "تصدعات اليسار السلمي الإسرائيلي"، لوموند، 24 تشرين الأول 2000، ص 3؛ آري شفيط، " يوم مات السلام "، هآرتس، 14 أيلول 2001).
ولم يشعر المنتمون إلى هذا المعسكر بالحاجة إلى مراجعة مواقفهم حتى بعد أن صار يُنشر، منذ صيف العام 2001، الكثير من التفاصيل عن المفاوضات التي جرت في كمب ديفيد وطابا، ومن بينها رواية  روبير مالي، عضو الوفد الأمريكي، مثلاً. بل ذهب الأمر ببعضهم إلى حد  إعلان التراجع و " التوبة " على صفحات الجرائد، والعودة إلى صفوف " الإجماع القومي ".
وبدا بأن قضية حق العودة التي طرحها الجانب الفلسطيني في المفاوضات كانت من أكثر القضايا إثارة لحفيظة  هذا اليسار الصهيوني، حيث كتب عضو الكنيست عن حركة  ميرتس، ران كوهين، مقالة ربط فيها بين تأييده إقامة دولة فلسطينية وبين تنازل الفلسطينيين عن حق العودة، بينما اعتبر  زئيف شطرنهل أن طرح الجانب الفلسطيني لحق العودة هو المسؤول الأول عن الأزمة التي صار يواجهها معسكر السلام، وكتب: " ليست الانتفاضة هي التي شلّت اليسار، وإنما مطالبة الفلسطينيين بحق العودة " (هآرتس، 11 أيار 2001؛ سمير صرّاص (إعداد)، "تحوّلات جارية في معسكر السلام الإسرائيلي"، مجلة الدراسات الفلسطينية، العدد 49، شتاء 2002، ص 72-83).

الإجماع القومي ونفخ روح جديدة في الصهيونية

منذ خريف العام 2000، انطلقت حملة إيديولوجية واسعة تشيع أن على المجتمع الإسرائيلي، الذي صار يواجه "خطراً وجودياً"، أن يحيي قيم الصهيونية ويعيد تربية الجيل الفتي بروح حرب العام 1948. واتّخذت هذه الحملة أبعاداً جديدة في الفترة التي أعقبت أحداث 11 أيلول 2001 من خلال دمج أطروحة "صدام الحضارات" بمقولة "الحرب الشاملة على الإرهاب"، الأمر الذي دفع البعض إلى الحديث عن تحوّل الصراع العربي-الإسرائيلي من صراع على الأرض إلى صراع ديني-ثقافي. وكما قدّر الصحفي دورون روزنبلوم، فإن إسرائيل صارت تشهد، منذ ذلك التاريخ، ولادة صهيونية جديدة " لا تحركّها الرغبة في التطبيع والحياة الأفضل، بل احتلال موقع الضحية والرغبة في ممارسة القمع، اللذين يتحوّلان إلى مبرر للوجود". ويتابع الصحفي نفسه قائلاً: " إن تداعي كل الآمال قد أعادنا إلى أنفسنا، إلى منابع الصهيونية نفسها، إلى الحقائق القاعدية ذاتها: الهجرة، والاستيطان، وتحرير الأرض، وتعزيز سيطرتنا وتوسيع حدودنا".
وفي سياق السعي إلى نفخ روح جديدة في الصهيونية وتعزيز سياسة "الإجماع القومي" ، جرت محاولات عديدة لاستحضار " المسلّمات المؤسسة" للصهيونية وأساطيرها، وصارت توجّه انتقادات شديدة للتيارات التي تنتقد هذه المسلمات والأساطير، ويتّم تضخيم التأثيرات التقويضية التي تترتب على هذه التيارات. وكان ما عُرف باسم "ميثاق طبريا"، الذي صدر في أواخر عام 2005 عن مجموعة " منتدى المسؤولية القومية " التي تشكلت من كتاب وأكاديميين وصحافيين من  اليمين واليسار الصهيونيين، من أبرز تعبيرات الالتفاف حول سياسة "الإجماع القومي". وكان الهدف منه " تشخيص المبادئ التي توحّد غالبية اليهود في البلاد "، وتحديد "القيم الأساسية للمجتمع الإسرائيلي "، وفي طليعتها أن إسرائيل هي " البيت القومي للشعب اليهودي"، وأنها "دولة يهودية تقيم صلة رسمية مع يهود الشتات ومع التاريخ اليهودي والديانة اليهودية"، وأنها "دولة ديمقراطية". وقد أقصي العرب الفلسطينيون من مواطني إسرائيل من دائرة النقاش الذي أفضى إلى تبنّي هذا الميثاق (أنطون شلحت، في صورة إسرائيل [مداخلات حول سنة 2000 وما بعدها]، مدار، آذار 2008، ص151-158).

