نكبتنا المستمرة: عن الذاكرة والصدمة - د. رلى حامد – أونيل

2020-05-17

نكبتنا المستمرة: عن الذاكرة والصدمة  

د. رلى حامد -أونيل

ها هو أيار آخر يحيي فيه شعبنا الفلسطيني في أرجاء المعمورة ذكرى نكبة 1948 والتي ما زالت مستمرة حتى يومنا هذا، سواء بصور لاجئين عبثت فيهم مسيرة اللجوء والعوز، أو بمشاهد هدم بيوت، اعتقالات وأسر، قتل متعمد وتعذيب أطفال. إن الذاكرة الجماعية تؤثر بشكل عام على فهم الماضي المشترك لمجموعات مختلفة، كما أنها مرنة ومتغيرة حسب تغير الوقت والزمن. إن مصطلح ومفهوم الذاكرة الجماعية Collective Memory جاء مع المفكر وعالم الاجتماع الفرنسي موريس هالبويتش، إذ أنه قام بفحص وكشف العلاقة بين الذاكرة الفردية والجماعية، بالإضافة إلى ارتفاع أهمية الذاكرة الجماعية مع تاريخ مجتمع ما.

وفي حالتنا الفلسطينية هنالك أهمية كبيرة للذاكرة الفردية والجماعية، حيث أنها وسيلتنا السياسية والوطنية لتوثيق نكبتنا وتاريخنا في وقت استولى فيه المحتل على أرشيفنا ومستنداتنا الرسمية.

الذاكرة هي وسيلة تصدي وتحدي وبقاء في ظل قوانين إرهابية وترهيبية تبغى وتهدف إلى إخراس أصواتنا، قصتنا وقضيتنا. لذلك فإن الذاكرة هي وسيلتنا لحفظ المكان، الوطن، القضية، وهويتنا كي لا "تأكلنا الضباع" حسب الكاتب حارس الذاكرة سلمان ناطور.

على الصعيد الفلسطيني هنالك العديد من الباحثين، الأكاديميين، المفكرين، المبدعين سواء أدباء، شعراء، رسامين، نحاتين وغيرهم مما قاموا بترسيخ وتجسيد صور تجارب اللجوء والتشريد والفقدان، ونقلها لجميع شعبنا الفلسطيني، خاصة الأجيال التي لم تعش النكبة، النكسة، الحكم العسكري، أو مصادرة الأراضي ويوم الأرض. وقد أكّد سلمان ناطور بأنه لا يكتب تاريخًا متسلسلاً إنما هو يكتب عن الذاكرة الجماعية والفردية الحية والمرنة، تلك التي تنتقل من محطة لأخرى بشكل شيق. وقد عبّر عن هذا بشكل رائع في رواية "ذاكرة" (2006) وثلاثية "ستون عامًا – رحلة الصحراء" (2009) صورة عن توثيق محطات مهمة في حياتنا الشخصية حسب أحداث سياسية في المنطقة، خاصة بقوله "أنا من جيل النكبة، أي ولدت بعد حرب 1948، دخلت المدرسة في حرب حزيران، تزوجت في حرب أكتوبر، ولد طفلي الأول في حرب لبنان، ومات أبي في حرب الخليج، حفيدتي سلمى ولدت في الحرب التي ما زالت مشتعلة " (ص5).

ما بين استحضار الذاكرة والصدمة

إن نكبتنا المستمرة هي العنصر الأساسي والمركزي لذاكرتنا منذ عام 1948، وفعل استحضار الذاكرة وسردها، بالإضافة إلى إحياء ذكرى النكبة وغيرها من المناسبات الوطنية، مهم جدًا في حياة شعبنا، خاصة وضعنا كأقلية قومية داخل اسرائيل، حيث تكوّن الذاكرة الفردية ذاكرتنا الجماعية التي تنتقل من جيل لآخر في زمن تغيّرت فيه جغرافيا الأرض بسبب بدعة "تحضّر وبناء" المكان، وتطغوا المستوطنات والكيبوتسات على حقول وهضاب هُجّرت أهاليها، وبيوت طُهّرت من سكانها، أو تحريش المكان وإبدال أشجار الصبار بالصنوبر بهدف تهويد أكبر قدر ممكن من الأرض والمكان.

ليست الذاكرة لوحدها فردية وجماعية، إنما الصدمة كذلك، فتجربة الخوف والفقدان تنتقل عبر روايتها ومشاركتها مع الآخرين. أكد جفري ألكسندر في كتابه "الصدمة الثقافية والهوية الجماعية" (2004) بأن الصدمة تنتقل عبر الأجيال، خاصة عندما يكون هنالك حدث فظيع يترك أثره على وعي وذاكرة مجموعة معينة، ويؤدي إلى تغيير حاضر ومستقبل هذه المجموعة.

أما عالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر فقد أكد بأن الذاكرة الجماعية تتطلب "مجموعة مُلهَمة Carrier Group" إذ تقوم هذه المجموعة بشرح أهمية ورمزية الذاكرة، وإيصالها للمجموعة الواسعة بأكملها وإقناعها بصلاحية ومصداقية ذاكرتهم وادعاءاتهم. وفي حالتنا الفلسطينية فإن "المجموعة الملهمة" هي أولاً جيل النكبة الذي عاش النكبة وجرائم المحتل "على جلده"، بالإضافة إلى مؤسسات، أحزاب، صحافة، كتاب، شعراء، نحاتين، رسامين وغيرهم مما عملوا على نشر الرواية والذاكرة وقضية شعبنا، حيث أن منشوراتهم وأعمالهم لها أثر على الأجيال القادمة خاصة، والجمهور الواسع، لتنتقل أيضًا عبر الدول والحضارات. إننا كأقلية فلسطينية في بلادنا نستذكر ونستعيد النكبة ومجازرها بواسطة الندوات، المسيرات، زيارة القرى المهجرة والمهدمة ومسيرات العودة التي تنظمها لجنة الدفاع عن مهجري الداخل والمؤسسات المختلفة. بقدر أهمية هذه المناسبات في ترسيخ الذاكرة والهوية فإنها أيضًا تسترجع وترسّخ الصدمة وألم الفقدان والتهجير.

