الفصل قبل الأخير من مسرحية الصراع على فلسطين - سعيد مضية

2018-07-12

الفصل قبل الأخير من مسرحية الصراع على فلسطين 

سعيد مضية

ونقول مسرحية لأن إسرائيل ظلت الفاعل الوحيد، بينما المقاومة الفلسطينية قدمت تضحيات جمة لكنها لم تنجز غير تعطيل مؤقت. وحاليا نجد القيادة الفلسطينية تستنكر وتستصدر القرارات الدولية بينما إسرائيل تمضي بتسارع في تنفيذ مشروعها. وهذا لا يقلل من قيمة رفض المشروعات لإسرائيلية.

لا يظن عاقل أن ترامب بحاجة للموافقة على صفقته البائسة ـ فمشروعه ليس إلا خاتم تصديق على ما نفذته إسرائيل بالضفة والقطاع منذ حزيران 1967. وبالمقابل ما من عاقل يصدق ان إسرائيل ستفوز الى النهاية بما اغتصبته خلال حقبة تضافر الاحتلال العسكري وأحكامه العرفية ونظامه العنصري بممارسات الليبرالية الجديدة في المنطقة والعالم. مهما اشتطت إسرائيل في الاغتصاب والاستيطان فلن تستقر الأوضاع في فلسطين إلا بعد ان تكون كامل أراضي فلسطين وطنا لجميع سكانها القابلين للعيش بسلام وتفاهم. فهم لا ينكرون انهم يستثمرون أرضا امام اعين أصحابها مثلما اعترف دايان ذات يوم. وهم الطرف المعتدي مثلما اعترف بن غوريون في جلسة خاصة.

كان حزيران 1967 حلقة في مسلسل تخريب الحركات الوطنية في القارات الثلاث. جرت انقلابات فاشية منذ بدايات عقد الستينات اطاحت بأنظمة وطنية منتخبة ديمقراطيا شملت البرازيل وأندونيسيا وغانا، وشملت أيضا اليونان وقبرص ثم تشيلي فيما بعد، وجاء الدور للإطاحة بنظام عبد الناصر، او على الأقل، تمريغ هيبته محليا وإقليميا ودوليا. أسفر عدوان حزيران عن قيام علاقة استراتيجية بين إسرائيل والولايات المتحدة، يرمي لتضييق الخناق على شعب فلسطين وعزله لإفساح المجال للمشروع الصهيوني بفلسطين كي يتمدد ويرسخ مواقعه.

أكد المؤرخ الإسرائيلي، إيلان بابه، مؤلف كتاب التطهير العرقي في فلسطين، ان حرب حزيران جرى التحضير لها منذ زمن وهدفها استكمال التطهير العرقي في فلسطين؛ حيث عهد للاحتلال العسكري ونظام الأبارتهايد إجبار الفلسطينيين على الرحيل. تزامنت هزيمة حزيران مع بزوغ فكرة الليبرالية الجديدة بديلا لخطة جون مانيارد كينز التي قدمها لحل ازمة الاقتصاد العالمي في ثلاثينات القرن الماضي. حققت الكينزية نجاحا كبير غير أن سلطة الاحتكارات عابرة القارات ارتأت العزوف عنها واستبدالها بخطة تمنح الحرية الكاملة للاحتكارات لتمارس نشاطها في جنبات المعمورة وترك النشاط الاقتصادي العالمي للسوق ينظم ويقرر مع خصخصة مشاريع الدولة وممتلكاتها وتخلي الدولة حتى عن الخدمات الاجتماعية أو تقليصها. 

أسهم نهج الانفتاح الاقتصادي للسادات في ارتباط مصر بعلاقة تبعية عضوية بالليبرالية الجديدة، وجرت خلفها جميع الأقطار العربية. فتح السادات للإخوان المسلمين ميدان العمل في الاقتصاد والتعليم وتقديم الخدمات تحت ستار العمل الخيري. تهيأت الفرصة للتيار السلفي للانخراط من جديد في فعاليات اقتصادية والهيمنة على نظام التعليم في مصر وفلسطين وجميع الاقطار العربية؛ غزت مصر والأقطار العربية مع اقتصاد التبعية ثقافة الفردية والكراهية والقسوة. ساورت الامبريالية أحلام الهيمنة الكونية وسحق كل من يعترض تلك الهيمنة. تسييس الإسلام "يتماهى مع مركزية الغرب وشكلها الأسوأ عنصرية، الاستشراق. فالاتجاهان، وإن بدوا متعارضين، إلا أنهما مشتركان في التمييز بين مسارات الشعوب وعدم قابليتها للتقييم.

