"جيبيا أول المشوار - 1923" أوسع من سيرة ذاتية - إلياس نصرالله

2018-04-17

"جيبيا أول المشوار - 1923" أوسع من سيرة ذاتية

إلياس نصرالله

عبد الرحمن النجاب رسم صورة عن البيئة التي نشأ فيها أخوه القائد الوطني الفلسطيني سليمان

حافلة بالتفاصيل

تمتد سيرة عبد الرحمن النجاب على مدى حوالى قرن من الزمن، وجاءت حافلة بالتفاصيل المهمة التي يحتار من يكتب مراجعة لها في ما ينبغي أن يشير إليه من التفاصيل، فهو يقول "ضمّت صفحات هذا الكتاب معلومات ومشاهدات وخبرات، فمنها ما سَجَلتْه عين الطفولة الفاحصة المراقبة. ومنها ما سمعته من كبار السن من أحاديث وتجارب. ووصف للعادات والتقاليد. يضاف إلى ذلك ما رأيته ومارسته في الحياة. الدراسية منها والعملية. وما شكله السفر والتنقل من مصدر للمعلومات وغير ذلك".

لا نستسلم

... قاد سيارته حتى وصل إلى جيبيا، فوجد هناك أخاه سليمان الذي كان مختفيًا لأن السلطات الأردنية كانت تبحث عنه وانضم إليهم عدد من أفراد العائلة وآخرون منهم مواطن من قرية قريبة الذي ما أن سمع في المذياع دعوة قوات الاحتلال الإسرائيلي للمواطنين لكي يرفعوا الرايات البيضاء حتى سحب منشفة وحاول رفعها فوق البيت، فهب سليمان النجاب وأنزل الرجل وقال له "هذا آخر بيت يمكن أن ترفع عليه الراية البيضاء. مرحبًا بك بيننا تأكل مما نأكل. وتشرب مما نشرب. وتواجه المصير الذي يمكن أن نتعرض له جميعًا إذا أردت".

صدر في عمّان أخيرًا عن دار ميس للنشر والتوزيع  كتاب بعنوان "جيبيا أول المشوار – 1923" هو عبارة عن السيرة الذاتية لعبد الرحمن رشيد النجاب، المربي الفاضل وأحد المهندسين الزراعيين الأوائل في فلسطين. يقع الكتاب في 208 صفحات من القطع الكبير ويتألف من 25 فصلًا بالإضافة إلى المقدمة، وهو مطبوع طبعة أنيقة مزودة بعدد من الصور التذكارية التي تخص عائلة النجاب وبلدة جيبيا وغيرها من الصور التراثية والوثائق المتعلقة بالموضوع

ويكتسب الكتاب أهمية خاصة لأن مؤلفه ألقى الضوء على خلفيته العائلية والاجتماعية، وهي البيئة ذاتها التي نشأ فيها أحد قادة النضال الوطني الفلسطيني سليمان النجاب الأخ الأصغر لعبد الرحمن وأحد القادة السابقين لحزب الشعب الفلسطيني والعضو السابق في المجلس الوطني واللجنة التنفيذية التابعة له الذي وافته المنية مبكرًا عام 2001 قبل أن يتمكن من تدوين سيرته الذاتية.
يحمل الفصل الأول في الكتاب العنوان التالي: قريتنا جيبيا. ويقول عبد الرحمن أن الكنعانيين هم الذين أطلقوا إسم جيبيا على القرية التي تقع إلى الشمال الغربي من رام الله وبير زيت في الضفة الغربية المحتلة وتعني كلمة جيبيا المرتفع من الأرض وهي مبنية بالفعل فوق مرتفع كهذا. وتكثر حول جيبيا آبار الماء والينابيع العذبة وتشتهر بزراعة الزيتون، فيما كانت تكثر فيها في الماضي أشجار الفاكهة بأنواعها، لكن بسبب الظروف التي تمر بها فلسطين تحت نير الاحتلال ابتعد الناس عن العمل في الفلاحة فقلت أشجار الفاكهة التي تحتاج إلى العناية. وجيبيا قرية صغيرة وعدد سكانها محدود نتيجة للهجرات المتتالية لأبنائها على مرّ السنين، ووفقًا لأول إحصائية سكانية متوفرة عنها ففي عام 1922 كان عدد سكانها 62 شخصًا، أصبحوا 90 شخصًا في عام 1945، و164 شخصًا في عام 2011

