ألواح غَزَّة... أنا العنقاء وهذه قيامتي

2009-01-22
ألواح غَزَّة... أنا العنقاء وهذه قيامتي
سيدة البخور و ميدان تطاحن الأمم والحد الفاصل بين الخصوبة والقحط

شـــهيرة أحمد


(1) لوح النار

هنا غَزَّة••• أو قلْ هنا الجحيم ينفتح على آخره•
هنا مشاهد من نار تتدفق مع نيران ‘‘الرصاص المتدفق‘‘ بجنون لا يرحم•
هنا الطائرات ‘‘تطلق يمينها‘‘ في المخلوقات ولا تنسى بيتاً ولا حارة ولا زاوية•
هنا الأرض ‘‘تخرج أثقالها‘‘ أمام عيون العالم وعلى رؤوس الأشهاد!•
هنا غَزَّة ترى ‘‘القيامة‘‘ رأي العين، تواجه في عين القصف مصيرها الأسود، فيما الأشقاء مشغولين بزبَدِ الكلام•
هنا ‘‘بيت الطاعة‘‘ الذي فتح للناشزين وللخارجين على قواعد ‘‘سيِّد العالم الجديد‘‘، الذين باتوا من ‘‘المغضوب عليهم‘‘ والمطرودين من ‘‘جنَّتِهِ المزعومة‘‘!•
هنا موت ‘‘ديمقراطي!‘‘ تنجزه ‘‘طائرات ‘‘ديمقراطية جداً!‘‘ ليسيل على الشاشات بكل ‘‘ديمقراطية‘‘، وما علينا إلا أن ‘‘نكذِّب‘‘ عيوننا وما تراه، وأن نهتف بملء قهرنا وجرحنا: تحيا الديموقراطية، وأمها وأبوها وإخوتها وكل عائلتها وطائفتها وحتى جيرانها!!!•
هنا غَزَّة، تنزف مثل طير ذبيح يلفظ أنفاسه الأخيرة، ويرقص من ‘‘حلاوة الروح‘‘•
هنا غَزَّة••• الرمل صار قبراً واسعاً لكل الطيبين، والبحر ينام على سرير الموت الزؤام•
هنا غَزَّة••• تسبح في ‘‘فضاء‘‘ دمها المسفوك على كل ‘‘الأقمار‘‘، فيما نحن نسبح في بحر من الصمت والعار•
هنا الطائرات تسرح وتمرح في جسدها، تؤدي مهمتها على أفضل ما يكون، تبهر العالم في إتقان ‘‘تصديها للإرهاب‘‘•
هنا عرض سوريالي بامتياز: الدماء خشبة العرض، وغزة البداية والحبكة والخاتمة ونحن الجمهور والمتفرجون!•
تسقط غَزَّة في دمها، ولا يتغير في نهاراتنا شيء• لا تكفّ الأرض لحظة عن الدوران• لا ‘‘تنكسف‘‘ الشمس خجلاً، ولا ‘‘تتعطل‘‘ لغة الكلام على الفضائيات•
يشتد حولها الموت، يحيط بها الدمار من الأمام والخلف، ومن تحت ومن فوق، وعن اليمين وعن اليسار ومن الشمال ومن الجنوب، فالجنوب لم يعد ‘‘جنوب الروح‘‘•
هنا غَزَّة وحدها••• لا يحلم معها أحد، ولا يعينها على ‘‘درب الآلام‘‘ أحد، ولا ينتظرها على قارعة ‘‘النضال المشترك‘‘ أحد•
هنا غَزَّة••• النهار قبر جرى ‘‘تفصيله‘‘ على المقاس بالتمام والكمال، والليل قبر ممتد و••• طووووووويل•

(2)لوح البدء

أنا مدينة قديمة في التاريخ• بَناني العرب المعنيون، كما يقول إدوارد جلسر، في القرن السابع عشر قبل الميلاد• كان ملكهم منذ فجر التاريخ يمتدُّ، من حضرموت حتى حدودي•

