الذكرى المئوية لثورة أكتوبر (الحلقة التاسعة) الاتحاد السوفييتي في عهد بريجنيف د. ماهر الشريف

2018-01-17

الذكرى المئوية لثورة أكتوبر

(الحلقة  التاسعة)

 الاتحاد السوفييتي في عهد بريجنيف

د. ماهر الشريف

بعد  الاستقالة التي فُرضت على نيكيتا خروتشوف، في تشرين الأول 1964، برزت قيادة ثلاثية في الاتحاد السوفييتي، ضمت كلاً من ليونيد بريجنيف الذي انتخب سكرتيراً  أول للجنة المركزية للحزب الشيوعي في الاتحاد السوفييتي، ونيكولا بودغورني الذي انتخب سكرتيراً ثانياً للجنة المركزية للحزب الشيوعي، قبل أن يصبح، في العام التالي، رئيساً لهيئة رئاسة  مجلس السوفييت الأعلى حتى سنة 1977، وألكسي كوسيغين عضو هيئة رئاسة اللجنة  المركزية للحزب الشيوعي الذي تسلّم منصب رئيس الوزراء وبقي يشغل هذا المنصب حتى سنة 1979.

قيادة الحزب الشيوعي في الاتحاد السوفييتي بعد خروتشوف

ولد ليونيد بريجنيف في سنة 1906 في عائلة متواضعة اجتماعياً، ودرس في معهد زراعي قبل أن يتحوّل نحو معهد مهني للمعادن، وشغل مناصب مهمة في لجان الحزب المنطقية، قبل أن يصبح مفوضاً سياسياً خلال سنوات الحرب العالمية الثانية ثم قائداً سياسياً لإحدى جبهات المعارك برتبة عميد. وبعد انتهاء الحرب، انتقل بقرار من قيادة الحزب الشيوعي في الاتحاد السوفييتي إلى  جمهورية  مولدافيا، ثم انتخب، في سنة 1952 باقتراح من ستالين، عضواً احتياطياً في هيئة رئاسة اللجنة المركزية للحزب الشيوعي في الاتحاد السوفييتي وسكرتيراً للجنة المركزية. وما بين 1954 و 1956، أصبح سكرتيراً للحزب الشيوعي في كازاخستان، ثم انتخب في سنة 1957 عضواً عاملاً في هيئة رئاسة اللجنة المركزية للحزب الشيوعي، وشغل ما بين 1960 و 1964، منصب رئيس هيئة رئاسة مجلس السوفييت الأعلى.

وولد نيكولاي  بودغورني في سنة 1903، وتدرج في المناصب الحكومية والحزبية في جمهورية أوكرانيا، إذ شغل منصب وزير إنتاج المواد الغذائية وسكرتير الحزب الشيوعي، وانتخب في سنة 1952 عضواً في اللجنة المركزية للحزب الشيوعي في الاتحاد السوفييتي، ثم عضواً احتياطياً في هيئة رئاسة اللجنة المركزية في سنة 1956، وعضواً عاملاً في سنة 1960.

أما ألكسي كوسيغين، فقد ولد في سنة 1904، وانتخب منذ سنة 1939 عضواً في اللجنة المركزية للحزب الشيوعي في الاتحاد السوفييتي ووزيراً لصناعة النسيج. ولعب دوراً بارزاً  خلال الحرب العالمية الثانية، وأصبح عضواً احتياطياً في المكتب السياسي للحزب الشيوعي في الاتحاد السوفييتي في سنة 1946 وعضواً عاملاً في سنة 1948. وبعد وفاة ستالين في سنة 1953، استبعد من عضوية هيئة رئاسة اللجنة المركزية للحزب الشيوعي في الاتحاد السوفييتي، ثم عاد وشغل منصب عضو احتياط فيها  في سنة 1957 ثم عضو عامل في سنة 1960.

وإلى جانب هذا الثلاثي القيادي، لعب ميخائيل سوسلوف دوراً متميزاً في قيادة الحزب الشيوعي في الاتحاد السوفييتي، بصفته مسؤولاً عن الدائرة الإيديولوجية في الحزب، وهو الموقع الذي بقي يشغله حتى وفاته في سنة 1981.

