الجدار وإغتيال ياسر الطميزي - بقلم سعيد مضية

2009-01-17
الجدار واغتيال ياسر الطميزي

الكاتب: سعيد مضية

اغتالت دورية عسكرية إسرائيلية من أربعة جنود الشهيد ياسر الطميزي، الشاب ابن الخامسة والثلاثين من بلدة إذنا. اغتالته بدم بارد بعد أن أوثقت قيد يديه ورجليه ونقلته من منطقة أمام جدار الضم إلى منطقة خلف الجدار. من المؤكد أن قيادة الجيش لم تصدر أمر القتل. وفي نفس اليوم اغتالوا الشاب نصر الأعرج من عزون ، وملابسات الجريمة ظلت مجهولة. بالتأكيد لم يستشر الجنود القتلة قيادتهم قبل تنفيذ الجريمة. لكن القيادة غطت بالطبع على الجريمة مدعية في بيان صحفي أن ياسر حاول اختطاف بندقية أحد الجنود. لدى كل جندي وكل مستوطن الحق بإطلاق النار والقتل؛ يقتل ثم يجد  التبرير: دفاعا عن النفس أو عن البندقية أو أي عن شيء ما بحوزته. يقتل الجندي أو المستوطن ثم يفكر في مسوغ القتل. لدى كل قائد وحدة حق إصدار أمر عسكري بالقتل أو بالاستيلاء على بيت أو قطعة أرض " لأغراض عسكرية". ذات يوم استولت مفرزة عسكرية على بيت أحدهم في مدينة الخليل . راجع صاحب البيت واعترض .. وأخيرا تقدم إلى المحكمة العليا ونجح في استصدار أمر قضائي بإخلاء البيت. رجع مسرورا معتزا بنفسه وسلم الأمر إلى قائد المفرزة . أدى الضابط التحية للأمر، أمر الجنود بالخروج من البيت؛ وفي الشارع أصدر أمرا جديدا باحتلال سطح البيت والدرج والمطبخ وكل ما يفضي إلى السطح. وكل مسوغ مقبول لدى القيادة العسكرية.
كان ياسر يحرث قطعة أرض مشجرة بالزيتون، في الجهة الشمالية من الجدار قرب ممر ترقوميا المؤدي إلى غزة. القطعة تبعد خمسين مترا هوائيا عن الجدار وهي ما تبقّى من أرض حجز معظمها خلف الجدار، وبرك الجدار على جزء آخر.  بلدة إذنا من قرى الخطوط الأمامية، كما أطلق عليها قبل الاحتلال. والآن بات يطلق عليها منطقة " الخط الأخضر". وأقرب القرى المحتلة إليها بلدة الدوايمة التي شرد سكانها إثر مجزرة دامية داخل مسجد القرية عام 1948. في تلك الأثناء تقدمت القوات الغازية واحتلت 17ألف دونم من إجمالي 36 ألف دونم من الأراضي الزراعية يملكها مزارعو البلدة ؛ وفقدت ما مساحته أربعة آلاف دونم على طول سبعة كيلومترات من امتداد الجدار على أراضيها. وفي بلدة إذنا يعيش 22 ألف نسمة. ومعلوم أن الجدار صدر قرار محكمة العدل الدولية بعدم شرعيته، وبوجوب إلزام إسرائيل بدفع تعويضات للمزارعين عن تعطيل أراضيهم وقلع الأشجار منها، مع إعادة الأراضي لأصحابها. حظر القرار أيضا على دول العالم إقرار إسرائيل على بناء الجدار كأمر واقع وحظر مساعدتها في تشييده؛ ولم تحفل إسرائيل بالقرار ، وساندتها الولايات المتحدة ودول أوروبا . ومورست ضغوط على الدول العربية والسلطة الفلسطينية كي تغض النظر عن انتهاك إسرائيل لقرار أعلى  مرجع قضائي دولي.
طلب جنود الدورية من ياسر أن يبتعد. تسائل ياسر مستغربا عن السبب؛ الأراضي أمام الجدار تبقى للمزارعين يخدمونها وقتما يشاءون؛ خلف الجدار يدخلونه بتنسيق مع السلطة العسكرية وقتما ترغب السلطة.. العسكرية طبعا. فليس للسلطة الوطنية حق التدخل في الأمر والدفاع عن مواطنيها. ببساطة تعلن المنطقة "عسكرية"، فلا يجوز الاقتراب منها. وفي منطقة إلى الجنوب  من الجدار، وفي وقت سابق، كاد الحاج حسن البطران، من مزارعي البلدة، يصرع بطلق ناري من دورية عسكرية قريبة. كان يحرث على دابته عندما سمع أزيز الرصاصة بالقرب من أذنه. يقول أن الطلقة أصابته لو لم يحرك رأسه. نفق حماره ذات مرة من طلق ناري . الغاية إرهاب المزارع ومنعه من خدمة أرضه. وكثيرا ما يماطل العسكر ويتركون المزارعين ينتظرون الساعات ريثما يفرغ لهم الجنود ويمرون على أراضيهم خلف الجدار؛ وأحيانا كثيرة لا يفرغ العسكر. وهذا بالطبع تمهيد لإجبار المزارعين على التخلي عن تلك الأراضي. وتم حجز عشرة بالمائة من أراضي الضفة الغربية خلف الجدار.
