سمعتُ صوتًا هاتفًا | عبد الرزاق دحنون

2020-09-24

سمعتُ صوتًا هاتفًا

| عبد الرزاق دحنون

قرأتُ اسم المغني الشعبي التشيلي اليساري فيكتور جارا أول مرة في أحد أعداد مجلة "الهدف" التي كانت تصدر في بيروت لمؤسسها الكاتب الفلسطيني الشهيد غسان كنفاني. وكانت صورة بالأبيض والأسود ضبابية الملامح تُرافق الخبر. الصورة لشاب بملامح هندية إسبانية عربية يحمل غيتارًا على صدره ويقف في وضعية المغني أمام ميكرفون. ومازلت أذكر ما جاء في الخبر: إن أصحاب الانقلاب العسكر ضدَّ الرئيس الاشتراكي سلفادور أليندي عام 1973قد كسروا أصابع المغني التشيلي بعد أن تمً حبسه مع آلاف الناس المعارضين المحتجزين من قبل عسكر الانقلاب في ملعب مدينة سانتياغو لكرة القدم. تساءلتُ ببراءة، تلك الأيام، وكنتُ ما أزال في أول عهد الشباب: كيف سيغني هذا المسكين ويعزف على الغيتار بأصابع مكسورة؟ وتساءلتُ أيضًا كيف سيتمكن فريق كرة القدم من اللعب في ملعب يُحبس فيه آلاف مؤلفة من البشر حتى أنه لا مكان فيه لكرة قدم واحدة؟

حين جاء عصر الإنترنيت، بحثت في هذا الاختراع العظيم الذي غيّر حياة البشر وقرَّب المسافات بينهم، عن أغنيات فيكتور جارا، لأفهم الحكاية بالصوت والصورة، فوجدت أغنياته واستمعت إليها بشغف الملهوف، وفهمت حكاية المغني الذي كسر العسكر أصابعه كي لا يُغني وكي لا يكتب الأغاني التي تُعارض السلطة الغاشمة. قرأت أن عسكر الانقلاب بعد أن كسروا أصابع فيكتور جارا طلبوا منه الغناء فغنى وعزف بأصابع مكسورة تنزف منها الدماء، حينها تذكرت حكاية المغني والسلطان التي رواها الشاعر الداغستاني رسول حمزاتوف في كتابه "داغستان بلدي" أختصرها هُنا بتصرف حتى لا نثقل على القارئ ثم نكمل بعدها حديثنا عن فيكتور جارا.

المغني والسلطان

عاش في أحد البلاد المتاخمة لحدود الصحراء مغنون شعبيون يجوبون القرى الطينية وينشدون أغانيهم على الربابة. وكان سلطان تلك البلاد -إذا لم تشغله أعماله أو نساؤه- يُحب أن يستمع إلى أغاني هؤلاء. وفي يوم من الأيام سمع أغنية تتحدث عن ظلم السلطان واستبداده وقسوته. فأمر بالبحث عن المغني الذي يُنشد هذه الأغنية التي تحضّ على عصيان السلطان، وأن يُؤتى به مخفورًا إلى قصر السلطان. ولم يُعثر على المغني المطلوب. وعندئذ أمر السلطان وزراءه وجنوده بالقبض على كل مغنٍّ في السلطنة.

هجم جنود السلطان مثل كلاب الصيد المدربة على القرى، والواحات، والشعاب الموحشة، وقبضوا على كل من كان يغني حتى ولو كان راعيًا أو فلاحًا خلف المحراث أو ربة منزل تخبز على التنور، وألقوا بهم في سجون القصر السلطاني. وفي صباح اليوم التالي جاء السلطان ليرى المغنين المساجين: حسنًا. على كل واحد منكم أن يُغني لي أغنية واحدة. وبدأوا واحد بعد واحد، يمجدون السلطان، وفكره النير، وقلبه الطيب، ونساءه الجميلات، وقوته وعظمته ومجده. وقالوا في أغانيهم إن الأرض لم تشهد قط مثل هذا السلطان في عظمته وعدله. ويجب أن يسود سلطانه الصحراء بجهاتها الأربع، وأن يحكم العالم.

