التخطيط في زمن كورونا - ناصيف معلم

2020-05-27

التخطيط في زمن كورونا

ناصيف معلم

إتَصَلتُ مع أعز الأصدقاء الى قلبي لأسأل عن احواله في ظل كورونا، وذلك بعد ان لاحظت واحسَستُ بأن هناك ما يُضايقه، فأنا اعرفه تمام المعرفة، حيث حبه للمغامرات وللحياة الصاخبة، إضافة لعشقه للحياة لأنه يعلم أكثر من غيره بان الانسان قادر على خلق جَنَتهِ في الدنيا وليس بالآخرة كما يعتقد الغيبيون، وجاء كورونا ليُجلِسُهُ في البيت رُغما عنه.

حاول بداية ان يكون دبلوماسيا، وهو كذلك، لكن، وأعتَقِدُ جازما، ولأنه يحترمني أفصَحَ لي عن حاله بالقول: "المتعوس متعوس"، وأضاف: "لأول مرة قررت ان اخطط للمستقبل، إلا ان كل شيء انتهى". ولم يكتفي صديق الروح بذلك، بل أضاف: "انت تعرفني لم أكن اخطط في السابق، الا انني اخذت برأيك، وبدأت اخطط لمشروعي، لكن المتعوس مش لازم يغير من حياته ويفرح".

لقد سُرِرتُ بهذه الصراحة وهذا الانفتاح، ولأنه يهمني واقع ومستقبل وسعادة هذا الصديق كما يهمني واقع ومستقبل ابنائي، حاولت التدخل لإجراء حوار مفتوح ومنفتح للمساهمة في اسناده لأنني شعرت بانه نوعا ما مُحبط، وكأن حالة كورونا انهت مشروعه وأسقطت خطته.

مؤكد ان البعض منا لديه خطط ومشاريع مستقبلية خاصة ممن يناضل للارتقاء بوضعه ووضع مجتمعه، وهؤلاء حقيقة قِلة قليلة من مجتمعنا الفلسطيني الذين يرفضون الواقع المُعاش لان هذا الواقع لا يستفيد منه سوى المُتَنَفِذين والرأسماليين ورجال الدين، لكن الضحايا ممن يرضَونَ بواقعهم المؤلم لا سيما وان لديهم معرفة وإدراك بانه يتم إستغلالهم بصفتهم يَبيعون جُهدهم وتُصادرَ فيها حقوقهم لمصلحة الثُلة المُتَحَكِمَة التي لا تَعملُ، بل تَعيشُ برفاهية على عَرَق من يَعمل. مشكلة صديقي هذا انه يدرك هذه المعادلة المُعَقدَة جيدا، والتي أدركها كل من كارل ماركس عام 1867 وتم نشر تفاصيلها في كتاب "رأس المال"، وكتاب "أصل العائلة والملكية الخاصة" الذي كَتَبَ نِصفِه الأول كارل ماركس وأكمَلَهُ إنجلز عام 1884 بعد وفاة ماركس.

باختصار ما جاء في كتاب رأس المال وكتاب أصل العائلة هي التطورات التاريخية منذ المشاعة البدائية ومراحل الرق والإقطاع والبورجوازية، وما صاحب تلك التطورات تغيير على وسائل الإنتاج، وعلاقات الإنتاج ما بين المالك والعامل، وتحفيز العامل للثورة لتغيير المعادلة وإنهاء معادلة الاضطِهاد لخلق المجتمع الخالي من الملكية الخاصة، أي مجتمع المساواة والعدالة الاجتماعية "الاشتراكية". اما على المستوى الإداري ومن خلال علم الإدارة الحديث، وما جاء في علوم الإدارة التَقَدُمية للتخطيط الاستراتيجي، فهناك الكثير منها تتضمن الاستمرار في عملية التغيير من خلال التخطيط الاستراتيجي، فصديقي بصراحة خطط لمشروعه الخاص لأنه لا يريد البقاء في دوامة وروتين الحياة التقليدية لأنه باختصار تقدُمِيا وليس تقليديا، وهذا شيء طبيعي وعادي، اما الغير عادي هو تأثر صديقي بواقع كورونا الذي فُرِضَ عليه وهو ليس من اختياره، اما مُشكِلَتَهُ على ما اعتقد انه خطط جيدا، لكن لم يخطط استراتيجيا، فلو كنت مكانه لقمت بما يلي:

