265 عاماً على ميلاد الفنان العالمي فان كوخ: عاش بائساً وجائعاً وبيعت اللوحة الواحدة من أعماله بعشرات ملايين الدولارات نعيم ناصر

2018-03-31

265 عاماً على ميلاد الفنان العالمي فان كوخ:

عاش بائساً وجائعاً وبيعت اللوحة الواحدة من أعماله بعشرات ملايين الدولارات

نعيم ناصر

حلّت في شهر آذار (مارس) الجاري الذكرى 265 عاماً على ميلاد الفنان الهولندي العالمي "فان كوخ" الذي يُعّد من رواد المدرستين الفنيتين التشكيليتين: الإنطباعية والوحشية. وما زالت لوحاته الفنية تعرض في متحف "اورساي" بباريس، وفي متحف "فان كوخ" في امستردام بهولندا.

لم يحظ  فنان تشكيلي بالإحترام والتقدير، مثلما حظي به هذا الفنان، ولكن بعد مماته! اذ كانت حياته عبارة عن تراجيديا حزينة سوداوية انتهت بموته منتحراً بعد أن اسودت الحياة بوجه.

إن سوداوية حياته هذه دفعته إلى الإبداع والتعبير عن مكامن نفسه، وبالتالي عن مكامن النفس الإنسانية المعذبة والكادحة.

ولد "فينسنت فان كوخ" في الثلاثين من شهر آذار (مارس) 1853 في قرية "غروتزلار" الهولندية وترعرع في جو ديني بتأثير من والده وعمه القسيسين. 

وعندما بلغ السادسة عشرة من عمره شعر بميل جامح نحو الطبيعة والألوان، وراح منذ ذلك االحين يقضي الساعات الطوال في تأمل اللوحات التي كان يتاجر بها عماه الآخران.  وأخيرا استقر رأيه على ان يصبح مثلهما فانتقل إلى باريس وعمل في معرض لبيع اللوحات اسمه متجر ومعرض "أغوبي" أو "غوبيلي".  ومن خلال هذا العمل تعرف "فان كوخ" على عالم الفن وتحمس لبعض الأعمال ولبعض الفنانين، وبذل جهده في إقناع عملائه بشراء أعمال هؤلاء الفنانين، الأمر الذي دفع المعرض الذي عمل فيه إلى نقله إلى لندن ليدير فرعه هناك.

وخلال إقامته في العاصمة البريطانية وقعت عيناه على ابنة صاحبة المنزل الذي أقام فيه وتدعى "ارسولا" فأحبها، وعندما طلب منها الزواج هزأت منه وصدته في خشونة شديدة، ما جعله يصاب بما يشبه الهوس الديني، فبدلاً من أن يناقش العملاء عن جماليات اللوحات المعروضة في المعرض الذي يديره أخذ يحثهم على التمسك بالدين.

وكانت هذه أول صدمة قاسية ل "فان كوخ" وقلبه البكر فيترك لندن ويعود إلى باريس، وهناك يجد لنفسه العزاء بزيارة متاحف المدينة الفنية، ويقضي الأيام الطوال متنقلاً بين متحف "اللوفر" وحي "مونمارت" المعروف بسوق الفنانين.

وفي عام 1875 بعد أن قرأ "فان كوخ" كتب الروائيين الروسيين "دوستويفسكي" و"تولستوي" الإنسانية شعر بالتفاوت الطبقي في بلده فتألم من الظلم الإجتماعي، وقرر الإنعزال والإنخراط في سلك الرهبنة، حيث عمل واعظاً بين عمال المناجم والفلاحين في إحدى قرى بلجيكا، حيث عايش المرضى بحمى التيفوئيد، محاولاً تخفيف آلام الإحتضار للمصابين، وسهر مع الفقراء والمرضى متخطياً بذلك كل الحدود المرسومة له كمبعوث ديني، إلى نوع من الامتزاج والتوحد الكلي حيث قضى أيامه ولياليه بين هؤلاء يشاركهم الطعام والشراب، على حساب راحته ونومه .. ولم يكتف بذلك بل وزع عليهم ملابسه وأغطيته واصبح يعاني من البرد والجوع إلى الحد الذي جعل مظهره يتدهور مما زاد من تعلق هؤلاء العمال به، الأمر الذي دفع السلطات الدينية المعنية إلى طرده قبل أن يمر عام واحد على تسلمه لهذا المنصب، وذلك لعدم اقتناعها بطريقته في تطبيق التعاليم المسيحية على هذا النحو.