وتقرر في المؤتمر الثالث والعشرين للحزب الشيوعي في الاتحاد السوفييتي، الذي عقد في أواخر آذار 1966، العودة إلى صيغة المكتب السياسي بدلاً من هيئة رئاسة اللجنة المركزية، وإلى منصب السكرتير العام بدلاً من السكرتير الأول، فأصبح برجنيف سكرتيراً عاماً وفقد بودغورني منصبه كسكرتير ثانٍ. وانتخب ذلك المؤتمر 11 عضواً في سكرتارية اللجنة المركزية للحزب الشيوعي، كان من ضمنهم  يوري أندروبوف، الذي تسلّم في سنة 1967 رئاسة  جهاز أمن الدولة (الـ  كي. جي. بي.)، ثم أصبح  في سنة 1973عضواً  كامل العضوية في المكتب السياسي للحزب الشيوعي، إلى جانب وزير الخارجية أندريه غروميكو. وفي المؤتمر الخامس والعشرين للحزب الشيوعي، الذي انعقد في سنة 1976، انتخب قسطنطين تشيرنينكو، المقرّب من ليونيد  بريجنيف، عضواً في سكرتارية اللجنة المركزية. ثم انضم، في تشرين الثاني 1978، عضو جديد إلى سكرتارية اللجنة المركزية للاهتمام بشؤون الزراعة هو ميخائيل غورباتشوف، وكان عمره 47 عاماً.

السياسة الاقتصادية: إخفاق الإصلاح وركود الاقتصاد

في اجتماعها الموسع المنعقد في أيلول 1965، تبنت  اللجنة المركزية للحزب الشيوعي في الاتحاد السوفييتي، بمبادرة من ألكسي كوسيغين،  خطة للإصلاح الاقتصادي عبّر عنها مرسومان أقرا في 4 تشرين الأول 1965: الأول حول  "تحسين التخطيط وتعزيز التحفيز الاقتصادي للإنتاج"، والثاني حول " منشآة الدولة الإنتاجية الاشتراكية". واستهدف هذان المرسومان توسيع حيز الاستقلالية المالية للمنشآت الإنتاجية  وحسبان مردودها الحقيقي، بما يضمن قيام رابط  بين التكلفة والمردود ويحول دون استمرار الهدر، وذلك بالتوازي مع  خلق اهتمام  لدى العاملين بنتائج عملهم من خلال منحهم  حوافز مادية واجتماعية  مقتطعة من الأرباح التي تجنيها المنشآة، وهي حوافز كان من المفترض  أن تزداد  كلما تبنت المنشآة بصورة مسبقة خطة إنتاجية  تتجاوز نتائجها ما هو وارد في الخطة الخمسية المركزية. وجرى تقسيم صندوق تحفيز الإنتاج  إلى ثلاثة أقسام:  قسم الحوافز المادية  الفردية، وقسم التدابير الاجتماعية الهادفة إلى تأمين مساكن جديدة في المقام الأول، وقسم التمويل الذاتي لتشجيع إدخال التكنولوجيات الحديثة إلى المنشآة.

بيد أن تطبيق هذا الإصلاح الاقتصادي واجه عراقيل  عديدة، نجمت عن صعوبة التوفيق بين استقلالية المنشآة الإنتاجية  وبين دور الوزارات المركزية المختصة، إذ بقيت قطاعات حاسمة من حياة المنشآة خاضعة للتخطيط المركزي، وبقيت العلاقات بين المنشآت الإنتاجية مفقودة وكان عليها أن تمر عبر وزارة مركزية. كما برزت صعوبة  التوفيق بين استقلالية المنشآة الإنتاجية وبين دور لجنة الدولة المركزية للتوريد، وهو دور كان يحد من حرية المنشآة في اختيار مورديها وزبائنها. ومن ناحية أخرى، واجهت سياسة زيادة الحوافز المادية والاجتماعية تعقيدات  نجمت عن ضعف الحوافز المادية  الفردية المقرة  التي لم تتجاوز 3 في المئة من أجر العامل، كما لم يكن في الإمكان اللجوء بسهولة  إلى الحوافز الاجتماعية، إذ لم يرد في الخطة الخمسية المركزية  مثلاً  بند يضمن  توفير مواد  لبناء مساكن جديدة  للعاملين. 

