الاعتراف بالخلاف أولاً - مهند عبد الحميد

2020-05-13

الاعتراف بالخلاف أولاً

مهند عبد الحميد

في العام 1974، بينما كنت منهمكاً في قراءة صحافة الحائط التي تغطي مساحة كبيرة من جدران داخلية لمباني جامعة عين شمس / كلية الآداب في مدينة القاهرة. اكتشفت أن معظم المقالات تنتقد بشدة الانفتاح على أميركا واستعداد نظام السادات للتفاوض مع إسرائيل، وتؤيد الشعب الفلسطيني وثورته. وكنت مندمجاً ومتفقاً مع هذا النوع من الكتابة، وقد لاحظت فيما بعد أن كتاب وكاتبات المقالات الناقدة ينتمون لليسار والناصرية، بينما المقالات الأخرى التي تدافع عن أميركا وعن مساعي وزير الخارجية الأميركي كيسنجر لإبرام تسوية بين مصر وإسرائيل تنتمي لـ«الإخوان المسلمين» ونظام السادات.

في ممر الصحافة لا يقتصر هذا التقليد الذي كرسته الحركة الطلابية المصرية على كتابة المقالات، وإنما كان الحوار المباشر حول القضايا السياسية للأقطاب هو الأكثر حضوراً واحتداماً إلى درجة الصدام والاشتباك بين المتحاورين. الكفة الراجحة في الحوار واستقطاب الطلبة كانت للمعارضين اليساريين والناصريين. والكفة الراجحة في فض الحوار وتمزيق الأوراق واستخدام الضرب كانت للمعسكر الثاني الذي يضم عناصر أمن وبلطجية.

ذات يوم بينما كنت منغمساً في القراءة وقع ناظري على مقالة تقول: الفلسطينيون باعوا أرضهم لإسرائيل وهم يتحملون مسؤولية هذه الخيانة، ولا يوجد أي مبرر ليقوم الجيش المصري بالدفاع عنهم ويقدم تضحيات كبيرة في الحروب من أجل فلسطين. نحن نريد أن نهتم بالشأن المصري. أنهيت المقال وكدت أنفجر سخطاً وغضباً، لكنني ضبطت نفسي وقررت الرد كتابة على ذلك المقال.

عدت إلى البيت وبدأت أبحث عن معلومات، لم تكن المواد التي وجدتها في مكتبة المنزل كافية.

فبدأت الاتصال مع أصدقاء يملكون كتباً ومراجع، أمضيت معظم الليل وأنا أجمع المعلومات وأدونها إلى أن أنجزت الرد الذي كان باكورة كتابتي الصحافية الحائطية التي استمرت عامين.

كانت حقيبتي الجامعية تضم أوراقاً بيضاء وأقلام فلوماستر ذات الخط الرفيع ولاصقاً ورقياً، كنت أعتبر ذلك جزءاً من المقرر الجامعي. ركزت في مقالي الأول على وجود قلة ضئيلة من أثرياء عرب وملاك فلسطينيين باعوا أقل من 5% من مجموع أراضي فلسطين، وإذا حددنا نسبة الملاك الفلسطينيين الذين باعوا فلا تتجاوز النسبة 2%. وتساءلت: لماذا يعمم البيع على كل الفلسطينيين حيث يذهب 98% في جريرة 2%؟

إن فك طلاسم الحملة التي يقودها ويبادر إليها البعض وتستهدف الشعب الفلسطيني وحقوقه وقضيته مهمة ولا يستهان بها في لحظة احتدام الأطماع الإسرائيلية عبر سياسة الضم المزمع اعتمادها في تموز المقبل. قد يقول البعض: إن الذين يهاجمون قلة قليلة من أصحاب أجندات سياسية، هذا صحيح، ولكن هناك دوائر سياسية وأمنية تقف وراء مشروع سياسي غير معلن، وإن المهاجمين يحاولون إطلاق بالونات لمعرفة مدى قبول أو رفض الرأي العام لهذا النوع من التعبئة.
تحتدم خلافات بين سعوديين وفلسطينيين على وسائل التواصل الاجتماعي، يطلق أصحابها اتهامات ويتم تعميمها في مواجهة كل فلسطيني وكل سعودي، وتنتج عنها كراهية وعداء. مع أن علاقة السلطتين والقيادتين على ما يرام. لماذا تندلع هذه الخلافات الآن ولم تكن موجودة من قبل؟