لماذا طلب الجنود من ياسر وقف الحراثة والابتعاد؟ تساءل ياسر ولم يتلق الجواب, ياسر عضو في حزب الشعب الفلسطيني ، يتصف بالجرأة والعناد، صنعته مهني, حداد يصنع صناديق السيارات بدقة وكفاءة. استغل يوم عطلته وساق دابته واصطحب ولده كي يحرث قطعة الأرض. فالحفاظ على الأرض من المصادرة يقتضي خدمتها باستمرار. ربما عاند ياسر ورفض امر الجنود بالابتعاد. ربما سهى آنذاك ، والحقد يضطرم على قتل الأطفال والنساء في غزة، عن أمر العقوبة لمن يعاند القاعدة التي يتسلح بها العسكر ،  " على العرب أن ينصاعوا لإرادتنا"! قاعدة للعلاقات مع العرب أرساها  بيغن قبل سنوات خلت، والجنود يتأثرون بفكر خلفاء بيغن ، الذين يقودون الحزبين الرئيسبن، ليكود وكديما؛ وخلفاء بيغن يمارسون القتل الجماعي في غزة. ياسر لم يصدع لما يؤمر فهجم عليه الجنود الأربعة وأوثقوا رباطه وانهالوا عليه بالضرب . شاهد مزارع من البلدة الجنود  يضربون ياسر فوق جدار حجري وصاح لماذا تضربونه؛ وصاحت امراة شاهدت المنظر المفزع وشهدت لدى المدعي العام. فأقارب المغدور يريدون ملاحقة كل الإجراءات القانونية هنا وفي الخارج . سوف يلاحقون القتلة قضائيا رغم ان إسرائيل اعتبرت قتل العرب حقا مشروعا ل"الشعب المختار". اعتبر ت لجنة الانتخابات الإسرائيلية العرب المحتجين على القتل الجماعي في غزة " إرهابيين"، والأحزاب العربية، الداعية إلى المظاهرات الاحتجاجية " إرهابية" حظرت مشاركتها في الانتخابات. ليس الأمر نكتة؛ فقد مُنع من التقدم بلوائح انتخابية كل من أحزا ب "التجمع العربي"، الحزب الذي أسسه الدكتور عزمي بشارة،  و"القائمة العربية الموحدة" ونائبها احمد الطيبي، ثم " حركة التجديد". بل إن ليبرمان رئيس حزب " إسرائيل بيتنا " طالب بضرب غزة بالسلاح النووي. وطالب حزبه بحرمان العرب من الجنسية الإسرائيلية. فالعرب أُمسِكوا بجريمة الاحتجاج على القتل الجماعي في غزة. وعلقت صحيفة "هاارتس " أن إجراءات المنع واعتقال مئات المحتجين العرب" ترمي لترويع كل من يمارس الاحتجاج المشروع". رغم الترويع وإظهار اللامبالاة يصر أقارب ياسر الطميزي على متابعة الإجراءات القانونية ضد قتلة ياسر وهو  موثق الأربطة. إسرائيل تمسك القانون ومن يعارضونها خارجون على القانون، ويتقنون التزييف. ويجب محاسبة المجرمين ذات يوم.
  كتب اوري أفنيري بعد ضرب مدرسة الوكالة بصاروخ أن الجيش وزع صورة مسلح بجانب المدرسة ومعه مدفع مورتر؛ ليتبين أن الصورة التقطت قبل عام. وعلق افنيري : إسرائيل لا تقبل ان يعيش رعاياها تحت تهديد أسلحة بدائية ولكنها تطلب من حماس أن تقبل تقتيل شعبها بالجملة!!
وكتبت الأكاديمية الإسرائيلية فيكتوريا بوتش، مقالة عنوانها " تاريخ المجازر الإسرائيلية واخلاقياتها " كتبت فيه أن " كل طفل في حضانة أطفال اقتنع أننا في حرب 1967 دافعنا عن وجودنا في فلسطين! وبقيتُ انا لسنوات عدة مقتنعة بهذه الدعاية إلى أن تعثرت بالصدفة بأقوال عن قادتنا: فقد نقلت نيويورك تايمز عن ميناحيم بيغن في خطاب ألقاه (آب 1982) قال فيه:كان لدينا الخيار في حزيران 1967؛  كان تمركز الجيش المصري في سيناء دفاعيا ، لا يبرهن إطلاقا على أن ناصر كان حقا ينوي الهجوم علينا؛ يجب أن نكون أمناء مع الذات، فنحن قررنا مهاجمته."