وقد كشفت تناقضات خطة الإصلاح الاقتصادي هذه وجود خلافات شديدة بين تيار يقوده ليونيد  بريجنيف ويريد عدم المس بدور النظام السياسي-الإداري المعهود في تشغيل الاقتصاد، وبين تيار يقوده ألكسي كوسيغين ويطمح إلى خلق  شكل من أشكال اللامركزية الاقتصادية. والواقع، أن الشروط السياسية لنجاح هذا الإصلاح الاقتصادي لم تكن  متوافرة. ففي الخطاب الذي ألقاه أمام الاجتماع الموسع للجنة المركزية للحزب الشيوعي، ونشرته "البرافدا" في 30 أيلول 1965، شدّد بريجنيف على أهمية الحفاظ على هيمنة الحزب الشيوعي على جميع ميادين الاقتصاد. وحتى مطلع  سنوات السبعينيات، بقي الخلاف كامناً بين بريجنيف، الذي أعطى الأولوية للزراعة، والصناعة الثقيلة، والدفاع، وكوسيغين، الذي أعطى الأولوية للصناعة الخفيفة باعتبارها قاعدة تطوير استهلاك المواطنين. وساهمت الأزمة التشيكوسلوفاكية في سنة 1968، التي استدعت التفكير في  العلاقة  بين الإصلاح الاقتصادي الذي يركّز على تشجع الاستهلاك وبين أزمة النظام السياسي على النمط السوفيتي، من جهة، وتوسع التدخل العسكري الأميركي في فيتنام في الفترة نفسها، الذي نظر إليه القادة السوفييت بصفته  يمثل تهديداً جدياً، من جهة ثانية، في تغليب الآراء الاقتصادية "المحافظة" التي تبناها بريجنيف، مدعوماً من الجيش ومن المجمع العسكري-الصناعي، الذي انتخب المسؤول عنه ديمتري أوستينوف  في المؤتمر الثالث والعشرين للحزب الشيوعي في سنة 1966 عضواً في سكرتارية اللجنة المركزية للحزب الشيوعي في الاتحاد السوفييتي وعضواً احتياطياً في المكتب السياسي.

وبدأ الاقتصاد السوفييتي يشهد  تراجعاً  على المستوى النوعي  منذ  أواخر الستينيات بسبب فشل الإصلاح الاقتصادي الذي اقتُرح في سنة 1965، إذ عجز هذا الاقتصاد عن إطلاق دينامية كافية لاستيعاب التكنولوجيات الحديثة. من الصحيح أن الإنتاج  العام  نما بنحو 50  في المئة خلال سنوات الخطة الخمسية الثامنة (1966-1970)، التي عرضها كوسيغين أمام مندوبي المؤتمر الثالث والعشرين للحزب الشيوعي في آذار 1966، إلا أن نوعية  الإنتاج،  وخصوصاً في مجال إنتاج مواد الاستهلاك، لم تشهد تحسناً، جراء  ضعف الصيانة الذي عانت منه وسائل الإنتاج، وسوء الطرق، ونقص وسائل النقل، وبطء قطارات  السكك الحديدية.

وقد اعترف ليونيد برجينيف، في تقريره أمام مندوبي المؤتمر الرابع والعشرين للحزب الشيوعي في الاتحاد السوفييتي في آذار 1971، بعدم تحقيق الأهداف الاقتصادية الطموحة التي وضعها الحزب الشيوعي وشدد على الصعوبات التي يواجهها الاقتصاد السوفييتي، لكن من دون أن يقترح حلولاً.

واعتباراً من منتصف سنوات السبعينيات، دخل الاقتصاد السوفييتي في أزمة، تمثّلت في انخفاض معدلات نمو الإنتاج الصناعي والزراعي، وانخفاض معدلات الإنتاجية ومعدلات الاستثمارات، وغياب المبادرة الفردية، وتناقص احتياطات القوى العاملة. فما بين 1971 و 1975، كان هناك في سوق العمل 6 ملايين و 300 ألف عامل، بينما لم يتعد عددهم  4 ملايين و 600 ألف عامل ما بين 1976 و 1980. واتخذ  نقص القوى العاملة أبعاداً خطيرة في القطاع الزراعي، إذ لم تنجح الدولة في تحفيز الشبان على العمل في هذا القطاع، وذلك على الرغم من قيامها بمنح  الكولخوزيين في المزارع التعاونية الحقوق الاجتماعية نفسها الممنوحة لعمال الصناعة في مجالات التقاعد، والحد الأدنى للأجر، والإجازات المدفوعة، والضمان الاجتماعي.