‘‘غزاتو‘‘ أو ‘‘هازاتو‘‘ أو ‘‘جازاتو‘‘ هو اسمي الكنعاني• الفراعنة سمّوني ‘‘جزاتي‘‘• أنا ‘‘سيدة البخور‘‘ عند اليونانيين والرومانيين• و‘‘حمراء اليمن‘‘ بالتعبير العربي القديم• مرَّ بي نابليون وقال عني: ‘‘بوابة آسيا ومدخل إفريقيا‘‘• وأطلق عليَّ العرب ‘‘غزة هاشم‘‘ لأن جد الرسول ‘‘صلى الله عليه وسلم‘‘ توفي ودفن في أرضي• وما أكثر ما لهاشم في روحي من قداسة، مساجد ومحاريب وصلوات كلما مرت عليها الليالي زادتها جمالاً وبهاء، ونثرت على ريحان شواهدها الحجرية من عطور التاريخ ما يعجز عن وصفه اللسان وتخرس أمام جماله العبارات•

أثار العلماء الكثير من الجدل حول موضع نشأتي• قال فلندرز بتري أنني نشأت أول ما نشأت في منطقة ‘‘تل العجول‘‘ الواقعة على التلة الشمالية القريبة من فم الوادي، أعني الوادي الذي يحمل اسمي ‘‘وادي غزة‘‘، فيما يجمع أكثر من باحث ومؤرخ أن نشأتي كانت منذ البدء في موقعي الحالي بعيدة عن الساحل ثلاثة كيلومترات ونصف إلى الغرب منه، تماماً كما حدد بُعدي هذا ‘‘هيرودوتس‘‘ أيام الاسكندر الأكبر في القرن الرابع قبل الميلاد•

وسواء كان هذا أو ذاك، فإن موقعي هذا سرٌّ من أسرار خلودي، كما أنه في نفس الوقت لعنتي الأبدية• فهو يمثل أول واحة للراحة تقف عندها تلك القبائل العربية القادمة من الصحراء العربية لتحل رحالها فيها وتجد الخصب من بعد القحط، والماء الوفير بدلاً من مياه العيون المتناثرة وسط بحر الرمال العظيم• ولهذا عرفت بأنني الحد الفاصل بين الخصوبة والجدب، بين المزروع واللا مزروع لأنني آخر الصحراء شمالاً وأول البحر جنوباً، وها أنا اليوم أيضاً ‘‘الحد الفاصل‘‘ بين الحق والباطل، بين الذل والكرامة، بين الصمود والاستسلام•

لطالما كنت منطقة جذب جعلت أصحاب الوجوه الغريبة دائمي التوافد على ناري، سراياهم على مر التاريخ تَتْرى على أرضي• موجة اثر موجة جاؤوا ليتمركزوا بي، من هنا كان سر خلودي المكاني وصمود سكاني•

ورغم أن موقعي الاستراتيجي والجغرافي الحساس عند التقاء قارتي آسيا وأفريقيا أكسبني أهمية بالغة ومكانة استراتيجية وعسكرية فائقة، حيث إنني الخط الأمامي للدفاع عن فلسطين، بل والشام جميعها جنوباً، والموقع المتقدم للدفاع عن العمق المصري في شمالي الشرقي، إلا أن هذا الموقع سبب لي الكثير من الآلام، وجعلني هدفاً للطامعين و‘‘ميدان تطاحن الأمم‘‘ كما قال جورج آدم سميث، وساحة لاقتتال الجيوش والإمبراطوريات في العالم القديم: الفرعونية، الآشورية، الفارسية، اليونانية، الرومانية، الصليبية، وفي الحرب العالمية الأولى• وما أشبه الليلة بالبارحة، فاليوم لا يختلف عن الأمس، وما يجري الآن على أرضي ليس سوى حلقة من هذه الحلقات•