أطلق السلطان سراح من غناه وراق له من المغنين. ولم يبق في السجن غير ثلاثة لم يستمع إلى أغانيهم. تركوا في السجن. وظن الناس أن السلطان نسيهم. إلا أنَّ السلطان بعد أشهر عاد إلى المساجين قائلًا: حسنًا. على كل واحد أن يُغني أغنية واحدة.

راح أحد الثلاثة يغني ويُمجد السلطان وفكره النير وقلبه الطيب ونساءه الجميلات وقوته وعظمته ومجده. وقال في أغنيته إن الأرض لم تشهد قط مثل هذا السلطان في عظمته وعدله. وأُطلق السلطان سراح المغني. وبقي في اليد مغنيان رفضا الغناء. فأمر السلطان بنقلهما إلى محرقة أُعدت في الساحة العامة. وقال السلطان: سنلقيكم في النار. هذا إنذار نهائي: غنياني إحدى أغانيكما. ولم يستطع واحد منهم أن يتماسك. وجعل يغني ويُمجد السلطان فأطلقوا سراحه.

لم يبق في الميدان غير "حديدان" الذي أبى في عناد أن يُغني. وأمر السلطان: اربطوه بالجذع وأشعلوا النار حوله. وعندئذ غنى بصوت عذب يقطر حزينًا وألمًا، وهو مربوط بالجذع، أغنيته التي ذاع صيتها في طول السلطنة وعرضها عن قسوة السلطان واستبداده وظلمه، تلك الأغنية التي كانت السبب في كل ما حدث. فصرخ السلطان في جنوده: فكوا حباله. أخرجوه من النار. أنا لا أريد أن أفقد المغني الوحيد الحقيقي في سلطنتي!          

حق لا يموت

ولكن سلطان العسكر الغاشم أوغستو بينوشيه صاحبة الانقلاب في التشيلي قتل بالرصاص سلفادور أليندي رئيس البلاد المنتخب. وبعد أن استمع إلى المغني فيكتور جارا يغني أغنيته الأخيرة قتله أيضًا بأن أطلق عليه أكثر من ثلاثين رصاصة وكانت رصاصة واحدة تكفي لقتل المغني. ومن ثمَّ شوهت جثته ورميت في أحد الأزقة الفقيرة المهملة في العاصمة سانتياغو والتي كان يُغني لها فيكتور جارا.

استخدمت السلطة العسكرية ملاعب كرة القدم لاحتجاز أي أحد أبدى معارضة للانقلاب. نحو 40 ألف شخص اعتُقِلوا في الملعب الوطني، وفقًا للناجين وإحصائيات منظمات السجناء السياسيين السابقين. ورغم صعوبة التأكد من صحة هذا الرقم، فإن المؤكد أنه جرت اعتقالات جماعية في كل أنحاء البلاد. خصص المجلس الانقلابي 12 ملعبًا وعددًا من المباني لاعتقال آلاف المعارضين.

بعد عقود تقول مريم ناجي من كلية الآداب قسم اللغة الإنكليزية والمهتمة بالترجمة والكتابة واللغات في مقال منشور: استيقظ العالَم، صبيحة الثالث من يوليو 2018، ليجد أنه حُكم على ثمانية ضباط عسكريين متقاعدين بالسجن 15 عامًا، لاشتراكهم في جريمة قتل المغني الشعبي التشيلي فيكتور جارا قبل 45 عامًا، وسجن المشتبه به التاسع خمس سنوات لتستره على عمليات القتل، التي وقعت خلال الانقلاب على سلفادور أليندي عام 1973، الذي قاده الجنرال أوغستو بينوشيه وصار بعده رئيسًا لتشيلي.

الحق لا يموت. مقولة قديمة يحفظها الناس وتتردد في مجالسهم. تقول العرب بأن طائرًا يخرج من هامة المقتول ظلمًا ويظل يحوم حول قبره صارخًا في أهل العدل أن يقتصوا من القاتل حتى بعد أربعين عامًا. ومهما طال الزمان يبقى مثابرًا في تحليقه وسعيه حتى يُقتص من القاتل فيعود إلى جسد القتيل. في حالة المغني فيكتور جارا كانت هذا الطائر الذي خرج من هامة القتيل الباسقة زوجته السيدة جوان ترنر راقصة باليه بريطانية وهي امرأة مجاهدة سعت كي تُعيد الحق إلى أهله. فكان لها ما أرادت بعد نضال عنيد دام عشرات السنين.

