العالم وفلسطين بعد كورونا | نهاد أبوغوش

2021-02-16

العالم وفلسطين بعد كورونا

| نهاد أبوغوش

الآن وبعد عام عصيب وكئيب، ودّع فيه ملايين البشر أحبابهم من دون أن يتمكن أحد من إنقاذهم أو تخفيف آلامهم، وشلّت كثير من مرافق الحياة الاقتصادية والاجتماعية، وأفلست آلاف الشركات والمصالح الصغيرة في كل بلد، ولحق الخراب بمئات الملايين من ذوي الدخل المحدود والعمال والطبقات الفقيرة.

بات في مقدور البشر، وبخاصة القادة وصناع القرار، أن يستعدوا لعالم ما بعد "كورونا". وان يخططوا لمستقبل البشرية بعد أن كشفت الجائحة عن عورات النظام الدولي القائم على العولمة المتوحشة، وتحكم الشركات الاحتكارية المتعددة الجنسيات بكل شيء بما في ذلك التقسيم الدولي للعمل بين دول وشعوب تملك الثروة والرساميل والتكنولوجيا، وأخرى لا تملك سوى المواد الخام والأيدي العاملة الرخيصة والأسواق المفتوحة على مصراعيها. كما تتحكم تلك الشركات بادوات إنتاج وتصنيع ونشر التعليم والثقافة والإعلام، وحتى أنماط الاستهلاك والأبحاث العلمية وصولا للرياضة والفنون والموضة وكل ما يمكن أن يزيد ثروة الأثرياء، ويكبّل باقي البشر بقيود التبعية.

صحيح أن الجائحة ما تزال تصيب مئات الآلاف، وتحصد أرواح الآلاف يوميا على امتداد العالم، إلا أن التوصل لإنتاج اللقاحات والمطاعيم عالية التأثير، ووصولها لمختلف الدول بما فيها فلسطين، يبشر بنهاية قريبة لهذا الكابوس، مع بقاء الخطر قائما في المديين القريب والمتوسط، على مستوى الأفراد والجماعات.

لعل الدرس الأكثر بلاغة من جائحة الكورونا، هو اندحار منطق الليبرالية الجديدة، وتمظهراتها السياسية على شاكلة دونالد ترامب واليمين الشعبوي، وهي التي تعفي "الدولة" من أية مسؤوليات اجتماعية سواء في مجال التعليم والخدمات الاجتماعية والصحة، أم في مجال تحقيق حدّ من العدالة الاجتماعية، وضبط الشراهة والجشع اللذين تتصف بهما الشركات الاحتكارية لامتصاص القيمة الزائدة من كل جهد بشري، منطق الليبرالية الجديدة يتلخص في أن حرية السوق وحدها، واليد الخفية التي يتحدث عنها الاقتصاديون، هي الكفيلة بتسيير أمور المجتمع والاقتصاد، وأن مسؤولية الدولة تنحصر في تهيئة الظروف لضمان تحقق ذلك.

تجليات المنطق الليبرالي في مجالات الصحة والخدمات الطبية تتلخص في أن "المرض" هو مجال لازدهار الأعمال والربح، لذلك يجري استثمار مئات مليارات الدولارات في قطاع الخدمات الصحية والاستشفاء والعلاج بأنواعه، وصناعات الأدوية والأبحاث العلمية المرتبطة بها، بينما لا يستثمر سوى النزر اليسير في مجالات الصحة المجتمعية والوقاية من الأمراض والأوبئة والأبحاث العلمية اللازمة للقضاء عليها والحد من انتشارها.

ووفق هذا المنطق فإن الطب والخدمات الصحية متقدمة جدا وهي تتقدم باطراد، ولكنها متاحة فقط للقادرين على دفع أكلافها العالية، وقد رأينا جميعا كيف أن عهد ترامب بدأ بالانقضاض على قانون الرعاية الصحية المعروف ب"أوباما كير".