تمتد سيرة عبد الرحمن النجاب على مدى حوالى قرن من الزمن، وجاءت حافلة بالتفاصيل المهمة التي يحتار من يكتب مراجعة لها في ما ينبغي أن يشير إليه من التفاصيل، فهو يقول "ضمّت صفحات هذا الكتاب معلومات ومشاهدات وخبرات، فمنها ما سَجَلتْه عين الطفولة الفاحصة المراقبة. ومنها ما سمعته من كبار السن من أحاديث وتجارب. ووصف للعادات والتقاليد. يضاف إلى ذلك ما رأيته ومارسته في الحياة. الدراسية منها والعملية. وما شكله السفر والتنقل من مصدر للمعلومات وغير ذلك".

وذكر عبد الرحمن أن عائلات جيبيا تنتمي في الأصل إلى جد واحد من عائلة أبو زياد يُروى أنه قدم إلى جيبيا من جنوب غرب فلسطين واستقر فيها في زمن ماض يصعب تحديده، فأنجب ثلاثة أبناء هم حمد الله وعبد الجواد وحمد. وآل النجاب هم من نسل حمد الله. أما رشيد النجاب والد عبد الرحمن فأنجب ثلاثة أبناء هم عبد الرحمن المولود عام 1923 ومحمد المولود في عام 1932 وسليمان المولود عام 1934 وثلاث بنات هن رحمة ورقية وفاطمة

ولفت الانتباه أن رشيد النجاب احتفظ بسجل يدوّن فيه ليس فقط ذكرياته، بل تفاصيل مهمة عن الحياة في جيبيا ومحيطها، فاعتمد ابنه عبد الرحمن هذا السجل في تدوين سيرته الذاتية.

ومن ذكريات طفولته تحدث عبد الرحمن عن الزلزال الذي ضرب فلسطين وشرق الأردن عام 1927 وكيف خرج الناس من منازلهم وناموا تحت أشجار الزيتون خشية انهيار المنازل فوق رؤوسهم، فبالإضافة إلى الدمار الذي أحدثه الزلزال كانت حصيلته 115 قتيلًًا في نابلس و85 قتيلًا في السلط.

ومن ذكريات الطفولة أيضًا روى عبد الرحمن ما شاهده في عام 1929 على أثر هبة "البراق"، فقال "رأيت بعض الرجال عائدين إلى قراهم مرورًا بقريتنا. وكانت تبدو عليهم آثار إصابات. وقد تلطخت ملابسهم بالدماء، وقالوا انهم كانوا قادمين من القدس. وأن مواجهات قد جرت مع اليهود. مما أدى إلى تدخل القوات البريطانية".

كان عبد الرحمن "من أوائل المتعلمين من أبناء عدد من القرى المحيطة" بجيبيا. ويقول ان والده رشيد أصر "على تعليم أبنائه وبناته. وكان فخورًا بما عزم عليه وأنجزه". وهذا أمر غير عادي في المجتمعات الريفية التي تعتاش من الفلاحة. في البداية التحق عبد الرحمن بكتّابٍ تابع لأحد الشيوخ في قرية كوبر القريبة، لكن الكتّاب أقفل بعد ستة أشهر وانتقل عبد الرحمن إلى مدرسة بير زيت الأميرية المختلطة التي كان يديرها الأستاذ يوسف نصار من جفنا وأصبح لاحقًا مختارًا لبلدته وكاهنًا في الكنيسة الأرثوذكسية. ويقول عبد الرحمن "فكنت أناديه عندما أقابله: يا أستاذ! أو يا أبونا. فيجيب: أيهما شئت فهو صحيح". 