صدمة الذاكرة

إن الذاكرة الفردية هي أيضًا جزء من ذاكرة المقاومة والتصدي لرواية وتاريخ يكتبه المنتصر. هي ترجمة لتجربة مليئة بالعذاب، التهجير، الاقتلاع، التصدي والمقاومة رغم مرور السنين والتجارب وبناء عائلة، إلا أن تأثيرات النكبة على الوضع النفسي والعاطفي ما زال عميقًا لدى جيل النكبة، خاصة أولئك الذين كانوا شهود عيان على مجازر، عمليات قتل وإصابة آخرين، خاصة أبناء عائلاتهم أو أقاربهم، ويمكن تلخيصه بأقوال المرحومة فاطمة علي الصالح (أم عايد) "بتذكّر معلول كل مرة بيهجمو فيها على غزة. بتذكر كيف الناس هجّت" (مقابلة شخصية عام 2009). رحلت أم عايد عن عالمنا وبقيت لآخر يوم في حياتها تذكر أيام معلول، الترحيل، النوم في الحقول، استئجار بيوت في مناطق عدة قبل استقرار العائلة، والعديد من مهجري معلول لا زالوا في يافة الناصرة قريبًا من معلول على أمل العودة إليها يومًا ما.

دير ياسين، مجد الكروم، طرعان وغيرها من المجازر، كان لها أثر كبير على العائلات الفلسطينية. وقد أكد المؤرخ التقدمي إيلان بابيه في كتابه "التطهير العرقي لفلسطين" (2006) بأن القوات الصهيونية، وخليفها الجيش الإسرائيلي، قد اقترفوا أكثر من ثلاثين مجزرة في مناطق مختلفة، خاصة خلال تطبيق "خطة د" (الخطة "داليت"). فمهجري البروة وشعب وغيرهم الذين لجئوا إلى أقاربهم في مجد الكروم لم يسلموا طويلاً من فظائع وجرائم التهجير والاقتلاع، إنما هي أشهر قليلة فقط ليواجهوا بها جرائم المجزرة ورؤية جثث دامية موزّعة على البيوت محمّلة على الدواب. لقد قالت سلمى (اسم مستعار) بأن عائلتها قد رحلت من البروة إلى مجد الكروم، جدها التسعيني الذي كان يعاني من مشاكل السمع بقي في القرية على أمل النجاة لأنه "زلمة كبير ومريض". إلا أنه تم قتله برصاص الجنود في حزيران 1948 لأنه لم يسمع أوامرهم. وفي بلد الملجأ مجد الكروم، تم إعدام والدها على عين البلد بدم بارد في 30 تشرين أول 1948 مع عشرين آخرين، من ضمنهم امرأتين. مناظر الدم، الجثث، مسيرة التهجير، استقبالهم وإعطائهم ملجأ في قرى ومدن مختلفة ما زالت راسخة في وعي وذاكرة جيل النكبة، وتنتقل هذه الصور إلى الأجيال المختلفة. فمجرد سؤال الرفيقة سامية حكيم (أم منذر) عن الذي جرى في منطقة جنجار في طريق العائلة للجوء من حيفا إلى الناصرة، وهي ابنة التاسعة في حينه، لتسرد لك صور جرحى ومصابين ومشردين على جانبي الطريق، وعمليات القنص التي جرت في جنجار بواسطة رصاص "الدمدم" الذي يتفجر داخل أجساد الفلسطينيين، والذي استهدف خالها الشاب الذي استشهد في حينه (مقابلة شخصية 2009).

الصدمة أيضًا تأتي على صورة رفض زيارة البلد والبيت، فكم من عائلات مهجري الداخل رفضت زيارة قراها وبيوتها في "يوم الاستقلال" خلال فترة الحكم العسكري وبعده. رغم أن "الزيارة" هي مشروع مقاومة بحد ذاته وهدفه التأكيد على الجذور واستحالة النسيان إلا أنه وجع شخصي لرؤية بيت لم يعد لك، وأرض لم يعد بإمكانك زراعتها أو جني ثمارها. الرفيقة سلوى سروجي (أم عاطف) التي سكنت عائلتها عكا عام النكبة، واستقرت في الناصرة بعدها، أخبرتني بأنها تذهب دومًا إلى عكا لزيارة ابنتها هناك إلا أنها لا تستطيع الذهاب صوب الشارع الذي كانت تسكنه عائلتها قبل النكبة (مقابلة شخصية 2011). هذه القصص، والكثير الكثير غيرها، إنما تأكد بأن شعبنا رغم الصدمة والألم الشخصي والجماعي فقد اختار الصمود والبقاء والتصدي.

خوفهم من ذاكرتنا

سوف أنهي مقالتي هذه بأسئلة مفتوحة ترتكز على ما نعرفه بلغتنا الفلسطينية "قانون النكبة" (2009) والأجندة السياسية لطمس ومحي ذاكرة نكبتنا. لهذا القانون أهمية كبيرة، إذ إنه يحاول إخراج عن القانون وإخراس أي رواية تتناقض مع رواية المحتل، والسؤال هنا ما الذي يخيفهم من ذاكرتنا وطريقتنا لاسترجاع ألم وتشريد أجدادنا وفقدان شعبنا لأرضه؟

(جامعة كورك – إيرلندا)