ان خطاب الإسلام السياسي لا يتعارض مع خطاب رأس المال الليبرالي للعولمة، بل هما في الواقع يكمل أحدهما الآخر تماماً. والإيديولوجية الجماعية على الطريقة الأمريكية، التي يجري الترويج لها حالياً، تعمل على إخفاء الصراع الاجتماعي لتحل محلهما 'توافقات’ جماعية مزعومة تتجاهل هذا الصراع"[1].

اقتضت مخططات الهيمنة الامبريالية على بلدان الشرق الأوسط احتضان الصهيونية من أجل أقامة دولة إسرائيل. الضرورات الكامنة خلف هذا التحول بعثت الحيوية في فكر معزول في عالم المسيحية أطلق على نفسه لاهوت ما قبل الألفية، بموجبه تبنى أتباعه المسيحيون مبادئ الصهيونية التي تبلورت في تلك الفترة. كمنت اولا في بريطانيا، وفي اواخر القرن التاسع عشر انتقلت الى الولايات المتحدة ووجدت تربة اجتماعية تلقفتها وأسبغت عليها الرعاية. تم استيعاب مبادئ المسيحية الصهيونية – المسيحية الأصولية- في الفكر السياسي للامبريالية، وتم إدخال فكرها ليدرس في الأكاديميات العسكرية، التي خرجت القادة العسكريين الذين احتلوا تركة الامبراطورية العثمانية واداروا مجتمعات عربية لعدة عقود. إن احتضان المشروع الصهيوني قد دمج الشعب الفلسطيني والشعوب العربية المحيطة في مصير واحد. بذلت الصهيونة أقصى الجهود لكي تثبت لحماتها انها ذات منفعة جوهرية لمخططات الهيمنة على المنطقة. مدت أذرعها الأخطبوطية للإيقاع بكل حركة وطنية ديمقراطية بالمنطقة.

منذ البداية شكلت الصهيونية ودولتها إسرائيل خطرا على جميع شعوب المنطقة وليس على شعب فلسطين وحده. فرضت الإدارة الأميركية تقسيم فلسطين في تشرين ثاني 1947؛ وبموجب خطة معدة شنت وحدات الهاغاناة المدربة والمنظمة عسكريا حرب تطهير عرقي تواصلت الأعوام 1947- 1949. خذلت الأنظمة العربي شعب فلسطين، بعد ان حرضته على دخول الصراع المسلح. أسفرت الحرب عن شطر الشعب الفلسطيني بين لاجئين مشتتين في الخيام وجمهور كابد نظام الفصل والتمييز العنصريين - الأبارتهايد. وفي العام 1967 أكملت احتلال الأراضي الفلسطينية بعدوان أقر قادة إسرائيل العسكريون والمدنيون انه مدبر وهادف.

كان مقدمة لوضع شعب فلسطين في ظروف صعبة وحرجة تضطره للرحيل أو تفتعل صدامات مسلحة تستغل لهذه الغاية. من مقتضيات الكيد لعزل شعب فلسطين وانفراد إسرائيل وأنصارها الامبرياليين به، أن قدمت كل صنوف الدعم للأنظمة الأبوية والحركات السلفية لمكافحة الحركات الديمقراطية التحررية في الأقطار العربية والشرق أوسطية كافة.

الأنظمة الديمقراطية، أينما وجدت اظهرت التضامن مع القضية الفلسطينية. وضعت الأنظمة الأبوية السدود المانعة بوجه التحرر والديمقراطية والتنمية الاجتماعية للمجتمعات العربية والإسلامية كافة.

بزغت عولمة الليبرالية الجديد في سبعينات القرن الماضي لتملأ فراغ الكينزية في إدارة الاقتصاد الرأسمالي. برزت معها القوة السياسية للمحافظين الجدد، ونواتهم المسيحية الأصولية في السياسات الأميركية. والمسيحية الأصولية اكتسبت اسم المسيحية الصهيونية، نظرا لاعتناقها لاهوت ما قبل الألفية، يزعم ان مسيرة التاريخ  تمضي بمعزل عن إرادة البشر، ضمن محاور ثلاثة تدور حول مصير إسرائيل. وهي اختلاقات مستمدة من الفكر الاستشراقي. المحاور الثلاثة هي عودة اليهود إلى فلسطين باعتبارها "وطن الآباء"، وإقامة دولة إسرائيل وبناء الهيكل الثالث على انقاض الهيكلين الأول والثاني، وذلك كمقدمة لازمة لنزول المسيح وتدشين حقبة الألفية السعيدة حيث ينتهي بنهايتها العالم.