في هذه الأثناء اندلعت ثورة 1936 في فلسطين، وكان عبد الرحمن في الثالثة عشرة من عمره، فتوقف عند الأجواء المضطربة التي سادت في البلد خلال الإضراب العام الذي وصفه بأنه "كان شاملًا. شاركت فيه كل القوى في المدينة والقرية بشكل عام وكان الناس يقفون صفًا واحدًا متضامنين متعاونين".

ويشير عبد الرحمن إلى الجهل الذي كان متفشيًا في المجتمع الفلسطيني وكانت له انعكاسات سلبية على ثورة 1936 ومجمل النضال الفلسطيني في عهد الاحتلال البريطاني، فيروي أنه كان من السهل أن يُتهم شخص ما بأنه ينتمي إلى حزب الدفاع الذي يرأسه راغب النشاشيبي. حتى تكون تهمة الخيانة جاهزة من أتباع حزب المفتي. وهكذا دخل الناس في التفرقة. فهذا من حزب المفتي. وذاك من حزب الدفاع. ولجأت بريطانيا إلى سلاح "فرق تسد" الذي تحبه وتجيد استخدامه. ويضيف أنه وقعت عمليات "اقتتال واغتيالات وإعدامات بسبب الجهل عند القرويين. في الوقت الذي كان فيه أبناء المدن يحتفظون بعلاقات جيدة. وفي خطوبة لأحد أبناء عائلة الحسيني في القدس. رأيت راغب النشاشيبي بأم عيني حاضرًا ومباركًا ومجاملًا".

كانت مدرسة بير زيت حتى الصف الرابع، فانتقل عبد الرحمن إلى مدرسة البيرة الأميرية التي كانت هي الأخرى محدودة حتى الصف السابع، فأنهى دراسته فيها بتفوق ما أهله لدخول المدرسة الرشيدية في القدس. وشاءت الظروف ألا يُكمل دراسته الثانوية فيها وأنهى فقط الصف التاسع أو ما كان يُسمى الثاني ثانوي، إذ في نهاية العام الثاني فيها جاءت لجنة لمقابلة الطلاب، واختيار من تراه مناسبًا منهم للقبول في مدرسة خضوري الزراعية في طولكرم، فكان عبد الرحمن أحد الذين اختارتهم اللجنة

تخرج عبد الرحمن من خضوري عام 1945، وحالفه الحظ أن تم تعيينه مدرسًا في مدرستي البيرة ورام الله، ليجد نفسه زميلًا لسبعة ممن علموه في مدرسة البيرة ذاتها، كما حصل على وظيفة لتعليم الزراعة في نفس الوقت في مدرسة الفرندز المجاورة لمدرسة البيرة وعمل فيها لمدة سنتين

وروى عبد الرحمن تفصيلًا مهمًا يتعلق بأخويه محمد وسليمان فقال "كان الفارق في السن تسع سنوات بيني وبين أخي محمد. واحدى عشرة سنة بيني وبين أخي سليمان. وقد اضافت هذه السنوات إلى علاقة الأخوة علاقة أخرى. فقد كانا بين طلابي الذين علمتهم في مدرسة البيرة (الهاشمية لاحقًا) ولم تكن هذه تجربة سهلة لأي منا. فربما نالهما بعض الظلم وأنا أتعامل معهما في المدرسة بشدة. ولكنهما كان مجدين ومثابرين". ويضيف أن أختيه رقية وفاطمة "تعلمتا حتى نالتا شهادة المترك. ثم تابعتا التعلم في معهد المعلمات في رام الله، وعملتا في التعليم. فكانتا رائدتين في هذا المجال. كما كان لهما نشاط في الحركات النسائية والوطنية".