جاء الحكم بعد سلسلة محاكمات استمرت سنوات، وبعد أن طلبت المحكمة في حزيران/يونيو 2009 استخراج جثة فيكتور جارا للتحقيق في أمر مقتله، وتأكدت أنه أُطلق عليه الرصاص أكثر من ثلاثين مرة. أعادت زوجته جوان دفنه في المقبرة الوطنية بسانتياغو. لكن هذه المرة كانت الجنازة مهيبة وأشبه بجنازة لكل الذين قُتلوا وفُقدوا وقت الانقلاب العسكري، ويُقدَّر عددهم بثلاثة آلاف شخص.

لم يكن فيكتور جارا مغنيًا ذا شعبية كبيرة فقط، بل كان شاعرًا وأستاذًا جامعيًّا ومخرجًا وممثلًا مسرحيًّا ومؤيدًا لحكومة سلفادور أليندي. كتبت جوان قصتها مع زوجها، بعد عشر سنوات من مقتله، في تداعيات عنوانها (أغنية لا تنتهي-حياة فيكتور جارا) صدرت في كتاب عام 1984. افتتحته بالقول: راحة، في النهاية، أن أحكي هذه القصة بهدوء، بطريقتي الخاصة، بدلًا من الرد على أسئلة مفاجئة تسمح لي فقط بأن أقص الأجزاء التي تهم الشخص الذي يُحاورني.

قرأتْ هذا الكتاب باللغة الإنكليزية مريم ناجي وقدمت عرضًا وافيًا عن حياة فيكتور جارا على لسان زوجته البريطانية جوان ترنر. الكتاب لم يُترجم إلى اللغة العربية حتى اليوم. لذلك سأعتمد على الفقرات التي ترجمتها مريم ناجي. وهنا لا بد من تقديم جزيل الشكر لها على مبادرتها في الالتفات لهذا المغني التشيلي الذي دفع حياته في سبيل كلمة حق عند سلطان جائر.

في كتابها تحكي جوان أنها كانت تشعر بالغيرة أحيانًا من غيتار زوجها وأغانيه، دائمًا هناك أغنية أو أغنيتان تعيشان داخله، وتؤرقانه إلى أن يغنيهما أمام الجمهور. كتب لها في رسالة: أحيانًا أشعر بأن الأغنية تترسخ بداخلي، ثم تجد طريقها للخروج دون إرادة مني.

حياة فيكتور جارا

ولِد المغني التشيلي فيكتور جارا عام 1932، في قرية لونكون التي تبعد 50 ميلًا عن سانتياغو العاصمة التشيلية، ونشأ فيها. كانت الأساطير والفلكلور جزءًا يميز تلك القرية، حيث قضى فيكتور ليالي طفولته بجانب أمه يراقبها وهي تحصد الذرة مستمعًا لغنائها وعزفها على الغيتار، ثم يغفو على صوت غنائها. وهذا يذكرني بما قاله الشيخ إمام عن طفولته حين كان يستمع إلى النسوة من قريباته في القرية وهنَّ يغنين بأصوات حزينة تلك الأغنيات الفطرية التي تمس شغاف القلب من تراث أهل النيل وتفطر القلوب.

ككل الصبيان في الريف بدأ فيكتور في مرافقة أبيه إلى عمله في الحقول، تارة يُدلل فيكتور ويجعله يركب الجرافة، وتارةً أخرى يجعله يغوص في الوحل ليرشد الثيران وهي تحرث الأرض، كي لا تحيد عن طريقها. لذلك جاءت معظم أغاني فيكتور حكايات من أحداث وقعت له خلال حياته، وذكرى صحبته لأبيه وثَّقها بأغنياته التي كتبها ولحنها وغناها. ومن هنا يمكننا القول بثقة عالية أن غناء فكتور جارا كان مؤثرًا في جمهوره وساعدت تلك الحميمية بين المغني وجمهوره على انتشارها. إن هذا الانحياز إلى الشعب كسرت له أصابع كفيه فيما بعد وأردته قتيلًا برصاص العسكر. 