نضجت الظروف لدمج المشروع الصهيوني بفلسطين داخل برنامج القرن الأميركي الذي وضعه المحافظون الجدد لإحكام قبضة الاحتكارات الأميركية على اقتصادات العالم. وبذا غدا الاستيطان الموسع بالضفة هدفا استراتيجيا لإطباق القبضة الإسرائيلية على كامل الأرض الفلسطينية وتهجير عرب فلسطين؛ وفي أقل الاحتمالات سوءا تركهم يذوون في معازل متناثرة تشكل مشاهد توراتية قديمة. للأسف الشديد لم تلحظ القيادة الفلسطينية هذه التداعيات والتشابكات، واستمرت تعلق الآمال على وساطة أميركية إلى أن صدمت بـ "صفقة القرن".

 لم تعد إسرائيل تخفي من خلال ممارساتها العملية المواصلة للسياسات القديمة انها مصممة على إنكار حق الشعب الفلسطيني في وطنه. بات واضحا أن من شبه المستحيل إقامة دولة فلسطينية ذات سيادة وقابلة للتطور طالما يكتفي الجانب الفلسطيني بالمراقبة والاستنكار والإهابة بـ"المجتمع الدولي"، واستصدار قرارات دولية. فإسرائيل يكفيها الدعم المطلق لإجراءاتها من قبل الولايات المتحدة الأميركية.

اتخذت إجراءات إسرائيل منحى جديدا اكثر تطورا؛ إذ تقوم عناصر ماجورة بشراء العقارات لصالح يهود. وينشط على نطاق واسع بالضفة عمليات المتاجرة بالأرض وتقدم البنوك تسهيلات فتح اعتمادات لشراء السيارات تسدد سنداتها بأثمان الأراضي. في الحقيقة تتم، مع غفلة السلطة والفصائل السياسية، مناورات خطيرة تيسر استيلاء يهود إسرائيليين على أراض عربية. 

القانون الدولي لا يجيز نقل الأراضي والعقارات إلى ملكية دولة اجنبية؛ لكن إسرائيل لم تعد تقر انها دولة محتلة وان الضفة منطقة محتلة، واحدثت تغييرات ديمغرافية وسياسية عميقة لصالح ضم المناطق وإلحاقها بكيان إسرائيل.

ضمن المساعي الإسرائيلية في هذا الصدد يجري التركيز على الشباب الفلسطيني بوجه خاص لإغرائه بعالم الإثارة والمتع الحسية وشهوات الاستهلاك باعتبارها قيمة عليا. بهذا النمط  الوجودي المقحم يتم هدر الوعي والعقل وتجميد العطاء الفكري لتنطلق الغرائز بأقصى طاقتها. يبهت الانتماء الوطني وتتلوث الثقافة الوطنية بعناصر عدمية تسهل الانجرار مع نزعات ثقافة الليبرالية الجديدة، واخطرها الاستهانة بمفهوم الوطن والاندفاع في سيل الهجرة للخارج حيث الرفاه والوفرة. لا توقف الليبرالية الجديدة مساعيها لسلخ الشباب الفلسطيني عن هويته القومية وكيانه الوطني وشحنهم بثقافة منمذجة طبقا للنموذج الأميركي." قوى الهدر الخارجي لا يقيض لها النجاح إلا بمقدار ما يتحول الهدر الخارجي الى قوى هدر ذاتي [3/37]. أنذاك يحدث التماهي مع القاهر، ويغدو الرضوخ صناعة ذاتية تتجلى بانعدام القدرة على المجابهة او التحدي.

مرحلة الليبرالية الجديدة منذ سبعينات القرن الماضي هي مرحلة تغلغل الرأسمال المالي الأميركي بوجه خاص في اقتصادات مختلف البلدان، تشرع بوجهه الأبواب ليدخل ويخرج بالأرباح دونما ادنى اعتبار لمصالح الشعوب ومصائرها. الانكشاف الاقتصادي يتبعه هدر الكيان القومي وإفراغه من مقوماته الكيانية. انعقد الإجماع، لضمان السيطرة المطلقة للاحتكارات عابرة الجنسية اتباع سبل  من شأنها هدر العقل والتفكير والإرادة لدى شعوب عدة؛ ذلك ان الهدف، خاصة بعد انهيار الاتحاد السوفييتي بات وأد قدرات التمكين الذاتي لدى الأفراد والجماعات وحمل المجتمعات على نسيان أشواق الحرية والديمقراطية والرفاه والكرامة الإنسانية. ولما كانت الأنظمة الأبوية العربية قاطبة تغفل حق شعوبها في الكرامة والعيش الكريم وتمتهن إنسانية البشر فقد وجدت إٍسرائيل من السهولة بمكان التنكر  لتلك القيم الإنسانية لدى جمهور الفلسطينيين وتسخير آليات هدر الحقوق الإنسانية للمجتمع الفلسطيني، واختزال الحقوق الإنسانية في إشباع ابسط الحاجات البيولوجية، بحيث تغيب تماما إرادة الإمساك بزمام المصير.