في سيرته الذاتية يتحدث عبد الرحمن النجاب عن هوايتين مهمتين من هواياته وهما الصيد وركوب الخيل اللتان ساعدتاه في التعرف على فلسطين أو على الأقل على دوائر أو أقضية محددة في فلسطين، وروى عن رحلة ركوب خيل قام بها عام 1946 برفقة صديق من جيبيا هو الشيخ حسن أبو زياد ودامت لبضعة أيام زارا خلالها عددًا من القرى الفلسطينية وباتا عند معارف لهما فيها، من جملة القرى التي ذكرها بيت إللو وبيت نوبا ودير اللطرون وجليا والتينة ومغلس واذنَبَّه التي قضيا فيها ليلتين في ضيافة يوسف الحسيني، وهو خريج الجامعة الأميركية في بيروت الذي رفض الانخراط في سلك الوظائف الحكومية وفضل أن يهتم بممتلكات العائلة فأقام في قرية اذنبَّة وغيرها من قرى قضاء الرملة، حيث استمتع يوسف الحسيني وأبناء القرية الذي حضروا اللقاءات مع الضيفين في تبادل الأحاديث الشيقة مع عبد الرحمن حول الزراعة والفلاحة.
ويضيف عبد الرحمن أنه بعد زيارتهما لاذنبة تواصلت الرحلة نحو الشرق فزارا دير جمال وقريتي زكريا وأم برج التي حلّا فيها ضيفين على شكري الحسيني، ثم قرية إشوع وبيت نوبا ثانية وبيت إللو ثم كوبر. فيختتم عبد الرحمن حديثه عن هذه الرحلة قائلًا "تعرفنا خلال هذه الرحلة على جزء من الوطن. وقضينا وقتًا طيبًا مع أصدقائنا. كما عقدنا صداقات جديدة لا زلت أذكرها".
بالطبع توقف عبد الرحمن في سيرته عند نكبة عام 1948 وروى مجموعة من الذكريات من تلك الفترة وانطباعاته عنها، وأبرز دور المواطنين الفلسطينيين وتفانيهم في الدفاع عن وطنهم.

وتحدث عن دخول الجيوش العربية إلى فلسطين بعد انسحاب القوات البريطانية في 15 أيار 1948، وعن المذابح التي ارتكبتها العصابات الصهيونية في أماكن مختلفة من فلسطين مثل دير ياسين والدوايمة والطنطورة، والهروب الجماعي للمواطنين من وجه القتل والإبادة، فمر العديد منهم من جيبيا والمناطق المحيطة بها، فشاهدهم عبد الرحمن وتحدث عن الذعر الذي كان باديًا على وجوه الفارين من تلك المذابح وهم "يشيرون إلى حيث تقع قريتهم. تتحرك حناجرهم. وتعجز الشفاه عن نقل الصوت المذعور المرعوب. يحركون الأيدي. ويصفون الغدر. والقتل. والتمثيل بالجثث وفيها ما فيها من بقايا الروح. وتتلون أعينهم بلون الدم الذي رأوه في كل مكان من القرى المنكوبة".

ويتوقف عبد الرحمن قليلًا عند انتقال جيبيا ضمن الضفة الغربية إلى الحكم الأردني عقب النكبة وتوحيد الضفتين الغربية والشرقية ضمن المملكة الأردنية الهاشمية في مؤتمر أريحا في كانون الأول عام 1950، والتغيرات الإدارية والقانونية والسياسية التي طرأت على أثر ذلك وبالأخص تشكيل البرلمان الأردني وانتخاب ممثلين عن الضفتين مناصفة، لكن سرعان ما تبين أن الحياة البرلمانية كانت فارغة ولم تتسم بالديمقراطية التي أوحت بها الانتخابات، حسب قوله "إذ حكم على عدد من النواب بالسجن ثمانية عشر عامًا".

في عام 1949 بدأ عبد الرحمن التدريس في المدرسة الرشيدية ثم في الكلية الإبراهيمية في القدس. وفي عام 1950 تزوج عبد الرحمن من صفية العاروري من قرية برهام القريبة من جيبيا. لكن في عام 1953 طرأ تحول نوعي على عمل عبد الرحمن فتم تعيينه مساعدًا لمدير التعليم الزراعي في مقر وزارة التربية والتعليم في عمان وأصبح مفتشًا عن موضوعي الزراعة والعلوم في الضفة الغربية

