"عندما نغلف مآسينا بفرح مزيف ... حسرتي على أمهات فلسطين" حنان مرجية

2019-01-06

"عندما نغلف مآسينا بفرح مزيف ... حسرتي على أمهات فلسطين"

حنان مرجية

مساحة لحزنها

كم ظلمنا ام الشهيد حين طلبنا منها أن تتحول من أم عاديه ثكلى الى رمز للصمود، وكم ظـُلمنا نحن من احتلال جاثم على صدورنا منذ سبعين عاما، اضطرنا أن نتناسى أحزاننا ومخاوفنا، وأن ندفنها كلها في مقبرة المشاعر، حتى نستطيع أن نتحمل مآسينا اليومية، لنعيش على أمل أن نحظى يوما بالحرية... فلنترك أم الشهيد مع أحزانها ولنسمح لها ألا تكون هذه المرة رمزا للصمود، لنعطيها المساحة لكي تكون أما حزينة على فراق أولادها من دون أن نطالبها بتغليف أحزانها بفرح مزيف لا يشبه الم قلبها وعظمة أحزانها.

كنا هناك، نسير معا في مظاهرة يوم الأرض الخالد، نهتف بكل تلك الهتافات الحماسية الثورية المتداولة من جيل الى جيل - "يما مواسير المي تحت الأرض مدوها، يما شباب فلسطين على السجن ودوها"، ثم نسترسل فنهتف "يا أم الشهيد وزغردي كل الأولاد اولادكي... يا أم الشهيد وأفرحي الموت ولا المذلة".

 أذكر تماما تلك اللحظات في اول مظاهرة شاركت فيها، عندما كنت أدعو أم الشهيد أن "تزغرد" فابنها مات شهيدا موت الابطال، أتخيلها في مخيلتي إبنة العشرين عاما، امرأة جبارة شامخة، تجلس بين الجموع ملتحفة بالسواد، عيناها تدوران بين النسوة بعناد وقوة فيتساءل الحاضرون عن مصدر قوتها ويتمتم بعضهم أنها أنزلت عليها من عند الله، في عينيها نظرة تصميم على أن لا يبكي أحد في جنازة أبنها الشهيد، الدموع مختبئة في طرف جفنها السفلي تنتظر الإشارة لتبدأ بالهطول بغزارة على خدها الذي خطت عليه هموم العمر وصعوبات الحياة في المخيم خطوطا بالطول جعلتها تبدو أكبر بعشرة أعوام من عمرها الحقيقي، تلف شعرها بشال اسود ربط بقوة حول صباحها، وربطت فوقه زنارا صغيرا بألوان العلم الفلسطيني، الاحمر والاخضر والأبيض والأسود.

فجأة، تعلو الهتافات والزغاريد، يدخلون عليها بابنها مكفنا بالأبيض، مغطى بعلم فلسطين، محمولا على اكتاف أصحابه وأهله ورفاق النضال، تتأهب الدموع في عينيها لتهبط بقوة هبوطا حرا بحسب قانون الفقدان وليس قانون نيوتن، فالمنطق فقد في حضرة الاحتلال، ولكن اشارة البدء بالهبوط الحر لم تصل الى الدموع  بعد.

 يتعالى صوت النساء بالزغاريد واياديهن تلوح في السماء، تهبط الأصابع فوق شفاههم ليعلو صوت الزغرودة، وتنحني الأم لتضع قبلة على جبين ابنها، تمسح على شعره برفق، وتغطيه بعلم فلسطين، وربما تسمح لدمعة أو دمعتين بالتسلل من مخبأهما لتنسدلا على خدها ويهبطن كريشة حمام ناعمة بيضاء على جسد ولدها الممتلئ  بالدماء والجروح، ولكن لا أكثر

تنشد الجموع الأغاني الوطنية، النسوة يزغردن مرات ومرات ويودعن الشهيد بالثناء على تربيته وبطولاته وحبه للوطن، ثم يأتي الرجال يترأسهم أب الشهيد (هذا في أفضل الحالات ان لم يكن معتقلا في السجون الإسرائيلية أو انه بحد ذاته شهيدا لفلسطين)، يحملون النعش على أكتافهم، ويأخذون الشهيد الى مثواه الأخير ليواريه التراب، حيث انه هو الوحيد القادر على أن يحمي الفلسطينيين من بطش الاحتلال في أغلب الحالات، هذا أن لم تطل أيادي المستوطنين او جرافات الاحتلال حرمة المقابر وتنكل بجثث الشهداء أمواتا كما نكلت بهم أحياء.