رغم ذلك وجد نتنياهو الجسارة للتصريح علنا ان الشعب الفلسطيني تحت نظام الأبارتهايد يعيش حالة أفضل من بقية الشعوب المجاورة!! ربما يصدق نتنياهو في قوله، لكن شعب فلسطين محروم من الأمان ومن الطمأنينة على مستقبل واعد.

نشرت مجلة "الحقيقة البشعة" مقالة عن تأثر نتنياهو بوالده بداها بالقول [2] "ما من أحد يجوز له أن يخطئ بالتفكير ولو لجزء من ثانية  أن نتنياهو لم يشارك والده نظراته تجاه العرب . وفي كل مرة يضرب صاروخ منزلا عربيا ويقتل جميع سكانه يقول نتنياهو في قرارة نفسه "هذا من اجلك يا والدي". وختمت المقالة بالتحذير من أن اعتناق فكرة عن العرب انصاف متوحشين هي مقدمة سيكولوجية ضروية لتدمير إنسانية الشعب المنوي إبادته وطرده واضطهاده". حقا، اكثر من مرة دافع نتنياهو عن الاستيطان بسؤال وجهه الى الأميركيين والأوروبيين: مع من انتم، مع الهمجية ام مع الحضارة. وذكر المؤرخ إيلان بابه أن اليهود وهم ينهبون أثاث بيوت العرب سكان ضواحي القدس وفي يافا وحيفا لم ينفكوا يرددون همجية العرب.

جاء في مقال "الحقيقة البشعة": آمن والد بنجامين نتنياهو- بنزيون نتنياهو- بكل ما حوته أساطير التوراة من كراهية لإسماعيل والكنعانيين والفلسطينيين. شملت كراهية العقيدة اليهودية أيضا جميع الغرباء غير اليهود؛ وقبيل وفاته ردد الحاخام الأكبر عوفاديا يوسف أن الله خلق جميع الأغيار حميرا بصورة بشر كي يخدموا اليهود.

تتلمذ بنزيون نتنياهو على يدي جوزيف كلاوزنر، الناقد الأدبي، وكان يكبره بثلاثين سنة ويخاطبه بنزيون في جميع رسائله أستاذي وسيدي المبجل. وصل كلاوزنر البلاد مهاجرا في ديسمبر1919، وكون نظرة إيجابية عن العرب أصحاب القوارب الذين اوصلوا القادمين إلى ميناء يافا واطرى أمانتهم ونبل أخلاقهم. لكنه عدل عن رأيه إثر اصطدامات العشرينات والثلاثينات. فهو مسكون بحق اليهود في "أرض الآباء". كان قد ترجم الى العبرية كتاب "أصول الآريين ما قبل التاريخ" للكاتبين الألمانيين كارل فرانكه ولودفيغ ويلزر صدر العام1899، وفيه سبقا هتلر بثلاثة عقود بالإشارة إلى عقيدة استعلاء  تمجد نقاء العنصر الآري وتفوقه. نقل عنهما كلاوزنر نظرته العنصرية حول التفوق اليهودي. في العام 1907 نشر مقالة في مجلة هشلواح الأدبية التي يحررها حذر من التأثر بالثقافة العربية. أورد ذكر المقالة اوري أفنيري في كتاب له صدر باللغة الإنجليزية بعنوان "إسرائيل بدون صهاينة"، وقال أفنيري أن كلاوزنر كتبها دراسة نقدية لعدد من الأعمال اليهودية التي تحدثت عن نسج العلاقات مع العرب وتزويدهم بالمعارف الحديثة في الزراعة ومساعدتهم في تطوير حياتهم.

قيم أفنيري المقالة إيذانا ببزوغ صهيونية صدامية لا تهادن العرب. كتب كلاوزنر: تقليد العرب والبدو تأثرٌ بثقافة بدائية، ونحن اليهود الذين عشنا ألفي عام واكثر بين أمم مثقفة لا نستطيع ولا يجب أن نهبط من جديد الى المستوى الثقافي لأمم أِشباه وحوش".

تبنى الشاب ، بنزيون نتنياهو، نظرات أستاذه تجاه العرب واستعمل العبارة "أشباه وحوش" في مقالات كتبها بصحيفته هاياردن، التي بقي يحررها إلى أن توفي والده عام 1935. في مقالة كتبها في ديسمبر 1934 قارن بن زيون أرض إسرائيل بالأرض الأميركية، واليهود بالمواطنين الأميركيين والعرب بالهنود. واورد في المقالة "احتلال الأرض أحد أولويات مشاريع الاستيطان وأكثرها جذرية. والدولة ليست مجرد تجميع حسابي للناس لكنها أيضا مفهوم جغرسياسي. وعلى غرار الولايات المتحدة، حيث بنيت نيويورك على شاطئ الأطلسي وسان فرنسيسكو على شاطئ المحيط الهادي، توجب شق طريق بين المدينتين وامتلاك الأراضي التي تمر بها الطريق وبناء المدن حولها. ولو أبقى الأميركيون ألأرض بايدي الهنود لبقيت هناك بطبيعة الحال مدن الولايات المتحدة وجميع المناطق يقطنها ذوو البشرة الحمراء. 