بعد يومين من بدء عبد الرحمن عمله مفتشًا في منطقة نابلس وقعت مجزرة قبية في 15 تشرين الأول التي نفذتها وحدة من الجيش الإسرائيلي بقيادة أريئل شارون الذي بنى أمجاده على حساب دماء الفلسطينيين ليصبح لاحقًا رئيس وزراء إسرائيل، فقُتل حوالي سبعين مواطنًا من أبناء قبية معظمهم من النساء والأطفال ودمّر خمسة وأربعين منزلًا ومسجدًا وخزانًا للمياه ومدرسة. وقدّم عبد الرحمن شهادة حية على ما شاهده في قبية في ذلك اليوم حيث ذهب برفقة مدير التربية محمد الطاهر ليستطلعوا ما حدث، حيث كانت جثث الضحايا ملقاة في أنحاء القرية وقام المواطنون بإزالة الركام من المنازل التي تم تفجيرها وهدمها فوق رؤوس ساكنيها ومن ضمنها منزل معلم المدرسة موسى أبو زيد الذي شارك عبد الرحمن في إزالة ركام منزله المهدوم وإخراج جثة موسى وزوجته وأطفالهما الثلاثة، وفي معرض وصفه لهذا المشهد يقول عبد الرحمن "كان حقًا منظرًا مروعًا. سمعت الكثير. وقرأت الكثير ولكن هذا أبشع ما رأيته بأم عيني".

في عام 1954 حصل عبد الرحمن من الحكومة الأردنية على بعثة دراسية لمدة عام في الجامعة الأميركية في بيروت كونه تفوق في الدراسة في خضوري، عاد بعده ليمارس عمله كمفتش في وزارة التربية والتعليم واستمر حتى عام 1958 عندما حصل على بعثة دراسية جديدة في الولايات المتحدة كادت تتعثر بسبب اعتقال السلطات الأردنية لأخيه سليمان النجاب في رام الله وإصدار حكم ضده بالسجن لمدة 18 عامًا ونقله إلى معتقل الجفر.

سافر عبد الرحمن وأكمل دراسته وتدريبه في الولايات المتحدة على مدى عامين تحدث في الكتاب عن تجربته فيهما، وعن لقائه بأخيه الثاني محمد الذي كان قد سبقه للدراسة في الولايات المتحدة وتزوج وأقام فيها. حال عودته إلى الأردن تم نقل عبد الرحمن للعمل مفتشًا في نابلس وبقي فيها مدة عام انتقل بعدها ليعمل مساعدًا لعلي رؤوف مدير التعليم الزراعي في الأردن الذي كان مديرًا لمدرسة خضوري حين التحق بها عبد الرحمن.

وخصص عبد الرحمن فصلًا عن زراعة الزيتون وإنتاج الزيت في فلسطين مستندًا على معرفته الشخصية في هذا المجال كأحد أبناء جيبيا الغنية بكروم الزيتون وكون والده يملك معصرة زيت، وأبرز الدور الذي تقوم به جمعية عين سينيا لعصر الزيتون وتسويق منتجاته خدمة للقرى في تلك المنطقة. واستعرض عملية إنتاج الزيت والزيتون بتوسع موردًا تفاصيل دقيقة عن الطرق التقليدية والحديثة لإنتاج الزيت والمعاصر القديمة والآلية. وخلال حديثه عن هذه العملية ذكر "البدّ" وهو عبارة عن جرن كبير منحوت من الصخر يجري هرس الزيتون فيه قبل تحويله إلى العصر، وروى عن البدّ وآلة العصر وهما قطعتان أثريتان قديمتان كانتا موجودتين في جيبيا، وقال انهما تعرضتا للسرقة من قبل الإسرائيليين وهما معروضتان حاليًا في حيفا.

يتضح من سيرة عبد الرحمن أنه قد كان له باع طويل في التربية والتعليم، ومن ضمن نشاطاته في هذا المجال ساهم في تأسيس مدرسة ثانوية في بير زيت أطلقت السلطات الأردنية عليها اسم الأمير حسن كان أبناء القرى المحيطة ببير زيت ومن ضمنها جيبيا في أمّس الحاجة إليها، كذلك ساهم في تطوير المدارس الخاصة بالبنات في هذه المنطقة وفي مناطق أخرى، وكان نطاق عمله قد اتسع ليشمل بالإضافة إلى الضفة الغربية مناطق في الضفة الشرقية فخدم في الكرك والطفيلة، وأشرف على التفتيش في امتحانات التوجيهي، كما عُيّن لاحقًا مديرًا لمدرسة العروب الزراعية في قضاء الخليل.