وبرز تراجع نمو الاقتصاد السوفييتي بصورة واضحة خلال الخطة الخمسية التاسعة (1971-1975). وكان القطاعان الأكثر تأثراً بهذا التراجع القطاع الزراعي وقطاع صناعة المواد الاستهلاكية. أما الصناعة الثقيلة فقد استمرت في النمو، وخصوصاً في قطاع صناعة الأسلحة، إذ استوعب المجمع الصناعي-العسكري القوى العاملة الأكثر تأهيلاً وثلث المعدات الحديثة، واستحوذت النفقات العسكرية على 20 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي وأكثر من 35 في المئة من الميزانية الحقيقية للبلاد.

وكانت الزيادة الكبيرة التي طرأت على  عائدات الاتحاد السوفييتي المالية من تصدير النفط، عقب حرب تشرين الأول 1973 العربية - الإسرائيلية، قد  ساهمت في حجب  الصعوبات  والمشكلات التي كان يواجهها الاقتصاد السوفييتي. وجاءت الخطة الخمسية العاشرة (1976-1980)، التي أقرها المؤتمر الخامس والعشرون للحزب  الشيوعي في شباط 1976، لتؤكد الانعطاف الذي انطلق في سنة 1972-1973 نحو التركيز على الصناعة الثقيلة، والدفاع، والزراعة، وإحياء أراضي سيبيريا.

وكان هدف هذه التوجهات، في ظل بيئة دولية مؤاتية  لمنتجي الطاقة ومصدريها، توفير إمكانات مادية تسمح للاتحاد السوفييتي ، في ظل سياسة الوفاق الدولي، باستيراد الآلات الحديثة والتكنولوجيات المتقدمة من الدول الغربية على نطاق واسع. بيد أن هذه  الخطة الخمسية العاشرة عجزت، كسابقتها، عن تحقيق النمو الاقتصادي المرجو، وذلك جراء  استمرار التراجع في معدلات  إنتاجية العمل، واختناق وسائل النقل، وتفاقم ظاهرة استهلاك الكحول، وانتشار ظاهرة الفساد، الذي  طاولت شبهاته ابنة بريجنيف نفسه وصهره، وتشكّل شبكات مافيوية في بعض الجمهوريات، وخصوصاً في  أذربيجان وكازاخستان وأوزبكستان. ومن ناحية أخرى، وعوضاً عن نفخ روح جديدة في إصلاح سنة 1965 الاقتصادي، صدر مرسوم في 12 تموز 1979 يعزز وصاية الإدارات المركزية على المنشآت الإنتاجية.

وظل القطاع الزراعي هو القطاع الأكثر هشاشة في الاقتصاد السوفييتي في عهد ليونيد بريجينف. ولم تكن المحاصيل الزراعية التسعة  السيئة التي عرفها الاتحاد السوفييتي، ما بين مطلع السبعينيات وأواسط الثمانينيات، ناجمة عن الظروف المناخية القاسية فحسب، بل كان تردي الإنتاج الزراعي يعود إلى عوامل أخرى، مثل عظم  الخسائر المرتبطة بظروف التخزين والنقل السيئة، التي بلغت نسبة 5، 13 في المئة من مجموع الإنتاج الزراعي في سنوات 1976-1980، وفرض زراعات  بواسطة طرائق إدارية في مناطق قليلة السكان، كما في سيبيريا مثلاً، وهو ما ولّد اختلالات خطيرة على مستوى القوى العاملة والتنظيم اللوجستي.