تحكي زوجته جوان في الكتاب أن والدة فيكتور كانت دعامة البيت الأساسية. كانت امرأة عاملة لا تكل ولا تمل وإلى بجانب عملها في الحقول، كانت تربي الدجاج والماشية، وتزرع بعض المحاصيل في حديقة البيت الصغيرة. ورغم توتر علاقة الأبوين منذ كان فيكتور صغيرًا، فإن الأمر ازداد سوءًا عندما أدمن الأب الكحوليات، وأصبح نكد المزاج متجهمًا. فكان ينفق كل ما يكسبه في الشراب، ويختفي لأيام، ثم يعود إلى المنزل مخمورًا وغاضبًا، يتشاجر مع أماندا، الأم، ويضربها دون سبب.

حدث واحد غيَّر مسار حياة فيكتور جارا الريفية. ذات يوم، كانت الأم خارج المنزل، والأخت الكبرى تحاول إعداد طعام لإخوتها، وفجأة حاولت أن تدفع قدرًا كبيرًا مليئًا بالماء المغلي، فسقط عليها، وأحرق كل جسدها. ولأنه لم تتوفر الرعاية الطبية في قريتهم الصغيرة، ذهبت العائلة إلى مستشفى في سانتياغو العاصمة، واستغرقت الأخت عامًا كاملًا حتى تتعافى. حينها فقط قررت الأم أن عليها الانتقال كليًّا إلى العاصمة، والبحث عن عمل لا يتطلب أن تترك أطفالها بمفردهم فترات طويلة.

بعد التنقل بين أكثر من وظيفة، استطاعت الأم أن تؤسس عملها الخاص، فافتتحت مطعمًا صغيرًا أخذ كل وقتها. كان من حسن حظ فيكتور جارا وقتها أن تعرَّف إلى جارٍ يجيد عزف الجيتار، واكتشف هذا الجار أن فيكتور يحوم حول منزله فقط عندما يبدأ في العزف، فعرض عليه أن يُعلِّمه ما يعرفه، وفوجئ بأن فيكتور كان يحفظ كل ما يقال له، وكأنه واعٍ ومدرك لماهية الموسيقى بالفطرة. توفيت والدته وهو في الخامسة عشر من عمره، في يوم عادي، وهي تخدم في مطعمها. شكَّل موتها ألمًا له وإحساسًا بالذنب والعزلة حمله معه طوال حياته، بسبب أنه لم يساعدها بما فيه الكفاية، ولم يستطع أن يقدم لها الراحة التي كانت تعوزها بشدة.

بين المسرح والغناء

في نهاية عام 1954، ترك كل شيء وراءه وسافر إلى شمال تشيلي مع مجموعة جديدة من الأصدقاء. كان هدفهم المشترك تجميع الموسيقى الشعبية واستقصاء تلك المنطقة، وكان قد بدأ حينها في إعادة اكتشاف الإرث الموسيقي الذي تركته والدته له. وصوله إلى مسرح البلدية مكَّنه من مشاهدة عرض مسرحي أدهشه بشدة، وكان مدخله إلى عالم المسرح. كانت مسرحية من نوع التمثيل الصامت، جسَّد شخصياتها مجموعة حديثة التكوين. فورًا وصل فيكتور جارا إلى مؤسس المجموعة ليعبر له عن دهشته، ويسأله عن الكيفية التي تمكنه من دراسة هذا الفن المسرحي. كانت إجابة المؤسس أن دعاه إلى حضور تجربة أداء في الاستوديو الذي تتدرب الفرقة فيه. هناك ظهر حس فيكتور الحركي والتعبيري، فقدم له المؤسس عرضًا ليتدرب معهم في الفرقة. وبالفعل بدأ فيكتور من فوره في التعلم والمشاركة في مسرحياتهم.