الفراعنة والمصريون القدامى أدركوا أهمية موقعي، خصوصاً بعد تعرض مصر لموجة الهكسوس القادمة من الشمال، فاعتمدوا استراتيجية تقول: ‘‘هاجم حتى لا تُهاجم، انقل الحرب إلى ما وراء سيناء حتى لا تضطر إلى الحرب داخل وادي النيل‘‘• هذه الحكمة العسكرية، إن جازت العبارة، جعلتني منذ آلاف السنين عمقاً للدفاع عن مصر• ولهذا، لا تستغربوا أن نهاية الهكسوس كانت في ‘‘تل الفارعة‘‘ على مرمى حجر مني، على يد ‘‘أحمس‘‘ الذي حاصرهم لمدة ثلاث سنين أو أكثر، مما يدلل على منعتي وقوة دفاعاتي وغزارة رصيدي التمويني، بعدها صار المصريون يستأثرون بي، فهزيمة الهكسوس علمتهم أن يدافعوا عن أنفسهم من العمق، أي من أرضي•

لم يكن هذا الحصار الوحيد الذي تعرضت له، فقد عانيت من حصارات كثيرة منها: ‘‘حصار الإسكندر الكبير والفرس والبريطانيين، لكن هذا الحصار في نهاية المطاف، يصبح بالنسبة لي مجرد هامش في أسفل الصفحة‘‘•

(3)لوح كنعاني

تذكر معظم الكتب التي تبحث في تاريخ غَزَّة ومنها على سبيل المثال لا الحصر: ‘‘غَزَّة وقطاعها‘‘ لسليم عرفات المبيض، ‘‘إتحاف الأعزَّة في تاريخ غَزَّة‘‘ للشيخ عثمان الطباع، و‘‘تاريخ غَزَّة‘‘ لعارف العارف، و‘‘غزَّة هاشم‘‘ لسعيد عاشور، أن غَزَّة شهدت حضارات كبيرة في عصور التاريخ المختلفة، ففي العصر الحجري الحديث عرفت غَزَّة ثلاث مراحل متصلة من الحضارات هي: حضارة وادي غَزَّة ومنطقة أريحا ‘‘الطبقة الثامنة من تل أريحا‘‘، والحضارة الغسولية (نسبة إلى موقع تليلة الغسول شمال شرق البحر الميت بنحو كيلومترين)، وحضارة بئر السبع• وتغطي هذه الحضارات الكنعانية فترة زمنية تمتد من نهاية العصر الحجري الحديث في أواسط الألف الرابع قبل الميلاد•

وفي المرحلة الأولى من عصر البرونز وهي توافق عصر ما قبل الأسرات الأخير في مصر ‘‘3400 ـ 3000 ق•م‘‘، ويطلق عليه الباحثون أحياناً ‘‘عصر الحجر والنحاس الأخير ـ Late Cholcolih‘‘، ازدهر بناء المنازل والبيوت العامة كالمعابد والمقابر، وظهرت الأواني الفخارية المتميزة بالخطوط المتقاطعة والمتموجة التي وجدت أيضاً في أريحا ومجدو وتل بيت مرسم وتل الدوير، ما يدل على اتساع النطاق الحضاري ونظام الاتصال السياسي والاقتصادي، واحتكاك الحضارة الكنعانية بالحضارات المجاورة في سورية ومصر•

لقد كان العربي الكنعاني أول من احترف الزراعة مستخدماً المنجل والمحراث، كما احترف الصناعة بما عثر عليه من أوان فخارية وأدوات نحاسية حتى أن عالم الآثار والمؤرخ ‘‘فنسنت‘‘ يرى أن للكنعانيين في فلسطين حضارة خاصة في عهد البرونز أطلق عليها ‘‘حضارة الكنعانيين‘‘•