في عصر عولمة الليبرالية الجديدة جاوزت أطماع الامبريالية المعاصرة نهب الثروات وتحقيق الأرباح الاحتكارية بمختلف السبل والوسائل؛ إذ باتت تراودها أحلام تقويض دول وكذلك التدمير المادي والمعنوي لشعوب بأكملها، وتحطيم إنسانيتها، كي تهدر فيها الإرادة وتذعن للأبد لمشروع القرن الأميركي الذي خطط له المحافظون الجدد. شاعت ثقافة الليبرالية الجديدة في الولايات المتحدة مع تيار العولمة لتشمل جوانب الكرة الأرضية، خاصة إسرائيل. نفس المنحى ونفس الأسلوب اعتمدها الصهاينة ودولة إسرائيل بعد حزيران 1967، وكرسوا حقبة الاحتلال لحمل الشعب الفلسطيني على الرحيل وترك وطنهم ملكا خاصا لليهود.

وضمن مساعيها الدؤوبة، المركزة على الشباب الفلسطيني بوجه خاص، يجري إغراق جيل الشباب في عالم الإثارة والمتع الحسية ومظاهر الاستهلاك الآني باعتبارها قيمة الإنسان العليا.

بهذه الكينونة يتم هدر الوعي والعقل لتحفز الغرائز والانفعالات، ويغلق، من ثم، المدخل للتفكير  والعطاء الفكري، وتلقى ظلالات على الانتماء الوطني والثقافة الوطنية. تريد الليبرالية، وفق منطق الاستهلاكية، أن تغرس لدى الشباب الاستهانة بمفهوم الوطن والهجرة الى حيث الرفاه والمعيشة الرغيدة. ونجحت في مسعاها إلى حد بعيد. لا توقف الليبرالية الجديدة مساعيها لسلخ الشباب عن هويتهم وانتمائهم وإلحاقهم بثقافة منمذجة طبقا للنموذج الأميركي. "قوى الهدر الخارجية لا يقيض لها النجاح التام إلآ بمقدار ما يتحول الهدر الخارجي الى قوى هدر ذاتي". [4/37] حينئذ يحدث التماهي مع القاهر، ويتحول الرضوخ الى صناعة ذاتية تتجلى بانعدام القدرة على المجابهة والتمرد واجترار الاستسلام لمصير الهدر.

تكرار الأكاذيب وتكثيف تسليطها على الجمهور المتلقي بغير نزعة نقدية، يبرز في موضوع جوهري بالنسبة للصهيونية ودولة إسرائيل. فهي تكرر على مدار الساعة أن اليهود "حرروا" وطنهم" وما على ال"محتلين" الفلسطينيين إلا ان يرحلوا. تكرار الأكذوبة حولها في الوعي الجمعي حقيقة من يرفضها يعد مارقا او لاساميا. تعمّد الليكوديون تسخير الدعاية المرافقة لمصادرة الأراضي للشحن العرقي والكراهية العنصرية، ضمن مجهود مركز لتعبئة عنصرية فاشية في إسرائيل.

المفارقة المؤسية في حقبة الجمود الثقافي ان السياسة والثقافة في فلسطين انتقلت اليهما العدوى وكمنت الجهود الثقافية التنويرية فلم تحفز نهوضا جماهيريا ولم ترد على الأكاذيب الإسرائيلية الرسمية بمعطيات العلم التي بذل علماء الآثار والمؤرخون جهودا مضنية للوصول إليها. لم ترتفع بوجه نتنياهو وزمرته يافطة "توقف!" مدعمة بحقائق العلم ومعطيات البحوث الأثرية التي توصل اليها باحثون تمتعوا بالنزاهة والموضوعية العلميتين، ليسوا عربا ولا مسلمين بل يهود ومسيحيون.

اهتم المفكر الأميركي تشومسكي بدور الميديا في عدوانية الامبريالية واعتبر وظيفتها الجديدة "صناعة الموافقة" بمعنى أن الميديا تحمل رسالة الدولة العميقة للجمهور. غدت وظيفة الميديا نشر الوعي الزائف، وغدا شعارها في حرية الإعلام حرية عبور التزييف. احتدم الصراع حول عقول البشر، حيث أن توجهاتهم ودوافع سلوكهم يقررها، بالدرجة الأولى، التأثير الإعلامي المتدفق من هذه الجهة أو تلك.