اتسمت هذه الفرقة بالتنوع، فتضمنت أشخاصًا متعددي الثقافات والوظائف، ولا شيء مشتركًا بينهم سوى حب المسرح والقدرة على التعبير والحركة. واحد منهم كان شخصًا غنيًّا اسمه فرناندو بورديو، جذبته الوحدة والسماحة التي اتسم بها فيكتور. ذهب فرناندو إلى مدرسة المسرح في جامعة تشيلي للدراسة، وأخبر فيكتور عن برنامج تقدمه الجامعة للطلاب العاجزين عن دفع المصروفات، وأن عليه فقط أن يجتاز تجارب الأداء. نجح بالفعل في اجتيازه، وبدأ دراسته الأكاديمية للمسرح. هناك قابل جوان ترنر، وهي راقصة بالية بريطانية، كانت تعطي دروسًا حركية في مدرسة المسرح، وتزوجها في نفس الفترة.

فيكتور جارا مغنيًا يساريًا

استمر فيكتور جارا في دراسة المسرح والاهتمام به حتى عام 1962، بعدها بدأ يكتب أغانيه الخاصة، ويلحنها ويغنيها للجيران والأصدقاء. كان دافعه الأساسي، لفتور علاقته واهتمامه بالمسرح وتكريس حياته للموسيقى، أن المسرحية لا تؤثر كالأغنية. المسرح دائمًا يرتاده المهتمون فقط بالفن المسرحي، أما الأغنية، فباستطاعتها الوصول إلى قلوب كل الناس مهما تتنوع اهتماماتهم وثقافاتهم، فهي: كالماء الذي يغسل الحجارة ببطء، كدفء النار الذي يُحيط ويعيش في داخلنا لجعلنا أناسًا أفضل.

كان أول صدام مع اليمين التشيلي هو اعتراف فيكتور جارا الدائم بانتمائه إلى الحركة اليسارية بقيادة السياسي الاشتراكي سلفادور أليندي. وبعد زياراته إلى كوبا والاتحاد السوفييتي أوائل الستينيات، انضم جارا إلى الحزب الشيوعي. التقت شخصيته السياسية بماضيه الإنساني، وظهرت في أغانيه عن الفقر الذي عانى منه مباشرة.

كانت أغلب أغاني جارا تُصنَّف في حركة الموسيقى التشيلية الحديثة، وعدد من المغنيين في أمريكا اللاتينية كتبوا وغنوا بنفس الطريقة، إلا أن فيكتور جارا كان الوحيد الذي برز وتمرَّس في هذا النوع، فكان من مؤسسيه. انتشر فيكتور جارا وأغانيه خارج تشيلي، ولم تعد شعبيته إلى مهاراته في كتابة الأغاني فحسب، بل إلى قوته الاستثنائية خلال أدائها. اتخذ منعطفًا حاسمًا في موقفه السياسي بأغنيته "أسئلة حول بويرتو مونت" التي استهدفت مسؤولًا حكوميًّا كان قد أمر الشرطة بمهاجمة مدنيين في مدينة بويرتو مونت، وحدثت فيها مجزرة وثَّقها فيكتور جارا في الأغنية. تدهور الوضع السياسي التشيلي بعد اغتيال هذا المسؤول الحكومي، الأمر الذي دفع حزب اليمين إلى التهجم على جارا وضربه في إحدى المناسبات.

سننتصر

كتب جارا أغنية (سننتصر)، وكانت الأغنية الرئيسية لحركة الوحدة الشعبية بتشيلي، ورحب بانتخاب أليندي لرئاسة تشيلي في 1970. كان جارا وزوجته جوان مشاركين أساسيين في النهضة الثقافية التي اجتاحت تشيلي، ونظَّما أحداثًا ثقافية لدعم الحكومة الاشتراكية الجديدة. لحَّن جارا قصائد الشاعر التشيلي الكبير بابلو نيرودا، وأداها في حفل تكريم نيرودا بعد أن حصل على جائزة نوبل للأدب في 1972. ظل محتفظًا بوظيفته في تدريس المسرح في الجامعة التقنية في تشيلي وسط تذمر أعضاء حزب اليمين وغضبهم.