وفي العصر البرونزي الحديث (1546 ـ 1200 ق•م) أصبحت غزة العاصمة الكنعانية الإقليمية واحتلت مركز الثقل الإداري والسياسي في أرض كنعان، وبلغت شأواً عالياً• ويرجع نسب الكنعانيين إلى العمالقة أو الجبارين، وتكشف ‘‘رسائل تل العمارنة‘‘ التي ضمت في مجموعها 350 لوحة من الطين أرخت لعهد تحتمس الرابع (1410 ـ 1402) قبل الميلاد، وأمنحوتب الثالث (1402 ـ 1364)، وأمنحوتب الرابع (1364 ـ 1347) أن نصفها من ملوك كنعان، وقد أوردت هذه الرسائل ولأول مرة مصطلح ‘‘كنعان‘‘ ‘‘Kinhi-Kinahna‘‘ مع بداية النصف الأول من القرن الرابع عشر قبل الميلاد متضمناً فلسطين تحت اسم إقليم كنعان ‘‘Ihati Sakinahi‘‘•

ثم سكن غزة الفلسطينيون الذين أقاموا حضارة كبيرة في أرض كنعان، وأسسوا خمس ممالك، وكانت غزة إحداها، أما الأربعة الأخرى فهي عسقلان، اسدود، جت وعفرون، وحارب الفلسطينيون الغزاة الإسرائيليين، وحالوا دون سيطرتهم على المدن الفلسطينية• وكان للفلسطينيين مراكب وعربات للخيول وبرعوا في صناعة المحاريث والآلات المنزلية• توالت الاحتلالات على غزة: الآشوريون، البابليون، الفرس، اليونان، الرومان• وفي عام 634 ق•م• فتحها عمرو بن العاص في خلافة أبي بكر الصديق ‘‘رضي الله عنه‘‘، حتى وقعت تحت نير الصليبيين في عام 1100م، لتعود مرة أخرى للحكم الإسلامي عام 1187م بعد انتصار المسلمين في موقعه حطين، لكن الصليبيين احتلوها مرة أخرى حتى قيض الله لها القائد الظاهر بيبرس الذي تمكن من هزيمتهم في معركة غزة الثانية، والتي كان لها أكبر الأثر في طرد الصليبيين من فلسطين، حتى أن بعض المؤرخين أطلقوا عليها معركة حطين الثانية•

ولم تسلم غزة من الغزو المغولي المدمر، لكن هزيمتهم النهائية هم أيضاً كانت فيها، عام 1260م في موقعة عين جالوت• وبعد انتصار العثمانيين على المماليك، في موقعه مرج دابق عام 1516م، وقعت تحت حكم العثمانيين•

وكان لها مع نابليون بونابرت قائد الحملة الفرنسية على مصر وبلاد الشام حكاية، فقد احتلها في عام 1799م، وما تزال القلعة التي نزل فيها موجودة في غزة وتحمل اسمه• بعد ذلك وقعت تحت الحكم المصري عام 1831 عندما أرسل محمد علي والي مصر حملته إلى بلاد الشام بقيادة ابنه إبراهيم باشا•

وفي بداية القرن الماضي، وفي عام 1917م على وجه التحديد، احتلها البريطانيون، لتخضع في عام 1948 للإدارة المصرية• وفي العدوان الثلاثي على مصر عام 1956 وقعت تحت الاحتلال الإسرائيلي لتعود بعد سنة واحدة فقط الى الإدارة المصرية مرة ثانية•

ومنذ حرب 1967 وهزيمة حزيران وقعت تحت الاحتلال الإسرائيلي، حتى وقعت منظمة التحرير الفلسطينية اتفاق أوسلو في عام ،1994 وبموجبه غادر جنود الاحتلال الإسرائيلي مدينة غزة لتتولى إدارة المدينة السلطة الوطنية الفلسطينية، وليشهد القطاع فاجعة ‘‘اقتتال الإخوة‘‘: فتح وحماس، ثم العدوان الإسرائيلي عليه في العام ،2004 ثم تكرار العدوان في ،2006 ثم الحصار والعدوان الحالي•