وبعد عودة "فان كوخ" إلى  بلدته في هولندا في العام 1881 حاول من جديد الإنخراط في المجتمع فطلب يد ابنة عمه للزواج فقابلته بالرفض. وهنا تتفاقم في نفسه العقد النفسية فيهجر قريته ويذهب إلى العاصمة  "لاهاي" للإقامة فيها وكان ذلك في العام 1882، وهناك أقام علاقة مع امرأة "بشعة" تدعى "كريستين" وهي أم لخمسة أطفال، ورسمها عارية مظهرا بشاعة تقاطيع جسمها في لوحته المعروفة بإسم "ساروه" التي تمثل خير تمثيل تدني الرغبة الجنسية عند فقدان الحب الطبيعي.

وكثر في لوحاته التي رسمها في هولندا استخدام اللونين الأحمر والأخضر.  وفي امتزاج هذين اللونين حاول أن يظهر مكامن آلام الإنسانية، وكتب لأخيه "ثيو" حينها قائلا: "حقاً انني لا أجد في نفسي إلا حباً للمعذبين الأشقياء الذين هم في الواقع أقرب المقربين من كلام الله".

وفي العام 1885 يتوفى والده فتزداد آلامه فيأخذ بالتعبير عن متاعب الحياة بلوحات خالدات مثل لوحة "دورة المساجين" و "آكلو البطاطا".  ومع ذلك اعتبر النقاد هذه الفترة من حياة وانتاج "فان كوخ" فترة انتقال بين التقليد والإبداع الشخصي.

وفي العام 1886 يعود "فان كوخ" إلى باريس، وهناك يلتقي جماعة الفنانين الإنطباعيين، من أمثال "لوترك" و "بيارو" و "سورا" و"غوغان"، ويتأثر بالرسوم اليابانية الإنطباعية، ويعود التفاؤل والحبور إلى نفسه. ولكن حب العزلة الذي كان يهيمن على نفسه دفعه إلى الإنعزال في بلدة "آرل" الواقعة في مقاطعة "بروفانس" في جنوب فرنسا، ويستقر فيها اعتباراً من شهر شباط (فبراير) عام 1888، حيث الشمس الساطعة طوال النهار والألوان المتوهجة.

في تلك البلدة (آرل) اعتقد فان كوخ أنه وجد السعادة المنشودة، فعمل بلا انقطاع متأثراً بجمال الطبيعة، معبراً عن سعادته باللون الأصفر الذي سيطر على أكثر لوحاته في تلك الفترة.  وكتب إلى اخيه يقول: "انني بدلاً من محاولة نقل الطبيعة بأمانة استخدمت الألوان بحرية ودون تقييد من أجل التعبير عن نفسي تعبيراً قوياً".