والواقع أن ليونيد بريجنيف، ورفاقه في قيادة الحزب الشيوعي في الاتحاد السوفييتي، سعوا إلى توظيف استثمارات كبيرة في الزراعة، تجاوزت في بعض السنوات نسبة 20 في المئة من مجموع الاستثمارات. بيد أن النتائج بقيت متواضعة، وهو ما دفع الحكومة إلى البحث في طبيعة بنى الزراعة، وخصوصاً مسألة "الاستثمارات الإضافية الفردية" المسموح بها  للكولخوزيين، وإلى إزالة بعض العراقيل التي كانت تحول دون تطوير هذه الاستثمارات الفردية، ومضاعفة مساحتها، وإلى منح الكولخوزيين تسهيلات جديدة للحصول على قروض لشراء الآلات الحديثة، الأمر الذي شجع الاستثمار الزراعي الخاص، الذي تراوحت مساهمته في بعض السنوات ما بين 25 إلى 30 في المئة في مجال إنتاج اللحوم، والحليب، والبيض والصوف. بيد أن السلطات الإدارية والحزبية  المحلية في المناطق ظلت، كما في الماضي، تضع العراقيل أمام هذا الاستثمار الزراعي الفردي، آملة بأن تجبر الكولخوزيين بذلك على العمل أكثر في المزارع الجماعية.

واعتباراَ من 1977-1978، قررت الحكومة تشكيل "وحدات إنتاجية" تتخصص في الإنتاج، وتتشكّل من كولخوزات وسوفخوزات ومنشآت للصناعة الغذائية ومختبرات أبحاث. كما قررت في  سنة 1982، تشكيل  مجمعات صناعية-زراعية على مستوى المنطقة .بيد أن كل هذه الإجراءات "الإصلاحية" لم تفلح في حل مشكلات الزراعة وتحسين مردودها ورفع معدلات نموها، بل أفضت  البنى الإدارية الجديدة التي خلقت إلى زيادة ثقل التسيير البيروقراطي للقطاع الزراعي. وظلت البلاد مضطرة إلى استيراد كميات كبيرة من الحبوب، وخصوصاً من الولايات المتحدة الأميركية، بلغت وسطياً نحو 40 مليون طن من القمح في السنة  خلال سنوات 1979-1984.

ويجمل تقرير نشر بعد وفاة ليونيد بريجنيف النتائج التي تحققت، والصعوبات التي برزت في عهده، ما بين 1964 و 1982، على النحو التالي:

تحقق نمو كبير ومهم  لقدرات البلاد العسكرية وتعاظم حجم  منتجات الصناعات الكبرى الرئيسية، بحيث صار الاتحاد السوفييتي في مطلع الثمانينيات يعادل الولايات المتحدة الأميركية، أو حتى يتفوق عليها، في حجم إنتاج بعض هذه الصناعات. وفي المقابل، برز تباطؤ مستمر لنمو الاقتصاد السوفييتي، بحيث تراجع من 2، 5 في المئة في سنوات 1966-1970 إلى 7، 3 في المئة خلال 1971-1975، ثم إلى 7، 2 في المئة خلال 1976-1980، وإلى 2 في المئة ما بين 1980-1982. كما برز تباطؤ   في مسار  تحسن مستوى معيشة المواطنين،  إذ تراجع مستوى استهلاك الفرد الوسطي من 3، 4 في المئة سنوياً خلال 1966-1970 ليصل إلى 2، 1 في المئة بحسب تقديرات 1980-1982. كما برز عجز عن  تحقيق  نمو مناسب للإنتاج الزراعي وتراجع في مستوى إنتاجية الزراعة، إذ صار حجم محصول القمح ينقص، منذ سنة 1972، عن المتوقع وعن حاجات السكان بصورة مستمرة، بحيث مثّل  إنتاج الحبوب الإخفاق الأبرز لعهد بريجنيف (أورده نيكولا، ريازانوفسكي، تاريخ روسيا من الأصول إلى أيامنا، ص 600-602).

وأخيراً، فقد مثّل الاقتصاد"الموازي"، المستند في الأساس إلى العمل "الأسود" مصدراً مهماً للدخل، عوّض، إلى حد ما، ضعف الاقتصاد في مجال الخدمات (تصليح سيارات، تجديد وترميم المنازل، خدمات صحية) وفي مجال التوزيع (مبيع سيارات مستعملة، مبيع ألبسة مستوردة). وبحسب بعض التقديرات، كانت نسبة العمال والمستخدمين والكولخوزيين الذين يقومون بنشاط اقتصادي مواز في مطلع الستينيات 10 في المئة من مجموع العاملين، وارتفعت هذه النسبة لتصل إلى 20 في المئة في الثمانينيات، أي نحو 30 مليوناً.