"وأبلغ رابين رئيس الوزراء الأسبق صحيفة لوموند الفرنسية (شباط 1968) بقوله" لآ أعتقد أن ناصر كان يريد شن الحرب؛ فالفرقتان اللتان أرسلهما إلى سيناء يوم 14 أيار غير كافيتين لشن هجوم على إسرائيل . هو كان يعرف ونحن عرفنا".
والجنرال روبين هود ، قائد القوة الجوية للجيش الإسرائيلي خلال حرب الأيام الستة قال عام 1968"ستة عشر عاما من التخطيط استنفذت خلال الدقائق الثمانين الأولى لحرب حزيران. عشنا مع الخطة ، نمنا مع الخطة ، أكملنا الخطة أكملناها بدقة".
الجنرال حاييم بارليف، قائد الأركان  أبلغ معاريف في إبريل 1972: لم يكن يتهددنا خطر إبادة عرقية عشية حرب حزيران، ولم يخطر ببالنا إطلاقا مثل هذا الاحتمال." هكذا يلفقون الادعاءات لتنطلي على الجمهور ويصفق أثناء العمليات العسكرية؛ وبعد أن تتم "هندسة الموافقة" على الجريمة تتكشف عن خدعة تتميز بالدهاء، لكنها تطوي على توحش قد يصيب بعدواه الضحية.
ربما بقي لغزا لدى ياسر سبب منعه من خدمة أرضه، رغم أنه سمع وعرف بآلاف الحالات من نكوص السلطات الإسرائيلية عن وعودها وقرارات محكمتها العليا. الفلسطينيون يعيشون منذ أربعين عاما بلا حقوق ؛ وهم محرومون من امتيازات القانون الدولي الإنساني . ياسر عرف ذلك واستوعبه ؛ لكنه ربما لم يعرف بأمر صفقات بيع الأراضي أمام الجدار لتحويلها من زراعية يملكها فلاحون حريصون على الأرض- الوطن، إلى مقاولين بلا ضمائر وبلا أخلاق يحولون الأراضي إلى استثمارات تجارية لتسهيل التبادل التجاري على طرفي الجدار. تغري إسرائيل رجال أعمال للدخول في شراكة تجارية مع مؤسسات إسرائيلية، كي تزف للعالم الإنجاز الحضاري بإنشاء مناطق تطوير توفر العمل للآلاف؛ وهي لذلك تضيق الخناق على المزارعين وتمنعهم من خدمة أراضيهم . إسرائيل تقوم بدور “ريادي" في تدبير مؤقت ل" الفائضين عن الحاجة" ممن سحقتهم الرأسمالية المتوحشة وتركتهم بلا مصادر للمعيشة . إنهم يشكلون، حسب إحصاءات المؤسسات عابرة القومية، ثمانين بالمائة من سكان المعمورة. ويتوجب تدبير أمورهم باعتبارهم " فائضين عن الحاجة".
والشعب الفلسطيني في الضفة الغربية وغزة أيضا “ فائض عن الحاجة " ويتوجب إيجاد سبل لتدبير أمره : بالقتل الجماعي او بالمشاريع المؤقتة ريثما يضطر إلى الهجرة وإبقاء فلسطين بكاملها دولة يهودية خالصة ، نقية من السكان الأصليين. إسرائيل وإدارة بوش لم توافق بعد على دولة للفلسطينيين، دينية او علمانية.
وليس بعيدا عن الحقيقة أن خطة الهجوم على غزة وضعت قبل ستة أشهر ، وأن حصار غزة وضعت خطتها من قبل داغان رئيس الاستخبارات الحالي بعيد انتخاب شارون عام 2001.  اشتملت الخطة على تحطيم مناطق السلطة والتخلص من عرفات بالقتل وحصار غزة عن طريق مسلسل إجراءات تضع حماس على رأس السلطة في غزة لتبرير حصار جمهور غزة وتقتيله.
بالطبع لم تكن حماس تدري ولم يعرف أبو عمار، وما عرف الجنود الأربعة المئال البعيد لاغتيال ضحيتهم ياسر طميزي. هم نفسوا عن الحقد العنصري ضد العرب، الحقد المشحون بالدعايات العنصرية المتواترة؛ واثقين من موافقة أولي الأمر، وربما وجدوا من يشد على أيديهم من أولئك المتربصين لجني الأرباح من مشاريع " التطوير على جانبي الجدار.  
17/1/2009