وفي العام نفسه (1888) اتفق "فان كوخ" مع الرسام المعروف "غوغان" على إنشاء رابطة للفنانين، فيأتيه الأخير الى "آرل" حيث يقيم "فان كوخ"، ولكن اللقاء بينهما لم يدم طويلا، حيث احتدمت المناقشات واتسع الخلاف في الرأي بينهما، بعد أن سخر "غوغان" من فكرة إنشاء رابطة للفنانين، عندئذ قذف "فان كوخ" محتويات كأسه من النبيذ في وجه "غوغان" ثم اغمي عليه، فحمله صديقه "غوغان" من المقهى الذي تواجدا فيه إلى المنزل وأرقده في الفراش.  وعندما أفاق في الصباح ندم "فان كوخ" وطلب من زميله الصفح، ولكنهما ما لبثا أن عادا إلى الشجار واشتد غضب "فان كوخ" منه لدرجة أنه اصيب بانهيار عصبي شديد فلحق بصديقه وبيده موس حلاقة وفي عينيه يحتدم الشرر، ويلتفت "غوغان" خلفه فيرى "فان كوخ" بهذا الوضع الصعب فتعامل معه برفق وهدوء، وفجأة يعود "فان كوخ" إلى صوابه ويشعر بندمه، وبمدى تماديه على صديقه، فيصاب بالوجوم والحزن الشديدين، وينظر إلى يده التي تحمل الموس ويوجهها إلى اذنه ويبترها على الفور ويلفها بمنديل ويبعث بها إلى إحدى الغانيات التي كان تعرف عليها في أحد البارات وطلبت منه أن يهديها أذنه خلال احدى مداعباتها له.  وعندما عاد إلى منزله اغمي عليه ولم يفق إلا في المستشفى. 

وعندما استرد صحته طاردته أنظار أهل بلدة "آرل" وصيحات وهزءأطفالها فانهارت أعصابه، ولم يجد أخوه بّدا من نقله إلى مستشفى للأمراض العقلية بالقرب من البلدة المذكورة، التي مكث فيها عاماً، وسمح له خلالها بالرسم، فظهر في لوحاته في تلك المرحلة شيء من عنف نوبات الصرع التي كانت تنتابه بين فترة وأخرى.  وعندما نجح أخوه في بيع احدى لوحاته بمبلغ 400 فرنك فرنسي نقله إلى مصحة خاصة قرب باريس للإستشفاء فيها.  ولكن نوبات الصرع راحت تتوالى لديه بانتظام فسئم الحياة، فخرج إلى حقل مجاور وأطلق على نفسه الرصاص، ولكنه لم يمت على الفور، حيث نقله أخوه إلى مستشفى قريب، وما لبث أن مات فيها بعد يومين، وهو لم يتجاوز السابعة والثلاثين من عمره، بعد أن رسم أكثر من 700 لوحة.

وقائع لغز "جنون" فان كوخ

في السابع والعشرين من شهر تموز (يوليو) 1890  دلف "فان كوخ" إلى حقل للقمح يقع خلف بيت ريفي ضخم في قرية "أوفير شيرواز" الواقعة على بعد بضعة أميال إلى الشمال من باريس. وهناك أطلق النار على صدره، وذلك بعد 18 شهراً من معاناته من اضطرابات نفسية وعقلية، منذ أن بتر أذنه اليسرى بموس في احدى ليالي شهر كانون أول (ديسمبر) 1888 عندما كان يعيش في بلدة "آرل" الفرنسية.

وفي أعقاب هذا الحادث المؤلم الذي انطوى على ايذاء للنفس، ظل "فان كوخ" يعاني من نوبات صرع متفرقة ومنهكة، كانت كل منها تصيبه بالتشوش وعدم القدرة على التعبير عن نفسه بشكل مترابط لأيام وحتى لأسابيع.  ورغم ذلك فقد نعم بين هذه الأزمات الصحية بفترات من الهدوء ووضوح الفكر، تسنى له خلالها مواصلة الرسم.

وكان "فان كوخ" وصل إلى قرية "اوفيل" في شهر أيار (مايو) 1890 بعد مغادرته لاحدى المصحات الصحية النفسية الواقعة على مشارف منطقة "ساريميه دويدوفانس" شمال شرقي بلدة "آرل".

وكانت فترة إقامته في تلك القرية هي الأخصب على مدار سيرته الفنية.  ففي غضون 70 يوماً انهى رسم 75 لوحة بالفرشاة والألوان السائلة، وأكثر من مئة لوحة رسمها بالقلم أو بالفحم.