انطفاء تيار "ما بعد الصهيونية"

على الرغم من أن مفهوم "ما بعد الصهيونية" قد شاع  سنة 1993، إلا أنه برز، في الواقع، قبل ذلك بسنوات عديدة في كتابات الفيلسوف مناحيم برنكر، الذي صاغ في العام 1986 مصطلحاً موازياً بالعبرية هو " فترة ما بعد الصهيونية ". ويعتبر أوري أفنيري نفسه بمثابة أحد الآباء الروحيين لما بعد الصهيوينة، حيث يؤكد بأنه كان قد استخدم المصطلح منذ العام 1976 ليصف شكلاً جديداً من القومية الإسرائيلية المختلفة عن الانتماء التقليدي لليهودية، ومن الأمة الإسرائيلية المتمايزة عن يهود الشتات.
والواقع أنه لا يوجد تعريف واحد متفق عليه لما بعد الصهيونية، حيث يرى فيها البعض تعبيراً عن عملية من "التطبيع " الثقافي التي تطوّرت بشكل طبيعي بعد إنجاز الأهداف النهائية للصهيونية، بينما يعتبرها البعض الآخر بمثابة الطبعة الإسرائيلية لما بعد الحداثة، أو  يربطها بالتغيّرات الاقتصادية والاجتماعية التي نجمت عن سياسة الانفتاح الاقتصادي والانتقال إلى الاقتصاد المعولم. وبغض النظر عن المنظورات المتعددة لما بعد الصهيونية، إلا أن أنصارها يتفقون على تراجع النزعة القومية، وتنامي النزعات الفردية، وانتشار التعددية، وهيمنة النيو-ليبرالية، ويرفضون كون إسرائيل دولة يهودية وديمقراطية في آن معاً، معتبرين أن هناك عدم توافق بين هذين البعدين للدولة. وخلال تسعينيات القرن العشرين، غدت ما بعد الصهيونية واحدة من القضايا المهمة المتداولة بين مثقفي الجمهور الإسرائيلي، الذين صاروا يلجؤون إليها لوصف بعض أعمال فنية، أو يرون فيها نماذج لثقافات وسياسات تتمايز عن الميول الصهيونية التقليدية القديمة. كما صارت تتفرع عنها مصطلحات أخرى مثل " نسوية ما بعد صهيونية"، تدرج، بحسب أنصارها، بعداً نسوياً في الثقافة الإسرائيلية المسيطر عليها  ذكورياً. وبرز في الجامعات، وبخاص في  جامعات تل أبيب وبئر السبع وحيفا، عدد لا يستهان به من الباحثين الذين أعلنوا انتماءهم إلى ما بعد الصهيونية.
وقد واجهت تيارات ما بعد الصهيونية، في وقت ازدهارها، هجوماً واسعاً من اليمين واليسار الصهيونيين على السواء، حيث وصف أمنون روبنشتاين، الذي كان  وزيراً للتعليم والتربية والرياضة، ما بعد الصهيونيين بأنهم يحملون عداءً شديداُ لإسرائيل، وينكرون المحرقة ويشتمون الصهيونية ويهدفون إلى دفنها. ونجح هذا الهجوم، إثر فشل مفاوضات كمب ديفيد واندلاع الانتفاضة الثانية، في  وقف مسار تطور هذه الظاهرة ودفعها إلى الانكفاء على نفسها.  وكما يلاحظ بعض المراقبين، فإن شعبية أفكار ما بعد الصهيونية قد تراجعت كثيراً، منذ تشرين الأول 2000، في أوساط الطلاب والقراء، وادّعى توم سيغف، وهو من أوائل "المؤرخين الجدد"، في مقال كتبه لصحيفة نيويورك تايمز ، أن الفلسطينيين " هم الذين أرغموا الإسرائيليين ما بعد الصهيونيين، من أصحاب النوايا الحسنة، على العودة إلى رحم الصهيونية". أما المؤرخ شلومو زند، الذي يُعرّف نفسه بأنه غير صهيوني والذي أصدر مؤخراً كتاباً مهماً بعنوان: كيف اختُرع الشعب اليهودي؟، فقد لاحظ بأن وسائل الإعلام الإسرائيلية لم تعد تتساهل مع أنصار ما بعد الصهيونيين منذ تشرين الأول 2000، بل راحت تضرب حصارا خانقاًً حولهم ، في حين اعتبر "المؤرخ الجديد" إيلان بابه، الذي ظل متسقاً مع نفسه،  أن الانتفاضة الثانية قد " أخرجت كل الكراهية [الكامنة في المجتمع الإسرائيلي]، وأصبح على ما بعد الصهيونيين الاختباء في جحورهم ". (أوري رام، "دراسات ما بعد الصهيونية في إسرائيل: العقد الأول"، قضايا إسرائيلية، العدد 30، 2008، ص 67-84؛ نيري ليفنه، "صعود وسقوط ما بعد الصهيونية"، مجلة الدراسات الفلسطينية، العدد 49، شتاء 2002، ص 52-63).