 وبعد أن يؤخذ الشهيد الى قبره، لطالما تخيلت الأم تجلس بين جموع النساء وحيدة، صامتة، غاضبة، لا أحد يشعر بالنار التي تحرق قلبها، ولكنها تحافظ - كأي أم شهيد - على مظهرها الصامد أمام الجموع، فهي لا تستطيع أن تخدش صورة نساء فلسطين المعروفات بأنهن يربين المقاومين على حب فلسطين وثم يقدمنهن أضحية على مذبح الاحتلال فداء للوطن. ربما تقول أم الشهيد كلمة هنا أو هناك عن حب أبنها لأرضه، أو وداعه لها قبل الاستشهاد وتقبيله ليدها قبل أن يلتحق بمصيره، ربما تقول كلنا فدا فلسطين ويلعن أبو الاحتلال، ولكن بعد هذا تختفي صورة أم الشهيد من رأسي، تتوقف الصور عند هذه اللحظة، لحظة الصمود والمكابرة ولا تستطيع مخيلتي الغضة التي لا تعرف ما هي الأمومة بعد،  أن تواصل المسيرة مع أم الشهيد، أدفنوا أمواتكم وأنهضوا– هذا ما الهمتني الشعارات به، والآن تستمر الحياة.

عام يتلوه عاما أخر، مظاهرة يتلوها مظاهرة أخرى، تتكرر المشاهد وتتبدل صور الشهداء، وتتبدل صور أم الشهيد، ويبقى الاحتلال بصورته الوحيدة المقززة المثيرة للغثيان وللسخط. ثم أتى ذلك اليوم الذي فيه أصبحت فيه أنا أما وأصبحت أكثر انتقائية في المظاهرات التي سأشارك بها، وعمليه الانتقاء هذه مبنية بالأساس على عامل الخوف وسؤال واحد يقرر مصير المشاركة: هل سيكون هناك اعتقالات في هذه المظاهرة أم لا؟ فانا أم أربي ولدين بمفردي والمسؤولية تحتم علي ألا أغيب عنهم حتى ولو كان الثمن أنني لن البي نداء الوطن. أصبحت أما، والأمومة هي قاسم مشترك بيني وبين كل أمهات العالم، وخاصة أمهات الشهداء.

أستعيد في مخيلتي كل خطواتي على ارض الاسفلت وانا احمل علم فلسطين في المظاهرات، أطالب أم الشهيد أن تفرح لشهادة أبنها، ما أغباني كنت حينها. كم نكون أغبياء حين نقوم بتهليل المعذبين ووضعهم في قوالب ونطالبهم بالتصرف بحسب توقعاتنا. نريد من أم الشهيد أن تصمد وتتجاهل وجعها وألمها، كي لا يصيب الإحباط أمهات فلسطين، فنمنعها من البكاء على فراق أبنها، ونبني لها في مخيلتنا صورة نجردها بها من كل المشاعر الأمومة التي على الاغلب أنها تمزق أحشاءها لفراق ولدها الذي ربته "كل شبر بنذر"، ما أغبانا عندما نطالب الأمهات بتقديم القربان الأعظم فداء الوطن متجاهلين مشاعرهم والمهم وكونهن بشر لا أكثر.

أصبحت أما، واختفت صورة أم الشهيد التي ترفع يدها ملوحة في الهواء وتنزلها واضعة أصبعها فوق شفتها العلوية لتطلق الزغرودة، تبدلت تلك الصورة بصورة أخرى لأم ثكلى حملت أبنها تسعه أشهر، وعانت المخاض لتخرج روحه من روحها، تقول أمي أن المرأة في الولادة "بتكون جورتها مفتوحة"، أي انها  تكون على حافة الموت وممكن أن تقع في حفرته في كل لحظة، ولكنها تخاطر بحياتها لكي تلد أطفالا فلسطينيين صامدين باقين في أرضهم، وثم ترعاهم وتلقمهم ثدييها ليكبروا ويترعرعوا، تحميهم من البرد في ليالي الشتاء القاسي، تضمهم تحت أجنحتها حتى لا يصيبهم السوء، يبدؤون بالمشي فيخفق قلبها بقوة مع كل خطوة من خطواتهم الأولى.