(4)لوح فلسطيني

تقول جغرافيا الكتب إن غزة تقع في جنوب السهل الساحلي الفلسطيني على الحدود الفلسطينية المصرية على خط عرض 31,3 درجة شمال خط الاستواء، وعلى خط طول 34 شرقاً، لكن جغرافيا النار والدم تقول إن غزة تقع في قلب كل فلسطين، تتوسد حناياها وتتربع على سدتها، وتتخذ من شرايين القلوب عرشاً لها• ورغم أنها تبتعد عن ساحل البحر المتوسط بثلاثة كيلومترات ونصف، كما تقول الجغرافيا التقليدية أيضاً، إلا انها لا تبتعد عن عيون الفلسطينين طرفة عين، أو رفة رمش، وتتوطن في كل لمحة وإشارة• وإذ ترتفع 45 مترا عن سطح البحر، ترتفع بشهدائها ودمائها وجراحها إلى أعلى عليين، وترتقي إلى معارج القداسة تلك التي لا يمكن قياسها بوحدات القياس التي نعرفها، ولكي نفعل، علينا ان نخترع لها قياسات جديدة تصلح للتعبير عن الكرامة والعلياء والبطولة•

27 كانون الثاني ،2008 تاريخ لن ينساه الفلسطينيون، سيبقى محفوراً في أعمق أعماق قلوبهم، ففي هذا اليوم بدأت ‘‘المحرقة‘‘ التي أعلنها الاحتلال الصهيوني على قطاع غَزَّة، في عملية اجتياح بربرية سماها ‘‘الرصاص المتدفق‘‘ أو ‘‘الرصاص المصبوب‘‘ ليصب جام حقده وعجزه و‘‘قلة حيلته‘‘ على السكان العزل المسالمين، بعد أن فرض حصارا محكما وطوقا مشددا عليهم•

الكيان الصهيوني الغاشم يريد بعمليته البشعة، التي تجاوزت كل الأعراف الأخلاقية والإنسانية أن يعزل غَزَّة، ويقضي على المقاومة، تماماً كما فعل في مايو 2004 تمهيدا لتدمير مئات المنازل لحفر خندق مائي كبير وجدار حديدي يعزلانها عن الحدود المصرية فيما يشبه ‘‘خط بارليف‘‘ الذي بنته إسرائيل على قناة السويس قبل حرب ،1973 وقد فشلوا في تحقيق هدفهم في العام 2004 وها هم يجربون إنجازه بعد أربع سنوات•

في المرة السابقة انقلب السحر على الساحر، وبدلاً من أن يعزل العدو غَزَّة عن العالم عزلته هي، ودفَّعته ثمناً باهظاً لعمليته الفاشلة التي قالت الصحف العبرية نفسها إن نتائجها لا تستحق كل هذا العناء وهذا الثمن الباهظ، ومن لا يصدق عليه أن يعود إلى صحيفة ‘‘يديعوت أحرونوت‘‘ بتاريخ 25/05/2004 حيث قال ضابط كبير في جيش الاحتلال الإسرائيلي يومها: ‘‘إن النشاط الفعلي للحملة العسكرية لم ينته بعد في المرحلة الحالية، على الرغم من الإعلان عن انسحاب جميع القوات المتواجدة هناك• إن رفح ستبقى تشغلنا، وسننشط فيها كلما اضطرنا الأمر لذلك• إن الخوف من انتقال أسلحة من مصر إلى القطاع عبر الأنفاق السرية سيبقى ماثلاً أمام أعيننا‘‘•

الغريب أن غَزَّة التي ترعبهم أنفاقُها حالياً، لها مع الأنفاق حكاية قديمة ومتجذرة في التاريخ، وها هو سليم عرفات المبيض الذي روى تاريخها في كتابه: ‘‘غَزَّة وقطاعها‘‘ يؤكد أن ‘‘سكان غَزَّة حرصوا على تحصين مدينتهم، في القرن الثالث قبل الميلاد، فأقاموا حولها سوراً ضخماً يحيط بها يبلغ ارتفاعه خمسين قدماً ويتراوح عرضه ما بين متر ونصف المتر، له عدة أبواب من جهاته الأربع، وكان أهمها باب البحر أو باب ‘‘ميماس‘‘ نسبة لمينائها غرباً، وباب ‘‘عسقلان‘‘ شمالاً و‘‘باب الخليل‘‘ شرقاً، وأخيراً باب ‘‘دير الروم‘‘ أو ‘‘الداروم‘‘ جنوباً• وكانت هذه الأبواب تغلق مع غروب الشمس، مما جعلها حصينة مستعصية على أعدائها• أما النفق فيصل طوله الى خمسمائة قدم، وكان الأهالي يحتمون به عند الشدة• ويعود كلاهما السور والنفق الى عام 2000 قبل الميلاد‘‘•