دأب الاحتلال الإسرائيلي، ونظام الأبارتهايد المفروض على الجماهير الفلسطينية في أرجاء وطنها، على التصدي بالعنف الوحشي لأبسط محاولة تحدي للاحتلال وممارساته، حرص على إفشال كل تحرك شعبي ومنعه من تحقيق مراميه. إن النعوش اليومية، فردية وجماعية وتتالي المجازر الجماعية، وبعضها بآلاف الضحايا الأبرياء إلا من كونهم فلسطينيين، أدلة على ان حق الحياة غير مضمون للفلسطيني أينما وجد. سواء كان ضمن الكفاح المسلح أو المقاومة الشعبية او حتى بعيدا عن كل هذا فحياته مهددة رهن زناد يضغط عليه قناص ولو على سبيل التسلية. فحق الفلسطيني البسيط والبدهي بالحياة مهدد من قبل نظام الأبارتهايد الصهيوني.

هذا الواقع المأساوي ليس وليد اللحظة، إنما هو مضمن في صلب العقيدة الصهيونية منذ نشوئها حركة اقتلاعية كولنيالية تمضي في كنف الرأسمالية، وهي تتطلع للهيمنة على بلدان الشرق في منتصف القرن التاسع عشر، فابتكرت مقولة "أرض بلا شعب لشعب بلا أرض". يريد نظام الأبارتهايد دفع الإنسان الفلسطيني الى ما دون "خط البشر"، بحيث يجبر الفلسطينيين على"العيش على مستوى الآلة البيولوجية. تنهار حدود الأخلاق والحرمات ويصبح كل شيء مباحا في حالة تحرك اوالية الاستسلام والخضوع على خلفية الشعور بـ"انعدام القيمة المتعلَم’"[3/30]، أي المكتسب في ظروف الهدر. وما صفقة القرن المطروحة من قبل إدارة ترمب إلا خاتم التصديق الرسمي على نهج الأبارتهايد الإسرائيلي وأهدافه المتوخاة. ولا نحتاج الى الفطنة كي ندرك ان الصهيونية ونتنياهو بالذات، صممت بنود الصفقة؛ فجميع مبعوثي إدارة ترمب اختيروا من أوساط يهودية صهيونية ومن المحافظين الجدد وهم صهاينة أكثرتعصبا. لاترى الإدارة الأميركية وهيئاتها التشريعية وأجهزتها، وكلهم من المحافظين الجدد - المسيحيين الصهاينة -  يرون بنود الصفقة متطابقة مع نزعة الهيمنة على الشرق الأوسط بوكالة إسرائيل، الدولة الإقليمية. علاوة على أن المحافظين الجدد بالولايات المتحدة يمارسون نفس نهج الأبارتهايد واضطهاداته الممنهجة ضد الأميركيين من أصل إفريقي.

أورد باول كريغ روبرتس مساعد اسبق لوزير المالية الأميركية ومحرر سابق بمجلة وول ستريت جورنال، واحدث مؤلفاته "خطر المحافظين الجدد على النظام الدولي" ... أورد في رسالة بعثها الى مؤتمر على شرف الذكرى السبعين لمؤتمر يالطا (موسكو 26 شباط 2015) "لقد اتاحت تفجيرات 11 أيلول 2001 للولايات المتحدة التحول الى دولة بوليسية.

عملت مذكرات صادرة عن وزارة العدلية في إدارة بوش على تشكل سلطة تنفيذية لا تلتزم بدستور ولا بالقوانين المحلية او الدولية ... فجأة أمكن للسياسة الأميركية التجسس على الأميركيين وعلى الحلفاء الأقربين دون تمييز ودون حاجة لبيان الأسباب." بدل مراقبة الشعب لأداء الحكومة اوغلت الحكومة في مراقبة الجمهور وإحصاء تحركات العناصر المعارضة.