في عام 1965 حصل عبد الرحمن على بعثة جديدة للحصول على درجة ماجيستير في الزراعة من كلية "إيه أند إم تكساس" في الولايات المتحدة، وروى عن العقبات التي اعترضت طريقه من الجانب الأميركي الذي اعترض على ترشيحه للبعثة بناء على تقارير سابقة من الفترة الأولى التي قضاها عبد الرحمن في نفس الكلية قبل ست سنوات وتفوهه بكلام لم يعجب السلطات الأميركية. مع ذلك تمكن عبد الرحمن من مواصلة تعليمه وحصوله على الشهادة والعودة إلى الأردن بعد عام كامل، حيث انتسب إلى نقابة المهندسين الزراعيين وانتخب عضوًا في مجلس النقابة ثم نائبًا للنقيب. ومن خلال نقابة المهندسين ساهم لاحقًا في تأسيس اتحاد المهندسين الزراعيين العرب سنة 1969.

في الخامس من حزيران عام 1967، كان عبد الرحمن يشرف على امتحانات التوجيهي في مدرسة الفرير في القدس القديمة وإذا بالضجيج يملأ ساحة المدرسة وتعالت الأصوات معلنة أن إسرائيل احتلت البلد، فقال "وبالسرعة الممكنة صرفنا الطلاب. وجمعنا الدفاتر... ونقلنا أحد الزملاء بسيارته"، وجرى تسليم الدفاتر لمكتب التربية والتعليم في المدينة. وواصل عبد الرحمن وزملاؤه رحلتهم إلى رام الله عن طريق أريحا - حزما، فالتقى هناك مع عدد من أفراد عائلته وقاد سيارته حتى وصل إلى جيبيا، فوجد هناك أخاه سليمان الذي كان مختفيًا لأن السلطات الأردنية كانت تبحث عنه وانضم إليهم عدد من أفراد العائلة وآخرون منهم مواطن من قرية قريبة الذي ما أن سمع في المذياع دعوة قوات الاحتلال الإسرائيلي للمواطنين لكي يرفعوا الرايات البيضاء حتى سحب منشفة وحاول رفعها فوق البيت، فهب سليمان النجاب وأنزل الرجل وقال له "هذا آخر بيت يمكن أن ترفع عليه الراية البيضاء. مرحبًا بك بيننا تأكل مما نأكل. وتشرب مما نشرب. وتواجه المصير الذي يمكن أن نتعرض له جميعًا إذا أردت".

بعد أسبوعين قرر عبد الرحمن السفر إلى الأردن للاطمئنان على ابنته سلوى التي كانت موجودة هناك. وكانت رحلة شاقة خاض خلالها في مياه نهر الأردن لكي يجتازه إلى الضفة الشرقية إذ وجد أن جسر الملك حسين قد هدم وقام المواطنون باستخدام الحبال لعبور النهر، فيما كان الجنود الإسرائيليون يدفعون المواطنين شرقًا ويمنعون أي شخص من عبور النهر من الضفة الشرقية إلى الضفة الغربية، وفي عمان وجد منزله هناك مليئًا باللاجئين الذين فروا من الضفة الغربية.

في عمان عاد عبد الرحمن إلى العمل في وزارة التربية والتعليم في نفس المنصب وفي آذار 1968 شارك في وفد زراعي أردني إلى فرنسا، كما أنه اختير عضوًا في الوفد الأردني إلى مؤتمر السلم العالمي الذي انعقد في عام 1969 في برلين الشرقية، وضم الوفد الشخصيتين الوطنيتين رئيس الحكومة الأردنية السابق سليمان النابلسي والشيخ عبدالحميد السائح

لكن سرعان ما اكفهرت الأجواء في الأردن وسرعان من انفجرت أحداث أيلول عام 1970، فوصف عبد الرحمن الوضع قائلًا "فالجثث تناثرت في الشوارع، تتجمع القطط والكلاب حولها. وتنبعث الروائح منها. وكان الناس يعمدون إلى تغطيتها ما أمكنهم ذلك".