ارتداد رائد تيار "التأريخ الجديد"

كان ارتداد رائد تيار "المؤرخين الجدد"  بني موريس، وتراجعه عن مواقفه الأولية، تعبيراً من تعبيرات انطفاء "ما بعد الصهيونية"، ومظهراً من مظاهر  التحوّل الذي طرأ على مواقف أنصار معسكر السلام في إسرائيل بعد إخفاق مفاوضات كمب ديفيد واندلاع الانتفاضة الثانية.
وكان الحديث عن "التأريخ الجديد" قد بدأ بعد أن أطلق بني موريس هذه التسمية، في مقال نشره في خريف سنة 1988 في دورية "تيكون" الصادرة في نيويورك، على أبحاث المؤرخين الإسرائيليين، ولا سيما إيلان بابه وآفي شلايم، التي سعت إلى إعادة النظر في الرواية الإسرائيلية الرسمية للصراع العربي-الإسرائيلي، وذلك عبر تحريرها من سطوة الإيديولوجيا وطرح أساطيرها جانباً. وفي الكتاب الذي أصدره باللغة الانكليزية في عام 1987 بعنوان: ولادة مشكلة اللاجئين الفلسطينيين 1947-1949، سعى بني موريس إلى دحض أسطورة "تأسيسية" في هذه الرواية تزعم أن الفلسطينيين رحلوا عن أرضهم في عام 1948 بصورة طوعية أو بتأثير دعاية الجيوش العربية التي حثتهم على الرحيل (ماهر الشريف، "القضية الفلسطينية في الكتابة التاريخية العربية. هل هناك حاجة إلى تأريخ جديد؟"، مجلة الدراسات الفلسطينية، العدد 55، صيف 2003، ص 29-41).  بيد أن بني موريس تبنّى، بعد عام 2000، أطروحة  "الرفض" الفلسطيني  ل " العرض السخي " الذي قدمه إيهود باراك، ورأى، في مقال نشره  في صحيفة "الغارديان " البريطانية في شباط  2002 ، أن عرفات هو المسؤول عن تضييع فرصة السلام لأنه " لا يستطيع – أو لا يريد – إقامة سلام على 22 في المئة من أرض إسرائيل الانتدابية، تشكّل دولة إسرائيل 78 في المئة من مساحتها، والتنازل عن حق العودة". وتأسيساً على ذلك استنتج " بأن التوازن بين التفوق العسكري [الإسرائيلي] والتفوق الديموغرافي [الفلسطيني]  هو الذي سيقرر مصير الدولة: فإما أن تكون فلسطين دولة يهودية دون وجود أقلية عربية كبيرة، أو أن تكون دولة عربية تعيش فيها أقلية يهودية تتضاءل تدريجياً، أو أن تصبح أرضاً محروقة نتيجة لاستخدام سلاح ذري، فتغدو غير تابعة لأي من الشعبين " (بني موريس، ضحايا. عودة إلى تاريخ الصراع العربي-الإسرائيلي، باريس، منشورات كومبلكس، 2003).
ويعلّق الكاتب والصحفي الفرنسي دومينيك فيدال، في تقديمه الترجمة الفرنسية من كتاب نورمان فينكلشاتين عن أساطير الصراع الإسرائيلي الفلسطيني وحقيقته (بروكسل، منشورات أدن، 2007) ، على ظاهرة "ارتداد" بني موريس، فيكتب بأنه كانت هناك مفاجأة، وصدمة، لدى أنصار التاريخ الجديد الإسرائيلي عندما اطّلعوا، في 8 كانون الثاني 2004، على المقابلة التي أجراها مع بني موريس الصحفي آرييه شافيت، ونشرت في صحيفة هآرتس، حيث قال بني موريس: " لا أعتقد أن عمليات الطرد التي تمت في عام 1948 كانت جرائم حرب... هناك ظروف في التاريخ تسوّغ التطهير العرقي. أنا أعرف أن هذا التعبير سلبي تماماً في خطاب القرن الحادي والعشرين، ولكن عندما يكون الخيار بين التطهير العرقي وبين المذبحة الجماعية – إفناء شعبي – فأنا أفضّل التطهير العرقي... لم يكن في الإمكان إقامة دولة يهودية من دون اقتلاع 700000 فلسطيني من أراضيهم، ولم يكن هناك خيار آخر سوى طرد هؤلاء السكان... إن العرب يمتلكون 22 دولة، بينما لم يكن اليهود يمتلكون ولا حتى دولة واحدة. ولم يكن هناك أي سبب في العالم يحول دون أن يكون لهم دولة... إن الحاجة لإقامة دولة في هذا المكان من العالم قد تغلبت على الظلم الذي لحق بالفلسطينيين من خلال اقتلاعهم ". ورداً على سؤال: "هل يجب اليوم تنظيم "ترانسفير" مشابه للذي حدث في الأمس؟"