تحسن مستوى معيشة المواطنين وانعكاساته

إن بروز تباطؤ في مسار  تحسن مستوى معيشة المواطنين السوفييت، في مطلع الثمانينيات، لا ينفي حقيقة أنه صار يطرأ، اعتباراً من منتصف الستينيات، تحسن ملموس على مستوى معيشتهم، نجم عن ارتفاع الأجور وتطور الاستهلاك. فالمواطن السوفييتي صار يمتلك، بصورة أفضل  كثيراً  من السابق، وسائل الرفاه المنزلي من أدوات كهربائية متنوعة، لكن المواد الغذائية التي كان يستهلكها ظلت تفتقد التنوع عموماً. ومن ناحية أخرى، ازدادت سنوات الدراسة وتزايدت نسبة المتخصصين الذين أنهوا دراساتهم في المعاهد المهنية وفي الجامعات، والذين وصلت نسبتهم في مطلع الثمانينيات إلى 40 في المئة من مجموع سكان المدن. وصارت المناطق الغربية في الاتحاد السوفييتي، كدول البلطيق وأوكرانيا أو روسيا الأوروبية، تقترب في بعض المؤشرات  من الدول الأوروبية المجاورة: نسبة  متدنية من الولادات؛ ارتفاع معدلات الإجهاض، ارتفاع معدلات الانتحار، تطور مأساوي لظاهرة استهلاك الكحول، فضاء ريفي مهمل، ازدهار الفئات الوسطى، مستوى تمدين مرتفع وحراك  يميز المناطق المصنعة. أما وضعية مناطق آسيا الوسطى، فكانت تشبه وضعية الدول النامية في الشرق الأوسط على الصعيد الديموغرافي: معدلات ولادة عالية؛ معدلات وفيات أطفال مرتفعة؛ ارتفاع نسبة الفئة العمرية الشابة بين السكان؛ كثافة سكانية عالية في المناطق الزراعية، التي لم تشهد حركة هجرة واسعة من الريف إلى المدينة؛ الحفاظ على نمط حياة تقليدي، دون تجاهل ولادة نخب محلية في المدن تمت "روسنتها" إلى حد كبير. أما دول القفقاس، مثل جورجيا وأرمينيا، وكذلك كازاخستان، فكانت تشكّل فضاءات وسيطة، على مستوى السلوك الديموغرافي وعلى مستوى نمط الحياة.

التحولات الاجتماعية والثقافية

شهد المجتمع السوفييتي تحولات كبيرة ما بين 1965 و 1985 جعلته يتحوّل بصورة عميقة. وأول هذه التحولات التي تركت تأثيرها على الاقتصاد  تباطؤ النمو الديموغرافي، الناجم عن تدني معدل الولادات بـ 7 نقاط  وتزايد معدل الوفيات بـ 3 نقاط  بين 1960 ونهاية السبعينيات. وكان هذا التباطؤ ملموساً بصورة جلية وسط السكان من أصول سلافية، وهي  ظاهرة ترافقت بتناقص احتياطي السكان القادرين على العمل الذين طرأ تغير على توزعهم على القطاعات الاقتصادية، بحيث زاد عددهم في قطاع الخدمات وتناقص في القطاع الزراعي. أما التحوّل الاجتماعي الكبير الثاني، فتمثّل في تزايد عدد سكان المدن وارتفاع مستوى التعليم. فخلال عشرين عاماً، ارتفع عدد سكان المدن من 49 في المئة إلى 66 في المئة من مجموع السكان الإجمالي. وفي مطلع الثمانينيات، وصل عدد ساكني المدن إلى 180 مليوناً من السوفييت.  وكان 40 في المئة من هؤلاء السكان قد أنهوا  دراساتهم الثانوية "التخصصية" أو دراساتهم العليا، وهو ما غيّر مفهوم "الأنتلجنسيا" التي لم تعد تتطبع بطابع نخبوي بل صارت كتلة بشرية واسعة مشكلة من تقنيين، وإداريين، وأكاديميين، وعلماء، ومربين، وفنانين، وسياسيين، وصحافيين.