على أثر أحداث أيلول تلقى عبد الرحمن في آذار 1971 قرارًا بالفصل من العمل وأحيل على التقاعد وهو في سن 45 سنة. والأنكى من ذلك نص القرار على منعه من العمل في الأردن وأيضًا منعه من مغادرة الأردن. لكن كونه عضوًا في نقابة المهندسين الزراعيين أهله ليحصل على وظيفة في مجمع  النقابات المهنية في عمان. ولأنه استقر في عمان ولم يعد قادرًا على العودة إلى جيبيا بسبب الاحتلال، حصل على قرض إسكان وبنى له بيتًا في ضاحية الرابية في عمان
تمكن عبد الرحمن في عام 1973 من زيارة عائلته في جيبيا بتصريح إسرائيلي للاطمئنان على والدته المريضة التي لم يمهلها المرض طويلًا فتوفيت بعد ثلاثة أشهر، فعاد إلى جيبيا للمشاركة في إكمال مراسم الدفن واستقبال المعزين. أما أخاه سليمان فلم يكن قادرًا على الوقوف إلى جانب والدته أثناء مرضها، رغم أنه لم يكن بعيدًا عن جيبيا، وروى عبد الرحمن أن سليمان "كان يعيش متخفيًا في أماكن لا تعرفها حتى عائلته الأقرب. أعني زوجته وأولاده، فالمحتل دائم البحث والسؤال عنه. ويتربص به في كل مكان. وفي كل الأوقات... لم يستطع سليمان أن يودعها في رحلتها الأخيرة. كما لم يستطع أن يكون بيننا لتلقي العزاء برحيلها". وحاول الإسرائيليون ابتزاز عبد الرحمن لكي يتعاون معهم ضد أخيه سليمان، فرفض. ورُفض طلب تقدم به للحصول على جمع شمل، فعاد إلى عمان.

في عام 1974 انتقل عبد الرحمن للعمل مع المنظمات الدولية، فحصل على وظيفة في المنظمة الدولية للتربية والعلوم والثقافة (اليونسكو)، فأسقط  قرار حظر السفر المفروض عليه، وانتقل للعمل في ليبيريا لمدة عامين مدربًا للمعلمين ضمن فريق تابع للأمم المتحدة. في عام 1976 انتقل عبد الرحمن للعمل لمدة عامين خبيرًا زراعيًا في العراق وذلك عن طريق منظمة اليونسكو أيضًا، التي نقلته إلى سيراليون، فعمل فيها عامين حتى عام 1980. فعاد إلى عمان ثم عمل في عام 1982 مرشدًا زراعيًا لفترة قصيرة في سورية

وخصص عبد الرحمن  الفصول الثلاثة الأخيرة من الكتاب للحديث عن عائلته، بنتيه سلوى ونجوى وابنيه رشيد ووليد وعائلاتهم، ثم عن أختيه رحمة ورقية زوجة  المناضل فائق وراد الذي سجن وعذب وأبعدته سلطات الاحتلال من الضفة الغربية عام 1967 لكنه عاد مع أفواج العائدين عام 1994 وأقام في بلدته بيتين إلى أن توفي في عام 2008، كما تحدث عن أخويه محمد وسليمان، حيث قدّم عبد الرحمن في هذا الفصل نبذة نادرة عن حياة أخيه سليمان الذي قال عنه أنه "قضى حياته معتقلًا سياسيًا حينًا. ومتخفيًا يؤدي مهامه النضالية في السر. استمرارًا للرسالة التي نذر نفسه من أجلها وحفاظًا على رفاقه أحيانًا. ثم سجينًا صامدًا في أقسى ظروف الاعتقال والتعذيب تحت الاحتلال. الذي ما لبث أن ضاق ذرعًا بصموده. فألقاه مبعدًا خلف حدود الوطن. ومن هناك ظلت عيناه بالمرصاد لدرب العودة. بالرغم من الأسفار المتعددة والسكنى في المدن البعيدة. إلى أن عاد إلى الوطن عام 1994".