من المستحيل أن ينسى الشعب التشيلي، أو العالم، ما حدث في الملعب الوطني لكرة القدم في العاصمة سانتياغو وقت الانقلاب. لكن الأمر عند جوان يكتسب صبغة ذاتية، وتحكي عنها بصيغة مريرة في كتابها: كانت كل التقارير تشير إلى أنه في خلال يومين أو ثلاثة في أقصى تقدير، تمكَّن العسكريون من إحكام سيطرتهم على البلاد. كان التعذيب يحدث بشكل منهجي في مراكز الاحتجاز. في 11 سبتمبر 1973، ألقت القوات العسكرية القبض على فيكتور جارا ومئات من الطلاب الجامعيين، وقادتهم إلى استاد تشيلي. حجزوه هناك أربعة أيام، وحُرِم من الطعام والنوم، وتعرَّض للتعذيب: كسر الجنود أصابعه، وأعطوه غيتاره وأمروه بأن يكمل الغناء، كانت آخر أغنية غنَّاها جارا في المعتقل، قبل مقتله، هي (سننتصر) في ذلك الملعب، وتحت وطأة التعذيب، كتب جارا قصيدته أو أغنيته الأخيرة، ليصف المذبحة التي حدثت في الملعب، وهُرِّبت هذه القصيدة في حذاء أحد المعتقلين، كأنها مفتاح النجاة السري. كتب فيها: عيوننا تحدق إلى الموت/أنا أعيش لحظات لانهائية/حيث الصمت والصراخ صدى غنائي.

استاد فيكتور جارا

ربما في 15 سبتمبر، لا أحد يدري بالضبط، نقل فيكتور جارا إلى منطقة مهجورة، وأطلق الجنود عليه النار، من 30 إلى 40 مرة. ثم نُقِل إلى مشرحة في سانتياغو، ووجدت زوجته جثته بين مئات الجثث مجهولة الهوية بسبب التعذيب. سُمح لزوجته باسترداد جثته ودفنها شريطة ألا تعلن هذا. بذلت السلطات جهدها لتخفي قصص المجازر التي حدثت، ولتبرئ نفسها من الجرائم، فمنعت أن يُذاع خبر وفاته، أو أن تُعلَّق صورته في أي مكان، فقد كان هو تحديدًا يمثل رمزًا سياسيًّا وثقافيًّا، أجمع أهل التشيلي على حبه.

استمرت الأوضاع في تشيلي على هذه الدرجة من السوء، نحو 15 عامًا، كان فيها الشعب التشيلي مقموعًا وخائفًا ومتمسكًا في الخفاء بصوت مغنيه فيكتور جارا وأشعاره وشخصه، كرمز للمقاومة المتسللة، والباعثة للأمل، والمتحدية للألم. غنى في آخر لحظاته على غيتاره بأصابع دامية، وظل صوته مُختفيًا ومفقودًا من تشيلي حتى بعد اسقاط العسكر في التسعينيات. كانت المشكلة هي عدم العثور على التسجيلات الرئيسية، التي أعطتها جوان إلى مجموعة من فنيي التلفاز السويدي قبل أن تفر من البلاد. عادت جوان بعد 10 سنوات إلى تشيلي، وأصبحت واحدة من النشطاء الذين أدت جهودهم في النهاية إلى استعادة الديمقراطية هناك.

في عام 1994، أسست جوان مؤسسة فيكتور جارا، وهي منظمة ثقافية غير ربحية، الغرض منها ليس تعزيز المعرفة بأعمال فيكتور جارا فقط، بل ومواصلة عمله. وتحتفظ المؤسسة بأكبر أرشيف لحياته، بما في ذلك التسجيلات والكتب والمقالات وأشرطة الفيديو والصور والملصقات. في أوائل عام 2000، أعيد إصدار تسجيلات فيكتور جارا، على نطاق واسع، وأصبح شخصه موضوعًا لعدة ألبومات لموسيقيين تشيلين تبجيلًا لشجاعته. وفي 2003، سُمي الملعب الذي قضى فيه أيامه الأخيرة استاد فيكتور جارا.