، أجاب بني موريس: " في الظروف الحالية، لن يكون مثل هذا الترانسفير أخلاقياً ولا واقعياً. والعالم لن يسمح به، كما أن العالم العربي لن يسمح به، وهو سيدمر المجتمع اليهودي من داخله. ولكن، يمكنني أن أقول لك بأنه في ظروف أخرى، في ظروف جهنمية، قد تطرأ بعد خمس أو عشر سنوات، قد أكون مستعداً لقبول عمليات طرد. فإذا ما وجدنا أنفسنا أمام أسلحة نووية من حولنا، أو إذا ما كان هناك هجوم عربي عام ضدنا وحرب مواجهة مباشرة مع العرب، الذين يهاجمون من الخلف القوافل المتجهة نحو الأمام، ستكون عمليات الطرد معقولة تماماً... إن النخبة الوطنية الفلسطينية بأسرها ميالة إلى النظر إلينا بوصفنا صليبيين، وهي تطرح مشروعاً تدريجياً. ولهذا السبب، ليس الفلسطينيون مستعدين بشرف للتخلي عن حق العودة... وليس في وسعهم قبول وجود دولة يهودية – لا على مساحة 80 في المئة من مساحة البلد ولا حتى على مساحة 30 في المئة... أنا أدعم، من الناحية الإيديولوجية، حل الدولتين. فهذا هو البديل الوحيد لطرد اليهود أو لطرد الفلسطينيين أو لتدمير شامل. ولكن من الناحية العملية، لن يكون في زمن جيلنا الحاضر حل من هذا النوع... فبعد استراحة قصيرة، سيبرز الإرهاب من جديد وسيتم استئناف الحرب ".
ويتفق بني موريس، كما يتابع فيدال، مع أطروحة صمويل هنتغتون  عن صدام الحضارات، حيث يعتبر رداً عن سؤال بهذا الخصوص: " إن الحرب بين الحضارات هي السمة الرئيسية للقرن الحادي والعشرين... ونحن في الخطوط الأولى [لهذه الحرب]. تماماً كما كان الصليبيون، نحن نمثّل الفرع القابل للكسر لأوروبا في هذه المنطقة... ففي العشرين سنة القادمة، من الممكن أن تندلع هنا حرب نووية... والدمار يمكن أن يكون نهاية هذه السيرورة، يمكن أن يكون نهاية التجربة الصهيونية. وهذا بالفعل ما يجعلني فزعاً وقلقاً... فنحن الضحية الأكبر للتاريخ، ونحن أيضاً الضحية الأكبر الأقوى. ومع أننا نضطهد الفلسطينيين حالياً، لكننا الطرف الأضعف هنا. فنحن أقلية صغيرة في محيط من العرب المعادين لنا، والذين يريدون تصفيتنا. وعليه، فقد يكون من الممكن، حينما تتحقق هذه الرغبة، أن يفهم كل العالم ما أقوله لك الآن. إن كل العالم سيفهم أننا الضحايا الحقيقيون. ولكن الوقت سيكون متأخراً ". ويرى بني موريس أن بن غوريون " قد ارتكب خطأً تاريخياً جسيماً في عام 1948. فمع أنه استوعب [أهمية] المسألة الديموغرافية وأدرك الحاجة إلى إقامة دولة يهودية من دون أقلية عربية كبيرة، إلا أن الخوف تلبّسه خلال الحرب، وتردد في نهاية المطاف ". وعندما سأله الصحفي مذهولاً : "هل تقول إن بن غوريون قد أخطأ لأنه طرد عدداً ضئيلاً من العرب؟"، أجاب: " طالما كان قد انخرط في عملية الطرد، ربما كان عليه أن يستكمل عمله. أنا أعرف أن هذا يذهل العرب والليبراليين والأشخاص المستقيمين سياسياً، لكن إحساسي هو أن هذا المكان سيكون أكثر هدوءاً وأقل معاناة لو كانت هذه المسألة قد حُلّت مرة وإلى الأبد، ولو كان بن غوريون قد نفّذ عمليات طرد واسعة وطّهر [عرقياً] كل البلاد - كل أرض إسرائيل إلى حدود نهر الأردن. ويمكننا القول إن هذا كان خطأه القاتل. فلو كان قد نفّذ عمليات طرد شاملة – بدلاً من عمليات طرد جزئية – لكان قد ضمن الاستقرار لدولة إسرائيل طوال أجيال ".
وبهدف  فهم ما يسميه بهذا "الانفصام الظاهر" في شخصية بني موريس، يعود دومينيك فيدال إلى تفسيرات المحللين المختلفة، حيث أشار بعضهم إلى "الدوش البارد" الذي أخذه بني موريس وعدد من المثقفين الإسرائيليين، نتيجة فشل قمة كمب ديفيد واندلاع الانتفاضة الثانية في عام 2000:  فبعد أن صدّقوا حكاية "العرض السخي " الذي قدّمه باراك ورفضه عرفات وأنه " لم يعد هناك شريك فلسطيني"، دعم أولئك المثقفون السياسة التي انتهجها أرييل شارون.  بينما أشار البعض الآخر إلى أن بني موريس بعد أن طُرد من وظيفته كمراسل دبلوماسي لصحيفة الجيروزاليم  بوست الصادرة باللغة الإنكليزية إثر صدور كتابه عن نشوء مشكلة اللاجئين الفلسطينيين، وبعد أن وضع على "اللائحة السوداء" وأغلقت أمامه أبواب الجامعات، لم يعد يرغب في القيام بأي فعل يمكن أن يؤثر على عمله في جامعة بئر السبع التي قبلته في نهاية الأمر.