لكن ما يحيط بغزَّة هذه الأيام ليس سوراً من الحجر بل سور من أرواح ودماء الشهداء التي تتدفق على ترابها فتحولها جنة خضراء وارفة بالايمان•

وها هي غَزَّة اليوم تسجل أروع قصص البطولة والصمود، تعصب رأسها بحناء الشهادة وتتمنطق بقرآن الكفاح، وتعلن تحت أقدامهم طوفان الغضب، رافضة كل محاولات الإبادة• هم يريدون لها أن تموت، وهي تسطر ملحمة الحياة•

لكن لماذا يريدون موتها؟

سؤال معقد وبسيط في آن، ينبغي لغزة أن تموت ـ في عرفهم وعقيدتهم ـ لأنها فلسطينية الوجه والقلب واللسان، ولا مكان لها في ‘‘العهد القديم‘‘ ولا ‘‘الجديد‘‘• مسموح لغزة أن تموت فقط، في عملية إبادة يشعر أعداؤها وهم ينفذونها بـ ‘‘تفوق أخلاقي!‘‘ كما تقول (تسيفي ليفني)، تفوق يعطيهم الحق في أن يقتلوها قتلاً تاماً 100%، كاملاً 100%، خالصاً 100%، ليتحقق خلاصهم حسب (بن غوريون): ‘‘إذا أردنا خلاصاً يهودياً 100% فلا بد لنا من استيطان عبري 100%، ومزرعة عبرية 100%، ومرفأ عبري 100%‘‘• هكذا، تخلص لهم أرضها، ‘‘ويكون ضمير (غولدا مائير) مرتاحاً تماماً‘‘، وتتحقق كذبتهم القديمة الجديدة عن ‘‘أرض بلا شعب لشعب بلا أرض‘‘• فمن الحمق بمكان، يقول (إسرائيل زانغويل)، ‘‘أن نسمح بأن يصبح في هذا البلد شعبان‘‘•

إذن، كل فلسطيني، عليه أن يتذكر أن ‘‘رأسه مطلوب‘‘ لأنه جزء من ‘‘عرب فلسطين‘‘، وهؤلاء العرب حسب (حاييم وايزمن) ‘‘يشبهون صخور منطقة يهوذا، فهم عوائق يجب إزالتها عن هذا الدرب الصعب‘‘•

ولأنهم شعب الله الـ ‘‘متحضرون!‘‘ ينبغي أن ‘‘يكنسوا‘‘ من طريقهم ومن حولهم ومن جوارهم ‘‘الأميين الرعاع‘‘، فهم، بكلمات (جابوتنسكي)، معلّمهم الكبير: ‘‘نحن اليهود، والحمد لله، لا شأن لنا بالشرق••• يجب تكنيس أرض إسرائيل من الروح الإسلامية••• العرب رعاع يزعقون، ثيابهم رثة ذات ألوان صارخة متوحشة‘‘•