بعض الدول كبدتها الكورونا أثمانا باهظة نتيجة أهواء السياسيين وانحيازهم لرأس المال المتوحش، كحالتي إيطاليا وإسبانيا اللتين انحازت حكومتاهما لأصحاب الاستثمارات السياحية وشركات الطيران فرفضتا إجراءات الإعلاق بموجب بروتوكولات منظمة الصحة العالمية، والولايات المتحدة بسبب رعونة ترامب وعناده، وحتى إسرائيل التي ارتبطت فيها وتيرة الإصابات بمصالح نتنياهو! حيث انحاز في البداية لأصدقائه من أصحاب الأعمال ورفض الإغلاق، ثم قرر توسيع الإغلاق للحد من التظاهرات ضده، ولتعطيل الجهاز القضائي وبالتالي تأجيل محاكمته.

الخلاصة الرئيسية من تفشي الجائحة عالميا هي أن مخاطر الأوبئة ما زالت قائمة وبقوة، وهي تهدد بصورة جدية مستقبل البشرية بل وحتى بقاءها، وأن دور الدولة وأجهزتها تجاه الخدمات العامة آيل للتوسع والزيادة وليس للتراجع، وأن مسؤولية الحكومات والمنظومات الصحية صرف مزيد من الاهتمام على منع الأمراض والوقاية منها وليس فقط علاجها واعتبارها بابا مشرعا للربح.

فلسطينيا تبدو معادلتنا ضربا من السهل الممتنع، فالتشخيص واضح وجليّ لكل متابع، لكن النهوض بالواقع الصحي يتطلب قرارات مركزية صعبة وإعادة تحديد الأولويات، وموازنات تخصص نسبة أكبر من الأموال والموارد للمرافق الصحية، وتعاونا من قبل كل القطاعات وتحديدا من القطاعين الخاص والأهلي مع الحكومة. فقد أظهرت أزمة كورونا مدى هشاشة وضعنا الصحي على الرغم مما لدينا من كفاءات وموارد بشرية، وفي غياب السيادة على الأرض لم يكن ثمة أية جدوى في فرض الإغلاق على مراكز المدن بينما المدن والضواحي والمناطق المصنفة (ج) في عالم آخر من الفوضى، القدرات الاستيعابية لمستشفياتنا لا تتناسب مع أية جائحة، ومعظم المشافي والمراكز الصحية تعاني من نقص في الكوادر البشرية على الرغم من نسبة البطالة العالية في صفوف الأطباء والدعوات المتكررة لتقليص تعليم الطب، هذا في الوقت الذي يتكدس فيه عشرات آلاف الموظفين في دوائر السلطة ووزاراتها من دون عمل حقيقي يبرر تفريغهم.

إلى جانب ضرورة بناء مستشفيات مركزية حديثة وذات قدرات استيعابية عالية في مراكز المحافظات، تبرز على أعلى سلم الأولويات مؤولية إيجاد نظام كفؤ وفعال للتأمين الصحي الوطني الشامل لجميع المواطنين وبخاصة لذوي الدخل المحدود، وضرورة التوحد الوطني في مواجهة الجائحة.

لقد صرفنا عدة أشهر ونحن نتحزر حول ما إذا كانت الكورونا خطرا حقيقيا أم مجرد مؤامرة، وروّج البعض أن الوباء عقاب إلهي ويكفي ترديد بضع آيات للوقابة منه، وذهب كثيرون للسخرية والتهكم على إجراءات الحكومة ووزارة الصحة بل وتحدّيها بفتح دور العبادة والأسواق وقاعات الأفراح ومجالس العزاء عنوة، لنستنتج بعد دفع ثمن باهظ أن الحد الأدنى من النجاح في مواجهة كارثة طبيعية أو بشرية يتطلب إجماعا وطنيا وتغليب مصلحة الوطن على الحسابات الصغيرة واصطياد أخطاء الآخرين وتتبع هفواتهم، وإذا قيّض لنا أن ننجو من هذه الجائحة، فعلينا أن نستعد لمواجهة كوارث محتملة لا تقل أثرا كالأوبئة والزلازل المحتملة فضلا عن التقلبات السياسية وما يمكن أن يقترفه الاحتلال من جنون.