تراجع تأييد المبادئ الديمقراطية

وتترافق مع كل هذه الظاهرات ظاهرة تراجع التأييد للديمقراطية ومبادئها داخل المجتمع الإسرائيلي، وهي ظاهرة يتوقف عندها بالتفصيل أنطون شلحت في كتاب: في صورة إسرائيل. فيذكر بأن المعهد الإسرائيلي للديمقراطية قد اعتمد منذ العام 2003 " مؤشراً " للديمقراطية، أشار إلى أن إسرائيل هي، في الجوهر، "ديمقراطية شكلية، لم تفلح بعد في أن تكيّف نفسها مع مميزات الديمقراطية الجوهرية، وفي أن تستبطن القيم والمفاهيم والثقافة الديمقراطية، ناهيك عن  أن وضعيتها في جانب الحقوق مثيرة للقلق" . أما مؤشر الديمقراطية لعام 2004 فيشير إلى
أن وضع إسرائيل "مثير للقلق"  لدى مقارنته مع الدول الديمقراطية الأخرى، حيث حصل تراجع في نسبة تأييد جمهور اليهود للمعايير الديمقراطية، فانخفضت نسبة التأييد لمقولة إن الديمقراطية هي الشكل الأفضل لنظام الحكم، وباتت غالبية من الجمهور تعتقد بأن " في إمكان زعماء أقوياء أن يجلبوا منفعة للدولة أكثر من جميع الأبحاث والقوانين ". كما باتت تشيع أفكار من نوع أن إسرائيل في حاجة "إلى حكم ديكتاتوري "، أو إلى " فرض نظام طوارئ [ديكتاتوري] ينأى بنفسه عن أصول اللعبة الديمقراطية".
ويرجع كتاب: في صورة إسرائيل ظاهرة تراجع التأييد للديمقراطية هذه إلى "عثرات" التربية الديمقراطية في إسرائيل  وإلى كون غالبية كبيرة من الجماهير اليهودية في إسرائيل تفتقد إلى التقاليد الديمقراطية، حيث أن اليهود في إسرائيل هم أبناء الجيل الأول أو الثاني أو الثالث ليهود جاؤوا من دول أوتوقراطية لم تنتشر فيها ثقافة سياسية ديمقراطية- ليبرالية، كما أن الحركات والأحزاب السياسية الرئيسية لا تمتلك تقاليد ديمقراطية راسخة؛ فمعسكر اليسار الصهيوني نشأ على تقاليد جماعية قدّست مبدأ الأكثرية لا الحريات الفردية، بينما أعطى معسكر اليمين الصهيوني الأفضلية للقيم القومية  ولتقديس النظام والقوة والانضباط والنزعة العسكرية، في حين اعتبر المعسكر الديني أن اتّباع الشريعة اليهودية والحفاظ على الطابع اليهودي للدولة أهم بكثير من حريات الإنسان وحقوق المواطن. ومن جهة أخرى، فإن افتقاد إسرائيل إلى دستور يمثّل عقبة كبيرة أمام العملية التربوية الديمقراطية ( أنطون شلحت، في صورة إسرائيل، المصدر المذكور، ص 32-41).  

