قتل النساء وخلفية الشرف في الحالة الفلسطينية إعداد: د. عصام عابدين

2019-09-14

قتل النساء وخلفية الشرف في الحالة الفلسطينية

د. عصام عابدين

فهم المشكلة، بداية الطريق نحو حلها، ومفرداتها أساسٌ في الفهم، وخاصة عندما تلعب المصطلحات دوراً بارزاً في مسألة الأدوار النمطية، وعِلم الإجرام، وتحليل سلوك الجاني، والبيئة المحيطة، والإقدام على الجريمة، دون أيّ اكتراث بالردع المتمثل بتغليظ العقوبات وشدتها، لأن العقوبة قد لا تعني شيئاً أمام وقع الكلمات في ذهن الجاني وقدرتها الفائقة على عزل أية هواجس تتعلق بالعقوبة وشدتها من الذهن؛ في مقابل التصميم الحاسم على ارتكاب الجريمة دون تردد.

خلفية الشرف، لا أساس لها، في قانون العقوبات رقم (16) لسنة 1960 النافذ في الضفة الغربية (476 مادة) ولا أساس لها أيضاً في قانون العقوبات رقم (74) لسنة 1936 النافذ في قطاع غزة (391 مادة) والأخير لا يعترف أساساً بالأعذار القانونية المُحلة والأعذار القانونية المخففة في جرائم القتل ولا يحتاج أساساً لأيّ تعديل تشريعي في جرائم "قتل النساء".

مصطلح "الشرف"، استخدم لأول مرة، على المستوى التشريعي، في جرائم قتل النساء، خلال التعديل التشريعي الذي جرى على قانون العقوبات في العام 2011 على خلفية مقتل الفتاة الطالبة آية برادعية. وهذا ما جاء به القرار بقانون رقم (7) لسنة 2011 الذي استهدف إلغاء المادة (340) من قانون العقوبات لسنة 1960 النافذ في الضفة الغربية المتعلقة بالأعذار القانونية في القتل وتعديل المادة (18) من قانون العقوبات لسنة 1936 النافذ في قطاع غزة المتعلقة بالأعذار  القانونية في حالات "الضرورة" من خلال إضافة عبارة "ولا يشمل ذلك جرائم قتل النساء على خلفية شرف العائلة" على النص الأخير المذكور. النص القانوني، الذي جرى تعديله، لا علاقة له بجرائم قتل النساء؛ كما أن قانون العقوبات النافذ في قطاع غزة لا يتضمن أساساً أعذاراً قانونية في القتل فيما يتعلق بجرائم قتل النساء على الإطلاق.

مصطلح "الشرف"، استخدم أيضاً، على المستوى التشريعي، في جرائم قتل النساء، في العام 2014 من خلال القرار بقانون رقم (10) لسنة 2014 بشأن تعديل قانون العقوبات رقم (16) لسنة 1960 النافذ في الضفة الغربية بتعديل المادة (98) من القانون المتعلقة باستفادة فاعل الجريمة من العذر المخفف "يستفيد من العذر المخفف فاعل الجريمة الذي أقدم عليها بسورة غضب شديد ناتج عن عمل غير محق وعلى جانب من الخطورة أتاه المجني عليه" بحيث جرى إضافة عبارة "ولا يستفيد فاعل الجريمة من هذا العذر المخفف إذا وقع على أنثى بدواعي الشرف" على النص المذكور.

خطورة، هذا التعديل، كسابقه، أنه يُقر عملية "التنميط" على المستوى التشريعي دون إدراك تبعات تلك المعالجة التشريعية الخطرة، وارتباط تلك المصطلحات، التي لا أساس لها في القانون، بسلوك الجاني، والبيئة المحيطة، والظاهرة الإجرامية، والتصميم على الجريمة، وأسبابه، إنها معالجات تشريعية لم تدرك أصول السياسة الجنائية وعلم الجريمة.