لماذا اندلعت خلافات مصرية فلسطينية من قبل وتوقفت بعد حين؟ بادئ ذي بدء يوجد خلاف سياسي غير معلن، ولأنه غير معلن تظهر مخرجات الخلاف بالمستوى البدائي في إطلاق التهم والرد عليها. الخلاف موجود داخل الشعب الواحد، نحن كشعب فلسطيني عندنا تعدد سياسي وثقافي وديني، ولا شك أن الاعتراف بهذا التعدد وممارسته يجعل كل خلاف محدد المعالم وقابل للتعايش والتنافس المبدئي. إخفاء الخلاف السياسي يؤدي إلى تحويله إلى أشياء أخرى كالكراهية. مع أنه لا يوجد شعب يكره شعباً، ولا يوجد عرق أو جنس غبي وآخر ذكي إلا من منطلق عنصري.
دعونا نعترف أولاً بوجود خلاف سياسي وعنوانه التقارب مع إسرائيل. بعيداً عن الشتائم وتعميم الهجوم الذي يحول كل خلاف إلى حالة من العداء، وإلى هبوط بمستوى الحوار، هنا يتبادر للذهن سؤال: هل يحق للقيادة الفلسطينية التقارب مع إسرائيل وإبرام اتفاق معها «اتفاق أوسلو»، ولا يحق للمملكة السعودية التقارب مع إسرائيل وإبرام تفاهمات معها. لا تستطيع السلطة قول ذلك وهي لا تقوله فعلاً. وتلك هي لعنة أوسلو التي فتحت جسور التطبيع مع إسرائيل. المفارقة أنه في الوقت الذي اكتشف جزء أساسي من القيادة سبق لهم وأن عولوا على إنهاء الاحتلال عبر التقارب والاتفاقات المرحلية مع إسرائيل اكتشفوا متأخرين أن ذلك محض رغبة وسراب، وأن إسرائيل مارست العكس ومضت في تعميق الاحتلال وشطب الحقوق الوطنية الفلسطينية.

الفلسطينيون الذين قالوا للقيادة الفلسطينية لا لاتفاقها مع إسرائيل وعارضوها يقولون لكل بلد عربي وغير عربي: لا للتفاهمات مع إسرائيل وهذا منسجم كموقف معارض فلسطيني. ما يعزز هذا القول أن السعوديين الذين يرفضون الاعتراف بإسرائيل لأنه بلد استعماري ويحتل أراضي فلسطينية وعربية ويمارس العنصرية ويهدد كل تحرر في البلدان العربية. هؤلاء السعوديون لا مشكلة لهم مع الشعب الفلسطيني الذي يناضل من أجل التحرر من الاحتلال الإسرائيلي. وعندما اكتشف الشعب المصري حقيقة العلاقة مع إسرائيل التي لم تتجاوز عقلية المستعمر، بعد ذلك عادت العلاقات بين الشعبين المصري والفلسطيني إلى طبيعيتها.

ما أود قوله: إن كل الشعوب العربية لها مصلحة في التحرر من الاحتلال الإسرائيلي ومن علاقات التبعية الاقتصادية والسياسية والأمنية. هدفان من الصعب فصلهما عن بعضهما البعض.

الاحتلال يحرس علاقات التبعية ويديمها، وعلاقات التبعية تدافع عن الاحتلال. وهنا لا بديل عن الحوار الذي يعزز النضال المشترك. نحن الآن على أبواب ترسيم الضم الإسرائيلي للضفة الغربية، بعد أن جرى ترسيم ضم القدس والجولان. إن الانخراط في الاحتجاج على هذا الضم يشكل رافعة مشتركة بين الشعوب العربية لمواصلة النضال المشترك ضد الاحتلال وعلاقات التبعية والنهب. الاتحاد في النضال هو البوتقة التي توحد الشعوب على مصالح لا لبس فيها.