هي  تعرف أنهم سيغادرون عشها قريبا، تربيهم على حب الأرض والوطن، يلعبون بين أشجار الزيتون في موسم قطافه وهي تعرف أنه ربما سيأتي يوما سيضطرون فيه أن يحاربوا الاحتلال حتى يبقى الزيتون ملكهم، تراهم يذهبون الى المدرسة ويعبرون الحاجز يوميا، وهي تعرف أنه ربما سيأتي يوما يلعب الجنود فيه لعبتهم القذرة، ويصوبون بنادقهم نحوهم بحجه تهديد أمنهم، سيكبرون ليصبحوا رجالا ونساء ربما تدب فيهم روح الشباب والتمرد، فترمي ابنتها حجرا على جندي في مظاهرة عند الحاجز ويطلق الجندي عليها الرصاص الحي، او يتشاجر ابنها مع جندي آخر على الحاجز عند عبوره للأراضي المحتلة ليعمل "عند اليهود" فيمنعه الجندي من حقه في اعالة أطفاله ويصوب بندقيته مباشرة الى قلبه، تودعهم كل يوم عند الخروج وتقول لهم "دير/ي بالك عحالك يما"، مع حسرة في القلب وخوف من وحش الاحتلال الجاثم على الصدور.

يخرج أولاد أم الشهيد من بيتها وشبح الموت يهيم فوق رؤوسهم يوميا، حتى اذا ما وصلها خبر ذات يوم أن ابنها أو ابنتها قد استشهدوا، فتجتمع الجماهير في بيتها يودعون الشهيد الوداع الذي يليق به، وثم تترك وحدها مع هواجسها وأفكارها، مع الشوق الذي لا يستطيع أن يشفيه حتى حب الوطن، مع الحنين الى حضن أولادها الدافئ والقبلة المطبوعة على اليد، وتكبر ام الشهيد فلا تجد من تستند عليه، من يسألها عن موعد شرب الدواء، من يأخذها الى الطبيب، من يصارع الاحتلال لاستصدار تصريح طبي للعلاج في المستشفيات الإسرائيلية

 لن تجد أم الشهيد من يذهب الى رام الله ليبيع لها ضمم الزعتر والميرامية التي اعتادت بيعها على الحاجز وفي السوق، لتعينها بضعة نقود على العيش بكرامة بعد أن نسيها الجميع، لن تجد من يحضر لها "الصوبّا" لتستدفئ في ليالي الشتاء القارص، ولا من يطل عليها كل يوم صباحا قبل ذهابه الى العمل ليطمئن عليها فتحاول النهوض من كرسيها بعد أن تكون انتهت من تحضير وجبة الخبيزة الساعة السابعة صباحا لتقول له "الله يرضى عليك يما"، والاهم من كل هذا أنها لن تجد من يبكي على قبرها حنينا وشوقا لامرأة تشبهه لم تعد رائحة ابتسامتها تملأ المكان.

كم ظلمنا ام الشهيد حين طلبنا منها أن تتحول من أم عاديه ثكلى الى رمز للصمود، وكم ظلمنا نحن من احتلال جاثم على صدورنا منذ سبعين عاما، اضطرنا أن نتناسى أحزاننا ومخاوفنا، وأن ندفنها كلها في مقبرة المشاعر، حتى نستطيع أن نتحمل مآسينا اليومية، لنعيش على أمل أن نحظى يوما بالحرية.

قالت لي صديقتي يوما: "ان الوضع الطبيعي هو أن يدفن الاولاد آباءهم، ولكن من غير الطبيعي أن يدفن الآباء أولادهم"... فلنترك أم الشهيد مع أحزانها ولنسمح لها ألا تكون هذه المرة رمزا للصمود، لنعطيها المساحة لكي تكون أما حزينة على فراق أولادها من دون أن نطالبها بتغليف أحزانها بفرح مزيف لا يشبه الم قلبها وعظمة أحزانها.