الثورات العربية في ظل تسييس الدين ورأس المال - راضي شحادة

2019-09-15

الثورات العربية في ظل تسييس الدين ورأس المال

* راضي شحادة

 يقدم راضي شحادة في كتابه "الثورات العربية في ظل الدين ورأس المال" (الصادر عن شركة المطبوعات للتوزيع والنشر) مقاربة للثورات العربية في علاقتها بالمنظومة الرأسمالية العالمية المتمثلة بامبراطورية رأس المال والاحتكارات العائلية والأُسر الحاكمة "المتغوّلة والمتوغلة" في أرجاء الكرة الأرضية، ومنها عالمنا العربي، متسائلا عن مدى قدرة هذه الثورات على التخلُّص من قيود هذه المنظومة، بما يسمح للشعوب العربية بتحقيق الأهداف التي ثارت من أجلها.

يمتزج تساؤل الكاتب بالتشاؤم من إمكان الفكاك من قيود رأس المال العالمي الذي لن يسمح إلّا بتغييرات جزئية لكونه يخشى من امتداد الثورات وتجذُّرها وبناء سلطات قد تؤثر سلبًا في موقع الشركات العابرة للقارات التي تتولى الهيمنة الاستعمارية في جانبها الاقتصادي ونهب ثروات المنطقة العربية.

يشير الكاتب الى أنّ انفجار هذه الثورات ناجم عن فشل الأنظمة التي قامت بعد التحرر من الاستعمار، والوعود غير المتحققة بالديمقراطية، التي قدمت للنهوض بمستوى حياة الشعوب العربية، من خلال عمليات التأميم، وتحرير الارض المغتصبة في فلسطين والأراضي العربية المحتلة. العكس هو الذي حصل، إذ هيمن على الشعوب العربية، استبداد مطلق وإفقار مروّع وارتماء في أحضان الرأسمالية العالمية، بحيث سرعان ما أصابنا الإحباط عندما لم تهب الشعوب ولم تنتصر، ولم ينجح التأميم، بل اندحر أمام الانفتاح والخصخصة، لا بل إنّ الاتحاد السوفييتي انهار في حرب باردة جدا، فانضمت روسيا الى المنظومة الرأسمالية كشكل نظام منظم ودقيق القوانين، معتمد على الخصخصة والتنافس الاحتكاري وعلى ان الحياة للقوي بناء على فلسفة الغاب.

اندلعت الثورات العربية من دون ان تكون حاملة لبرنامج بديل للنظام القائم، كما لم تكن تملك منظومة فكرية بديلة للثقافة السائدة. تركزت الشعارات حول الخلاص من الذُّل والإذلال، ومن الحكم الاستبدادي، وضد الفساد، والمطالبة بالعدالة الاجتماعية والحرية في التعبير عن الرأي وفي التنظيم السياسي. وعندما نجحت بعض هذه الثورات، لم يرفع القائمون بها شعارات كبيرة مثل "فكر اشتراكي بدلا من الفكر الرأسمالي"، او "حكم الشعب حكما مطلقا"، او "فصل الدين عن الدولة"، او "لا للأحزاب الدينية في الحكم"، او "الدين لله والوطن للجميع"، او "التحرر من الهيمنة الخارجية"، بل بقيت المطالب في حدود مطلب العيش بكرامة ومساواة.

عندما تحصل الثورة وتتخذ مسارها في طرح الاهداف وتنفيذها، فلن تكون بمعزل عن السعي الى التدخلات الخارجية. ليس هناك بلد مستقل استقلالا كاملا في المنظومة العالمية السائدة، بل هناك تداخل في السياسة والاقتصاد والاعلام، لذا من الطبيعي ان تكون الولايات المتحدة الاميركية من اكثر البلدان اهتماما بطبيعة هذه الثورات والمآلات السائرة فيها، وطبيعة السلطة التي ستنشأ. ينجم هذا الاهتمام عن كون الولايات المتحدة صاحبة النفوذ الاكبر في المنطقة العربية، وصاحبة المصالح الاستراتيجية في الهيمنة على الثروات النفطية، او في ضمان الاستقرار الامني حتى لا تتهدد هذه المصالح، وأخيرا في الموقع الذي تحتله اسرائيل في هذه الاستراتيجيا. لذا لم يكن غريبًا أن تتدخل الولايات المتحدة في توجيه مسار هذه الثورات نحو طريق لا يهدِّد مصالحها الاقتصادية والعسكرية على السواء.

اذا كانت الثورات العربية، في نظر الكاتب، لا تطالب ببناء أنظمة شيوعية او اشتراكية بديلا من النظام الرأسمالي، الا انها ميدان صراع بين قوى متعددة وخصوصا منها القوى الساعية لجعلها هدفًا للهيمنة السلفية والأُصولية، وهو صراع يكاد يشمل جميع الثورات التي اندلعت. في المقابل يتدخل الرأسمال الغربي المتطور ساعيا الى ان تكون الانظمة المفترضة نسخة عن المستوى المؤسساتي للعالم الرأسمالي الذي وصل اليه الغرب، "وليس الى المستوى المتدني من الرأسمال غير الممأسس كما هي الحال لدى الحكام العرب ودول العالم الثالث".

اذا كان الخوف لدى الكاتب من هيمنة الرأسمالية العالمية على الثورات العربية يشكِّل هاجسًا، الا انه يطلق خوفًا من هيمنة الأصوليات الدينية على الثورات، فيصرخ قائلا "الأخطر في نتائج الثورات العربية ان تتحول الى ثورات تشرّع الدين دستورًا لها، بدلا من الوصول الى صيغة دستورية تعبّر عن مستوى حكمٍ ديمقراطيٍ راقٍ، اهم ما فيه فصل الدين عن الدولة، وإعطاء الناس حرية العقيدة، ومنعهم من الوصول الى الحكم من طريق الأحزاب الدينية، والسَّعي الى تحقيق العدالة الاجتماعية بأرقى اشكالها، وتحقيق حق المواطنة الذي يساوي بين المواطنين، مهما كانت أجناسهم وأعراقهم ودياناتهم وعقائدهم".

قد لا يعكس تعبير "الثورات العربية" حقيقة المجريات العربية، بحيث يبدو تعبير الانتفاضات هو الأقرب الى ما حصل حتى اليوم. بصرف النظر عن اللفظية في الوصف، فإنّ التحولات العربية الجارية تمر في مخاض عسير وصعب، بحيث تسعى القوى والتيارات الإسلامية الى الهيمنة على السلطة، وتنفيذ برنامج سياسي يعيد الاستبداد بأشكال أسوأ مما عرفته هذه المجتمعات في عهد الأنظمة القائمة. في المقابل تواجه الانتفاضات او الثورات أخطار التحالف الذي سيقوم بين دول المنظومة الرأسمالية والتيارات الإسلامية، بما يسمح بتبادل المصالح والهيمنة. إنّ تحدّيات كبيرة تواجه المجتمعات العربية المنتفضة، او السائرة على طريق الانتفاضات، وهي تحديات تتصل ببناء القوى الديمقراطية القادرة على تعديل موازين القوى بما يسمح لاحقًا بإيجاد حكم يحقق العدالة الاجتماعية والديمقراطية بعيدًا من التمييز الديني والعرقي.

 (لبنان)