الهاجس الديموغرافي والموقف من الأقلية العربية الفلسطينية

ولا يمكن فهم ظاهرة انزياح المجتمع الإسرائيلي المتواصل نحو اليمين دون التطرق إلى الهاجس الديموغرافي الذي صار يشغل بال اليهود الإسرائيليين، المتخوفين أكثر فأكثر من فقدان الغالبية اليهودية للدولة، ولا سيما في ظل تنامي الشك بإمكانية تحقيق حل الدولتين، وهجرة اليهود المتزايدة من إسرائيل، حيث هناك تقديرات بأن عدد الإسرائيليين الذين هاجروا من إسرائيل لا يقل عن نصف مليون شخص وربما يصل إلى 700000، وتزايد عدد العمال الأجانب العاملين فيها، الذين يزيد عددهم على 180000 عامل. والأهم من ذلك كله هو الزيادة السريعة، خلال مرحلة قصيرة،  في عدد السكان العرب، وهي زيادة تدل على طاقة ديمغرافية كبيرة، لا سيما وأنها نجمت عن الزيادة الطبيعية وليس عن الهجرة . فحالياً، نجد أن  واحداً من كل خمسة مواطنين إسرائيليين هو عربي؛ وبحسب توقعات المكتب المركزي للإحصاء، سيبلغ تعداد المواطنين الفلسطينيين العرب في إسرائيل مليونين و 320000 نسمة في عام 2025، أي ما نسبته 25 في المئة من مجموع السكان.
وبهدف مواجهة مثل هذا الخطر، تبرز بين الخبراء مقترحات عديدة، مثل:
- العمل على تخفيض معدل تكاثر السكان العرب الطبيعي ورفع معدلات الإخصاب بين اليهود، وخفض الإعانات الاجتماعية المقدمة إلى العائلات كثيرة الأولاد. ففي عام 2004، قدّر 67  في المئة من اليهود أن العرب يعرضون الدولة للخطر بسبب خصوبتهم العالية،.
- تشجيع العرب الفلسطينيين على الهجرة، حيث أيّدت غالبية واضحة من اليهود هجرتهم بشكل طوعي من البلاد: 63 في المئة العام 2006 و66 في المئة العام 2007.
- توزيع السكان اليهود  في مناطق إشكالية من ناحية ديموغرافية، وبالأخص في الجليل ومرج ابن عامر والنقب، وذلك من أجل الحؤول دون نشوء تواصل إقليمي لأكثرية عربية يقطع أوصال إسرائيل.
-  تبادل مجموعات سكانية بين إسرائيل والدولة الفلسطينية في حال قيامها، أو تبادل أراض مكتظة بالسكان العرب. وفي هذا الصدد، طرح الوزير العمالي إفرايم سنيه، في أواخر آذار 2002، برنامجاً لحل الصراع يقوم على مبدأ  " الفصل "، دعا فيه إلى  إجراء  تبادل سكاني  بين إسرائيل والكيان السياسي الفلسطيني، يسفر عن ضم " تجمعات استيطانية يهودية كبرى " في الضفة الغربية إلى مناطق السيادة الإسرائيلية، في مقابل ضم " مناطق عربية متاخمة للخط الأخضر " إلى مناطق سيادة السلطة الفلسطينية.
- قيام الدولة بإدخال تعديلات على قانون  العودة  لعام 1950، وبالتالي على تعريف من هو يهودي، بما يسمح بتهويد المهاجرين من غير اليهود، ومنهم حوالي 300 ألف مهاجر من دول الاتحاد السوفيتي السابق ، حتى لو كان ذلك يتعارض مع الشريعة اليهودية، والبحث عن مجموعات بشرية في العالم والعمل على تحويلهم إلى يهود وتهجيرهم إلى إسرائيل.