أولا: الإجابة على ثلاث أسئلة رئيسية وهي: 1-ما هي امكانياتي (صحة، مال، مظهر، ثقافة، شهادات، خبرة، شخصية، أحلام، طموح، علاقات، مهارات، قيم وغيرها الكثير) 2-ما الذي اريد تحقيقه؟ (تحديد الهدف الاستراتيجي، وتحديد الأهداف التكتيكية بحيث تتميز بالوضوح والواقعية وسهولة تحقيقها، أي ان تكون SMART،Specific, Measurable, Achievable, Relevant and Time bond) وذلك من اجل تقييم كل خطوة يتم تنفيذها بعملية التقييم المصاحبة للعملية الإدارية. 3-كيف أصل للأهداف؟ وهنا على الانسان ان يحدد الاليات والميكانيزمات لتحقيق الأهداف، وهذه تسمى بالفلسفة اليابانية (طريق المحارب- طريق الساموراي)

ثانيا: على صديقي ان يكون متواضعا وعلميا ومتأنيا وقنوعا في تطلعاته، أي عليه ان يكون مرنا ومستجيبا للتغيرات الذاتية والموضوعية، هذا ما تم حفره في "فلسفة التغيير" للقرن الواحد والعشرين، فعلى الانسان ان يُثَمِن جهده ويُثني على نفسه خلال مراحل التغيير، ووفق الفلسفة الجديدة بعيدا عن الليبرالية هناك أهمية لتحديد ثلاثة حالات وهي: 1- ما الذي أرضى به. 2- ما الذي أحب. 3- ما الذي اعشق. هذا يعني عدم ترك مكاني في العمل او في السكن او في الواقع الاجتماعي قبل تحقيق جزء من الأهداف التكتيكية خاصة متوسطة المدى. ويعني أيضا العمل وفق استراتيجية ال BATNA أي العمل وفقا لتعدد المسارات والبدائل، وعدم محاصرة أنفسنا في استراتيجية ال WATNA أي استراتيجية المسار الواحد، فالذي خطط قبل كورونا، وقام بتجميد خططته للأسف يعمل وفقا لاستراتيجية الخيار الواحد السيء، وليس وفقا لاستراتيجية الخيارات المتعددة.

ثالثا: تحويل الازمة الى فرصة: فالذكي مثل صديقي، عليه تحويل الازمة الى فرصة، وليس كما هو الحال بالنسبة للأخرين الميتافيزيقيين الذين يؤمنون بالقضاء وبالقدر، ويعتبرون أنفسهم جزء من الازمة، وبالتالي يُجَمِدونَ نشاطاتهم ويَندُبون على حظهم، ويصبحون ضحايا الازمة. ان المشكلة في زمن كورونا اصبح الجميع يعمل على المكشوف، فلم يعد هناك اسرارا على استغلال الازمة، فالرئيس الأمريكي يعقد كل يوم مؤتمر صحفي لان هذا العام عام انتخابات في امريكا، و بوتين مَدَ ودعم صربيا وإيطاليا في الوقت الذي تخلى عنهما الاتحاد الأوروبي بهدف خلق شق داخل الاتحاد الأوروبي لرفع الحصار الأمريكي المفروض على روسيا، وهناك كوبا الاشتراكية والصين التي بعثت بمساعداتها ل 141 دولة لإبراز عضلاتها ولإيقاف أي تحالف دولي مع أمريكا التي قد تقوم بشن حرب على الصين الشعبية قبل الانتخابات، وذلك بعد فشل ترامب بمعركته الداخلية ضد كورونا. صديقي عمليا محظوظ لان كورونا اعطته فرصة للتعمق في التفكير بدلا من المباشرة بعمليتي التخطيط والتنفيذ لان بذلك حكمة وفرصة لتغيير او تعديل أجزاء من الأهداف والخطط التي كانت تتلاءم مع زمن ما قبل كورونا، إلا انها قد لا تتناسب معه في زمن ما بعد كورونا. هناك مثل صيني ركز عليه الرئيس الصيني شي جين بينغ في كتابة الجديد "حول الحكم والإدارة" الذي جاء فيه: " الانسان الذكي يُغَيِرَ طريقَهُ مع تَغَيُر الظروف، والحكيم يُعًدِل أسلوبه مع تَقَلُب الأزمنة".

وعلى رأي الإعلامي العراقي الكبير سَلام مُسافر: "على الانسان العاقل ان يَصبِر ويتحدى ولا يَنكَسِر او يَنكَسِف"، وانا بدوري أضيف: "على رفيق دربي ان يتذكر عِشقَ Florentino الفقير لحبيبته Fermina الغنية في رواية "الحب في زمن الكوليرا" للروائي الكولومبي Gabriel Marquez، حيث انتصار Florentino في نهاية الرواية لامتلاكه للحب وللإرادة ولطول النفس. وبما ان الرواية أصبحت فيلما انصح بمشاهدة فيلم: Love in the Time of Cholera.