ولتقريب الصورة، بمثال، فإن التعديل التشريعي الذي جرى على المادة (98) المذكورة من قانون العقوبات لا ينم عن إدراك أو إحاطة واضحة في مجال علم الإجرام وعلم العقاب، قبل اتخاذ القرار بالتدخل التشريعي، ما أدى للانزلاق نحو التنميط، وأنتج العديد من الخطايا التي يدركها أهل الصناعة التشريعية. ومن بين أمور أخرى، لم يتم ملاحظة سياق النص وكلماته قبل المعالجة؛ وبذلك نجد أن عبارة "عمل غير محق وعلى جانب من الخطورة أتاه المجني عليه" قد ارتبطت بالأنثى بدواعي الشرف. وبالنتيجة، أصبحت قراءة النص القانوني، على النحو التالي: يستفيد القاتل مثلاً من العذر القانوني المخفف إذا أقدم على القتل نتيجة سورة غضب شديد ناتج عن عمل غير محق وعلى جانب من الخطورة أتاه المجنى عليه - قبل التعديل- ولكن القاتل لا يستفيد من العذر القانوني- بعد التعديل- إذا كان هذا الفعل غير المحق والخطير الذي قامت به الأنثى (الضحية) بحسب التعديل فوقع عليها (الأنثى) القتل بدواعي الشرف. مع الإشارة إلى أن مصطلح "سورة" الذي استخدمه النص القديم من السوار حول المعصم للدلالة على دائرة قوية من الغضب الشديد

لا يبدو أن تلك التدخلال التشريعية قادرة على قراءة مفهوم ومضمون وأبعاد السياسة الجنائية والعلوم الجنائية وبخاصة علم الإجرام وعلم العقاب، القائم على دراسة عميقة للسلوك الإجرامي والبيئة المحيطة ومن ثم اتخاذ القرار بالتدخل التشريعي وماهيته وكيفية صناعته ومدى مساهمته في مواجهة الظاهرة الإجرامية. والغريب في الأمر، أنه وعلى الرغم من أن النصوص العقابية، بصيغتها الحالية، رادعة، في مواجهة جرائم قتل النساء، إلاّ أن الأصوات المطالبة بالمزيد من التعديلات التشريعية (قرارات بقانون) تعلو مع كل ضحية جديدة في جرائم قتل النساء، يبدو أننا أمام حالة من ردات الفعل تعكس مدى الضياع والارتجال في المعالجات بعيداً عن منطق السياسة الجنائية وعلم الجريمة والعقاب.

ترديد مصطلح "الشرف" خطير  في جرائم "قتل النساء" ويلعب دوراً كبيراً في سلوك الجاني والبيئة المحيطة في دراسة علم الجريمة، والتصميم الحاسم على ارتكابها أياً كانت شدة العقوبة. هذا التصنيف، لا أساس له في القانون الجنائي، وما الفرق إن كان "قتل النساء" قد جرى على خلفية شرف مسيطر في ذهن الجاني والبيئة المحيطة أو على خلفية شجار أو أياً كانت دوافع القتل؟ طالما أن النتيجة الجُرمية (القتل) وقعت في جميع الأحوال؟ ولماذا لا يُقال جرائم قتل النساء على خلفية السرقة مثلاً؟ ولماذا الإصرار على استخدام مصطلح "الشرف" تحديداً؟ وكيف يمكن بناء مؤشرات ودراسات علمية أساساً مع وجود خلل مفاهيمي منهجي؟ وفي ظل ثقافة "التنميط" السائدة التي يغذيها "الشرف"وحالة الإنكار؟

خلفية الشرف، في القتل، لا أساس لها، أيضاً، في الشريعة الإسلامية، وفي ذلك يقول الأستاذ عبد القادر عودة في مؤلَّفه التشريع الجنائي الإسلامي مُقارناً بالقانون الوضعي في المجلد الأول على الصفحة (411) إن الشريعة الإسلامية " لم تجعل للباعث على ارتكاب الجريمة أي تأثير على تكوين الجريمة، أو على العقوبة المقررة لها، ويستوي لدى الشريعة الإسلامية أن يكون الباعث على الجريمة شريفاً أو وضيعاً، فالباعث على الجريمة، ليس له علاقة بتعمد الجاني ارتكاب الجريمة، ولا يؤثر على تكوينها ولا على عقوبتها بشيء". وفي ذلك، يقول الأب رفيق خوري في تقرير صادر عن مؤسسة قيادات بالتعاون مع نقابة المحامين على الصفحة (97) إن جرائم قتل النساء "عادة اجتماعية لا يعترف بها الدين ولا يقرها، فالقتل هو دائماً القتل، مهما كانت الظروف والمسببات". إن هذا التصنيف، الزائف، والخطير، القائم على الشرف، لا أساس له، لا في الديانة المسيحية، ولا في الشريعة الإسلامية، ولا يؤثر في التجريم والعقاب، والقتل هو دائماً القتل.