ورغم ذلك فقد انتابه شعور متزايد بالوحدة والقلق، وبات على قناعة بأن حياته ليست سوى فشل.  وفي نهاية المطاف نجح في الحصول على مسدس صغير الحجم يعود إلى صاحب المنزل الذي كان يقيم فيه في قرية "اوفير". وكان السلاح نفسه الذي أخذه معه حينما توجه إلى الحقول، بعد ظهر ذلك الأحد الدامي في أواخر شهر تموز (يوليو) 1890.  ولم يكن هذا السلاح سوى مسدس صغير الحجم للغاية بدائي الصنع، ولذا عندما ضغط على الزناد انطلقت رصاصة سرعان ما ارتدت اثر اصابتها بأحد ضلوعه دون أن تخترق قلبه. 

ورغم ذلك، فقد " فان كوخ" الوعي وانهار على الأرض.  وعندما حل المساء عاد أدراجه وبحث عن المسدس للإجهاز على نفسه، وبعدما فشل في العثور عليه عاد مترنحاً إلى حانة القرية، حيث استدعي طبيب لفحصه، كما استدعي شقيقه "ثيو" الذي كان يحبه كثيراً، والذي وصل في اليوم التالي لفترة وجيزة، حيث اعتقد أن شقيقه سيسترد قواه، لكن في النهاية لم يستطع فعل شيء له، وفارق الرسام الشهير الحياة في الليلة نفسها، وهو في السابعة والثلاثين من عمره.

وكتب "ثيو" لزوجته تفاصيل اللحظات الأخيرة في عمر شقيقه قائلا: " ظللت إلى جواره حتى انتهى كل شيء، وكان من بين آخر ما قاله: "هذه هي الشاكلة التي أردت أن امضي بها".  ثم لم تمض ثوان قليلة حتى انتهى الأمر، ووجد السلام الذي لم يتسنى له العثور عليه على الأرض".

عاش محروما من الحب

لم يشعر هذا الفنان المبدع والتعس في الوقت نفسه طيلة حياته بمن يبادله الحب الصادق، فقد عاش تعيساً وانتحر بعد أن أصيب بنوبات جنونية رهيبة كان من أبرز دوافعها الفشل، لذا فقد أراد أن يعاقب نفسه على محاولة قتل صديقه "غوغان" كسبب مباشر، وعلى سلسلة الفشل التي رافقت حياته كسبب غير مباشر.  فلقد فشل في حبه، ولم ينجح في بيع انتاجه الفني، فهو لم يبع طيلة حياته من لوحاته سوى النزر القليل، وحتى تلك التي كان قد أهداها إلى أصدقائه لم تلق آنذاك عندهم التقدير المنشود.  هذا الفشل الذي رافق حياة الفنان القصيرة، وتلك العزلة التي كانت قد انطبعت عليها نفسه المشتتة، وذاك الألم الذي سببته له محاولة قتل صديقه "غوغان"، كلها دوافع قوية أسهمت في اقدامه على الإنتحار.

لقد مات "فان كوخ" بعد أن كان فشله نصراً للفن وكنزاً ثميناً.  فالألم الذي كان يلهب أحشاء هذا الفنان المبدع كان في الوقت نفسه السبب القوي لتلك التعابير الانطباعية التي تجسدت في لوحاته الخالدات شقاء المعذبين وتعاسة البسطاء الكادحين الذين أحبهم "فان كوخ".

لقد مات "فان كوخ" معدماً هزيلاً ومريضاً بعد أن طارده المرض وقذف به إلى مصحات نفسية وعقلية .. مات ثم تذكره العالم بعد حين وسجل اسمه في قائمة الخالدين .. مات وبيعت كل لوحة من أعماله بعشرات ملايين الدولارات، وهو الذي كان يعيش أياما بأكملها على رغيف خبز واحد.