تساءل باول روبرتز[4] في بداية مقالة كتبها عام 2016، لماذا لا نسمع سوى عن الأزمة "الإنسانية" في حلب وليس في سوريا أو في اليمن او ليبيا او العراق؟ يجيب أن ازمة حلب الشرقية هي في الحقيقة أزمة واشنطن، حيث "خسرت الولايات المتحدة مبعوثيها الداعشيين أمام الجيش السوري؛ فمثل هذا الرياء يميز الدعاية الأميركية". عرّى الكاتب "استراتيجية واشنطون لزعزعة استقرار إيران ثم الانطلاق لتحريك مسلمي روسيا ومسلمي الصين خلف شعارات الجهادية التكفيرية. لم يُعرف الإرهاب في الشرق الأوسط إلا بعد ان جلبته واشنطون هناك بغزواتها وقصف قنابلها وأعمال التعذيب التي مارسها جلاوزتها". ثم عرج على دورالإعلام فقال: ان العاهرات اللواتي تظاهرن بكونهن ميديا أميركية أرغمن واشنطون بالدعاية الكاذبة على التصديق بأن الإرهابيين الجهاديين هم ديمقراطيون ثوار ضد ديكتاتورية الأسد. وكمُن التبرير الأصلي لإدخال الإرهابيين الى الشرق الأوسط في تفجيرات 11 أيلول؛ فلم يكن أسامة بن لادن وراء تلك التفجيرات وبالتاكيد ليست طالبان. التفجيرات  صنعها المحافظون الجدد "بيرل هاربر جديدة" وكتبوا من قبل أنهم بحاجة ماسة لها لشن حروب الشرق الأوسط. ويعني هذا أن مخططات حروب الشرق الأوسط وضعت قبل 11/9".

انتهى المقال إلى تأكيد ان "المحافظين الجدد صهاينة؛ عن طريق تعريض الشرق الأوسط للفوضى ينجزون هدفيهم الاثنين: يزيحون المعارضة المنظمة للتوسع الإسرائيلي؛ ويصنعون الجهاديين يسخرونهم لإحداث القلاقل في بلدان مثل روسيا وإيران والصين، تلك التي تقف عقبة بوجه هيمنة القطب الواحد".

وختم مقالته بالقول أن "حياة كوكبنا مركزة بأيدي حمقى مجرمين. وهذه هي الأزمة الإنسانية الحقيقية". أفضت تلك التطورات، خاصة بعد تفكك الاتحاد السوفييتي وانهيار المنظومة الاشتراكية، الى بروز الولايات المتحدة قطبا أوحد تحدوه نزعة التسلط العالمي من خلال نهج عسكري عدواني.

في كتابه الأخير "مؤامرة للعدوان ضد إيران" أكد الحقوقي الأميركي، دان كوفاليك، أن قوات الغزو الأميركية أبادت الملايين من مواطني فييتنام وكوريا والعراق... والدمار الذي أوقعه غزو العراق قد فاق الدمار الذي انزله جينكيز خان عام 1258م. أوقعت مكائد الامبريالية اضطهادات بالشعوب ومنها الشعوب العربية أشاعت الرعب وعززت مظاهر الهدر والانسحاق.  تفتق النهج العدواني، حسب أقوال صحيفة وول ستريت جورنال، عن "جلب مرتزقة بلاكووتر الى سوريا". خطورة الأمر دفعت رئيس تحرير صحيفة الشروق المصرية ،الصحفي عماد الدين حسين، لتحذير دول الخليج من عواقب كارثية لاستنساخ فرق بلاك ووتر في سوريا، ووجه السؤال لدول الخليج: ألا تفكرون فى عواقب مثل هؤلاء القتلة المحترفين، الذين لا نستبعد أن يكونوا أيضا مرتبطين بالإسرائيليين والمحافظين الجدد المتطرفين فى الولايات المتحدة؟!

وفي إسرائيل اختزل الفكر التقدمي الظاهرة بمفهوم "غسيل الدماغ"- آلية تلاعب بالعقول، افرادا وجماعات، في ظل نظام ديمقراطي او ديكتاتوري لا فرق، وذلك من خلال حصر فروع الميديا تحت إمرة صوت واحد. ما على المرء سوى قمع الأصوات الأخرى، او يروعها بهجوم ثقافي مضاد، ويتأكد من ان المواطن لا يستمع إلا لصوته. هذا ما ذكره صراحة امام اجتماع لمنظمة إيباك بالولايات المتحدة الكاتب الصحفي الإسرائيلي، جدعون ليفي، حيث واجههم بجرأة يغبط عليها في كلمته، "إذا كنتم أصدقاء لإسرائيل فلن تكون بحاجة الى أعداء". وأشار إليه اوري أفنيري.."يكرر بضع رسائل مئات المرات كل يوم فتغدو الأكاذيب حقائق. والمواطن لا يعي حقيقة ان جميع فروع الميديا حيال موضوع حاسم، مثل الحرب والسلام، ترتبط بخط وحيد اوحد من ماكنة غسيل الدماغ"[5].