ولمّا كان الحال كذلك، في القانون والشرائع السماوية، التي تنادي بحفظ النفس والكرامة الإنسانية، فإن الواجب يُملي أن يكرس الجميع وقتاً وجهداً للتوعية والتثقيف من أجل التوقف نهائياً عن ترديد مصطلح "الشرف" الذي يعمل على زرع بذور السلوك الإجرامي في ذهن الجاني والبيئة الحاضنة ويصب باتجاه التصميم على ارتكاب جرائم قتل النساء، وأن تلعب المقامات الدينية والروحية دوراً فاعلاً في التوعية والتثقيف وصولاً إلى القضاء على حالة التنميط وتلك الآفة.

هذا المصطلح، أي الشرف، يُغذي السلوك الإجرامي، أياً كانت شدة العقوبة. لأنه قادر على عزل أي شيء من ذهن الجاني لحظة بدء النشاط الإجرامي باستثناء التصميم على ارتكاب الجريمة. وخطورة، ترديد هذا المصطلح، في جرائم "قتل النساء" أنه يختلط في ذهن الجاني مع معاني البطولة والفروسية والأوطان (شرف الوطن) واستخدامه للدلالة على أن القاتل عديم "الشرف" يُبقي المصطلح، حاضراً، ومشتعلاً، في ذهن الجاني، وبالتالي، فإن الاستخدام المعاكس لمصلح "الشرف" في مواجهة جرائم قتل النساء، أياً كان القالب الذي يُستخدم فيه، من شأنه أن يُغذي حالة التنميط بشكل أو بآخر، وأن يُبقي صدى صوت "الشرف" يتردد في ذهن الجاني، وبخاصة لحظة ارتكاب الجريمة، وهذا منطق علم الإجرام.

هذا يقودنا، إلى منهج التربية على ثقافة حقوق الإنسان، في عالم مُتغير، يقودنا حتماً إلى المناهج الدراسية وأساليب التدريس من رياض الأطفال وحتى الجامعة، هناك حاجة ماسة لمراجعة جادة للمناهج وتغذيتها وإشباعها بثقافة وقيم حقوق الإنسان، التي لا تتجزأ، وبخاصة مفاهيم المساواة وعدم التمييز واحترام الآخر، باعتبارها مبادىء ومعايير حاسمة في الحكم على المناهج الدراسية التي يدرسها طالبات وطلاب المدارس والجامعات الفلسطينية، وبما لا يقل أهمية، مراجعة جادة لأساليب التدريس لتحقيق الفائدة القصوى ومراكمتها في الوعي الجمعي، إنها عملية تحتاج إلى إرادة صلبة وحاسمة وخطة وبرنامج عمل وأدوار ومسؤوليات واضحة ومشاركة فاعلة من قبل المستوى الرسمي والأهلي، إنه تحد كبير للجميع؛ وبخاصة المدافعين/ات الشباب عن حقوق الإنسان، في مجتمع فلسطيني فتي، للمساهمة الفاعلة في التربية على ثقافة حقوق الإنسان وإطلاق حملات مناصرة فعالة وخلاقة تستهدف المناهج الدراسية وأساليب التدريس

يعلم الجميع، وبخاصة المدافعين/ات الشباب عن حقوق الإنسان، أن بيئة العمل الحقوقي في فلسطين صعبة، ولا سيما في ظل التصدع في النظام السياسي، وغياب السلطات العامة وبخاصة البرلمان ورقابته على السلطة التنفيذية، والتدهور الحاصل في القضاء ومنظومة العدالة، والتفرد غير المسبوق بالسلطة والقرار، وغياب الشفافية والمحاسبة الجادة والإنصاف لضحايا انتهاكات حقوق الإنسان، للنساء والفتيات اللواتي قتلن ظلماً وغدراً دون محاسبة وإنصاف، ومدى الظلم والإجحاف الذي وقع على المعلمات والمعلمين الفلسطينيين وما زال، ومدى الظلم الذي وقع على قضاة نذروا حياتهم دفاعاً عن الحق والعدل وسيادة القانون، والظلم التاريخي الذي يعاني منه الأشخاص ذوي الإعاقة وبخاصة النساء، والقائمة طويلة، ولا حاجة للتشخيص لأجل التشخيص، لأنه يقود لليأس، وهناك حاجة دوماً للتشخيص الواعي للوصول إلى فهم دقيق للمشكلة، وبناء الرؤية، وتحديد خطوات التحرك القادمة، في مهمة تستحق، وليست مستحيلة.