- اللجوء إلى فكرة " الترانسفير" إذا لم تنفع الحلول الأخرى. وكان استطلاع للرأي نشر سنة 2002  في " مشروع الأمن القومي والرأي العام " قد أشار إلى أن 46 في المئة من اليهود الإسرائيليين يؤيدون تطبيق الترانسفير على الفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة، وإلى أن 31 في المئة منهم  يؤيدون تطبيقه على المواطنين الفلسطينيين العرب في إسرائيل.
ومما يزيد الأمر خطورة هو التردي المستمر للعلاقات بين العرب الفلسطينيين وبين اليهود من مواطني إسرائيل. فبحسب المركز اليهودي-العربي التابع لجامعة حيفا، الذي ينشر منذ العام   1976  مؤشراً على تطوّر العلاقات اليهودية-العربية، لا يزال السكان اليهود ينظرون إلى العرب بوصفهم يشكّلون تهديداً لأمن الدولة، مثلهم مثل العرب في المناطق الفلسطينية المحتلة. ففي عام 2004، قدّر 58 في المئة من اليهود أنه ليس باستطاعتهم الوثوق بالعرب، وأشار 72 في المئة منهم إلى  أنهم يتجنبون الدخول إلى المدن والبلدات العربية، وذكر 53 في المئة منهم أنهم لا يتمنون أن يكون لهم جيران من العرب، وأعلن 34 في المئة منهم أنهم لا يرغبون في أن يكون لهم أصدقاء عرب (جاك بندلاك ، عرب إسرائيل ما بين الاندماج والانفصال، باريس، منشورات اوترومان، 2008، ص 20-45؛ أحمد س. حليحل، "الخصائص السكانية لإسرائيل 1948-2006"، قضايا إسرائيلية، العدد 30، 2008، ص 27-32؛ "قضايا على المحك"، قضايا إسرائيلية، العدد 28، 2007، ص 91-102؛ أنطون شلحت، في صورة إسرائيل، المصدر المذكور، ص131-150) .

الشيوعيون ومهمة بناء "اليسار الجديد"

إن الانهيار الذي  لحق باليسار الصهيوني في السنوات الأخيرة، والنجاحات النسبية التي حققتها في الوسط اليهودي الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة في الانتخابات البلدية والتشريعية الأخيرة،  يفتحان أفقاً أمام الدعوة التي طرحها الشيوعيون وأصدقاؤهم مؤخراً  من أجل العمل على بناء "يسار جديد" في إسرائيل.  
فعلى الرغم من انزياح المجتمع الإسرائيلي أكثر فأكثر نحو اليمين القومي والديني، لا يزال هناك في إسرائيل، كما لاحظ ميشيل فارشافسكي، رجال ونساء  " يرفضون الصياح مع الذئاب، ويرفضون إماتة ضميرهم أو التخلي عن روحهم النقدية؛ وهم ما زالوا مؤمنين بالسلام ومستمرين في النضال في سبيل التعايش بين الشعبين ". ويمكن لهؤلاء الرجال والنساء  أن يشكّلوا نواة  لمثل هذا اليسار الجديد، الذي يناضل من أجل سلام عادل وشامل في المنطقة، لا يمكن أن يتحقق إلا على قاعدة انسحاب إسرائيل من جميع الأراضي العربية التي احتلتها في حزيران 1967 وضمان الحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني، ومن أجل أن تكون إسرائيل دولة ديمقراطية لكل مواطنيها ومن أجل مصالح كادحيها من العرب واليهود.

21/3/2009