يسوق أفنيري أمثلة ثلاثة من نتائج غسيل الدماغ : الأول أحداث القتل يوم 14 أيار في غزة.نشطت ماكينة غسيل الدماغ "بشكل تحسدنا عليها الأنظمة الديكتاتورية". لماذا القتل؟ ويجيب من دعاياتهم: نحن مضطرون لأنهم هاجموا حدودنا وحاولوا اقتحام أراضينا! الم يطالب أهالي غزة بالعودة الى الديار، أي إلى أراضي إسرائيل؟ كل إسرائيلي عرف ان ضرب الرصاص كان ضروريا ؛ ولم ينتبه احد إلى أن صورة واحدة للهجوم على الحدود لم تنشرها الميديا ، علما ان المصورين الصحفيين تواجدوا هناك بكثرة![5]

ثم ملاحظة كلمة "إرهاب".باتت صفة ملازمة لكل شيء: أنفاق إرهابية، أنشطة إرهابية، طائرات ورقية إرهابية، سكان غزة جميعهم إرهابيون، نظام حماس إرهابي.. تكرار هذه الصيغ مئات المرات كل يوم يمثل غسيل الدماغ دون أن يعي ذلك الجمهور المتلقي.

واخيرا ما يردده نتنياهو من أن إيران تريد إبادة إسرائيل.كلام مثير للسخرية؛ إذ كيف يمكن إبادة دولة نووية تمتلك قبة حديدية، ولها في عرض البحر غواصات حديثة تحمل رؤوسا نووية؟!

الى أن يقول أفنيري:"نصل الى نتيجة أن مدراء أجهزة الميديا ومقدمي البرامج والمراسلين والمعلقين .. كلهم تعرضوا لغسيل الدماغ دون ان يعوا ذلك. لا يمكن إنجاح غسيل الدماغ دون ان يحتكر صوت رسمي الميديا." [5] والعقل المتلقي، إذ يعجز عن إدراك المفارقات في طروحات الميديا، نظرا لتغيب النظرة النقدية والمسئولية الاجتماعية للحد من مخاطر التضليل الإعلامي، يجري سوق المجتمع بأكمله نحو الكوارث.

دفع السخط على تلك التطورات الى انتفاضات جماهيرية في أقطار عربية رفعت شعارات الكرامة والخبز والعدالة الاجتماعية، القضايا التي صادرتها الليبرالية الجديدة. قدمت الانتفاضات البرهان على كمون قيم الإنسانية في الوجدان الجمعي واستعصائها على عوامل التدمير وتحدّت ثقافة الليبرالية الجديدة. فشلت الليبرالية الجديدة في تهميج المجتمعات البشرية وتَصحُر الوجدان الجمعي والفردي، وفشلت الثورة المضادة التي نظمتها ودعمتها الليبرالية الجديدة مع الإخوان في وأد طموحات الجماهير الشعبية للخبز والحرية والكرامة. سارعت عناصر الليبرالية الجديدة، المحلية والخارجية، للتدخل في ثورة مضادة، بحيث اختلطت الثورة والثورة المضادة وتم بعث مفهوم الربيع والخريف للتمويه على دور الثورة المضادة وإخفاء تأثير الليبرالية الجدية وعملائها المحليين في حرف الثورة مؤقتا. تم تعطيل نتائج الانتفاضات عن طريق إغراقها بالدماء.

تنبأ الدكتور سمير أمين، مباشرة عقب الإطاحة بمبارك أن الإسلام السياسي يهدف إلى إقامة أنظمة دينية رجعية صريحة، مرتبطة بسلطات من طراز "المماليك"، أي سلطة تلك الطبقة العسكرية الحاكمة قبل قرنين من الزمان. ومن يراقب عن كثب الأنظمة المتدهورة التالية لمرحلة الفورة الوطنية، والتي تضع نفسها فوق أي قانون (بإدعاء أنها لا تعترف إلا بالشريعة)، وتستولي على كل مكاسب الحياة الاقتصادية، وتقبل، باسم الواقعية، أن تندمج في وضع متدنٍ، في العولمة الرأسمالية لعالم اليوم، لا يمكن إلا أن يربط بينها وبين تلك الأنظمة المملوكية.

عام واحد من حكم الإخوان المسلمين في مصر كان كافيا لتزكية تقديرات سمير أمين.

 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1- سمير أمين: الاسلام السياسي الوجه الأخر للإمبريالية - الحوار المتمدن عدد  5325 بتاريخ 27/10/2016

2- كيف اعتنق والد نتنياهو نظرة ان العرب أشباه وحوش- الحقيقة البشعة، مجلة الشرق الأوسط الإليكترونية، 6 تموز 2018.

3- هشام شرابي: مقدمات لدراسة المجتمع العربي-دار الطليعة للطباعة والنشر، بيروت، ط4، 1994.

4- Paul Grake Roberts:The Real Humanitarian Crisis Is Not In Syria- Counterpunch, October17,2016

5- Uri Avniri:Are You Brainwashed? Middleeast.org,  July6,2018