إذن، ماذا يفعل الفلسطيني؟

هذا سؤال أجاب عليه نصري الصايغ في كتابه ‘‘لو كنت يهودياً‘‘، بعد محاكمة طويلة للفكر الصهيوني وأدبياته، حيث خلص إلى القول: ‘‘إنهم يطالبوننا بالبقاء تحت أقدام الإسرائيلي مسبحين بحمده، لأنه لم يقتلنا• إنهم يطالبوننا بقبول الخطيئة الأصلية، وممارسة الغفران، وتأليه هذه الدولة القاتلة• فما العمل؟ أنا الفلسطيني مقتنع بمنطق دافيد بن غوريون حرفياً: ‘‘لو كنت عربياً ذا وعي قومي وسياسي••• لقاومت ضد هجرة من شأنها أن تسلم البلد وأهله أجمعين إلى الحكم اليهودي‘‘• وبما أنني فلسطيني جداً، وقومي جداً، وواعٍ جداً، فإني سأقاوم• إلى متى؟ أنا الفلسطيني، سأتبع طريقة جابوتنسكي: ‘‘إن الصراع على فلسطين تحسمه القوة الأقوى• فلا استيطان ولا دولة من دون قوة حديدية وستار حديدي‘‘•

صح• ‘‘إن القوة هي القول الفصل في إثبات الحق القومي أو إنكاره‘‘• كما قال أنطون سعادة•
ولكنني لا أملك من القوة إلا موتي•
فليكن••• إن موتي يخيفهم أكثر من حياتي• والبقية تأتي• إن حريتي تقيم على قارعة موتي، فبكل فرح، أيها الأعداء، أنا ذاهب إلى حريتي، وسآتي بها‘‘•

(5)لوح الخلود

الليل يفرش على الكون موسيقا جنائزية
الصمت ينهش قلوب الشوارع ويستشري في البيوت
كلُّهم ناموا وصَحَتْ غزة
غزة في الليل تخرج من التلفاز
تلقي على روحي التحية
تسحبني من يدي إلى جباليا و بيت لاهيا ودير البلح
تمرّ بي على خزاعة وعبسان وبيت حانون
تتجول في خان يونس ثم تهوي إلى رفح
تنبش شواهد القبور بحثاً عن الجثث
تعدُّ لي أسماء أبنائها
عناوين القرى التي يسكنون
جدائل بناتها الموؤودات
عناوين أطفالها القتلى
تخرج من جيب ‘‘سترتها‘‘ مفكرة الوقت
تحصي أسماء من فقدوا/ ومن قتلوا/ ومن حرقوا
ومن خرجوا من الأنفاق ينسلون

ثم تطرق قائلة:
أنا هنا منذ سبعة آلاف عام قبل الميلاد
فوق ثرايَ ازدهرت مدن وقامت حضارات
عاصرت بناء الأهرام في مصر
واكبت البابليين والآشوريين
هنا، فوق ربايَ، على ضفاف أوديتي
غزاة كثيرون مرّوا علي، وظلوا عابرين
مضوا، واندثروا، لكنني لم أندثر قط
لم أعرف الموت، ولا أدركني الفناء
كل من غزاني ادّعاني لنفسه لكنني لم أبدّل جلدي
لم أخُنْ من عمَّروني وشيَّدوني منذ بدء التاريخ
الكنعانيون أبنائي، عاشوا في أرضي، لم يهجروني،
دافعوا عني على مر العصور
عشت حية منذ ولادتي
ناقضت كل النظريات التي تحكي عن فناء المدن
موقعي وسكّاني مفاتيح بقائي
اقرأوا تاريخي لتفهموا أسرار خلودي
اقرأوا جغرافيا دمي لتعرفوا سرّ صمودي
لتعرفوا لماذا أستعصي على الموت
وأخرج كالعنقاء من قلب الخراب•
ابن بطوطة والشافعي
يروى عن الإمام محمد بن إدريس الشافعي وهو من أعلام غزة، أنه قال يصف شوقه وحنينه إلى غزة:
وإني لمشتاق إلى أرض غزة
وإن خانني بعد التفرق كتماني
سقى اللهَ أرضاً لو ظفرتُ بتُربها
كحلتُ به من شدة الشوق أجفاني

أما ابن بطوطة فقال عنها في رحلته الشهيرة: ‘‘ثم سرنا حتى وصلنا إلى مدينة غزة، وهي أول بلاد الشام مما يلي مصر، متسعة الأقطار، كثيرة العمارة، حسنة الأسواق، بها المساجد العديدة والأسوار عليها‘‘