لقد خلق نمو المدن وتزايد عدد سكانها وارتفاع مستوى التعليم  نسقاً اجتماعياً أكثر تعقيداً، مكوّناً من "عوالم صغيرة" و"فضاءات مستقلة"، تتمثّل في جماعات شبابية وجمعيات مهنية ومؤسسات اجتماعية، تمتلك ثقافتها الخاصة وتطمح إلى إسماع صوتها ومطالبها. وكانت الحياة الثقافية هي المعبر عن هذه التظاهرات العفوية الأولى لـ"رأي عام"  ولـ "مجتمع مدني جنيني". إذ برزت ظاهرة "النشر الذاتي"، أي إنتاج أعمال أدبية وفنية وتوزيعها بصورة غير شرعية بعيداً عن الاتحادات الرسمية للكتاب والفنانين، وولادة "ثقافة" جديدة على هامش الثقافة الرسمية، عبّرت عنها ظواهر مثل ميل الشباب نحو ثقافة "الروك" أو"البوب"، وتشكّل مراكز للتفكير في المسائل البيئية والاجتماعية. وقد استفادت هذه "العوالم" و"الفضاءات" المستقلة من سماح السلطات السوفيتية للمثقفين، حتى نهاية السبعينيات، بالتمتع بحيز من الاستقلالية إزاء السلطة، وقيامها  بتخفيف القيود المفروضة على سفر السياح الأجانب إلى الاتحاد السوفييتي وعلى سفر المواطنين السوفييت إلى الخارج، وتشجيع التبادلات الثقافية مع الدول الغربية  في مجالات التعليم العالي والبحث العلمي والفنون والرياضة. كما استفادت من التوجهات الجديدة التي نص عليها الدستور الجديد للاتحاد السوفييتي المقر في سنة 1977.

دستور 1977 والسعي إلى تعزيز المشاركة الشعبية

فقد ضمن دستور 1977، الذي حلّ محل دستور 1936، جميع الحريات الفردية والجماعية،  كحرية التعبير، والصحافة، والتجمع، والتظاهر، وعدم انتهاك حرمة  شخصية الإنسان، ومسكنه، ومراسلاته، ولكن بما يضمن "مصلحة الشعب ويعزز النظام الاشتراكي"، و"بما يتوافق مع أهداف بناء الشيوعية". وسعى الدستور الجديد، من ناحية أخرى، إلى تمكين الجمهوريات الاتحادية وذات الحكم الذاتي من التحكم  ببعض المجالات الاقتصادية والاجتماعية، ولكن في ظل إدارة الوزارات المركزية. وبقيت اللغة الروسية هي اللغة المهيمنة وهي لغة تملك الثقافة العالمية، علماً بأنه برزت  مقاومة قوية لهذا التوجه في جمهوريات البلطيق وفي مولدافيا وفي جمهوريات آسيا الوسطى وفي القفقاس.

وفي الدستور الجديد، تخلى زعماء الحزب الشيوعي في الاتحاد السوفييتي عن وهم الانتقال القريب إلى الشيوعية، وتبنوا  مفهوماً جديداً هو مفهوم  "الاشتراكية المتطورة" القائمة على تحديث الاقتصاد السوفييتي وزيادة دور المنظمات الاجتماعية، كما تخلوا عن فكرة تحلل الدولة وتبنوا مفهوم "دولة كل الشعب" عوضاً عن مفهوم "ديكتاتورية البروليتاريا". وعلى الرغم من استمرار تأكيد الدستور الجديد على دور الحزب الشيوعي -الذي اقترب عدد أعضائه في نهاية السبعينيات من  17 مليوناً- بصفته "القوة القائدة والموجهة للمجتمع السوفييتي ونواة النظام السياسي والدولة وجميع المنظمات الاجتماعية"، فإنه  أبرز  أهمية "المشاركة الاجتماعية" واحترام  مبدأ "التسيير الذاتي الشيوعي" عبر تطوير "الديمقراطية المباشرة"، بحيث "تساهم تجمعات العمال في نقاش وحل شؤون الدولة وشؤون المجتمع". واستناداً إلى هذه التوجهات، استعادت مجالس  السوفييتات المحلية، التي ازداد عددها من 3061 إلى 3598 ما بين 1961 و 1975، دورها في تسيير الحياة اليومية، وبلغ عدد أعضائها المنتخبين باسم "نواب الشعب"، في سنة 1980، 2270000. وكانت الانتخابات تعبئ نحو 20 مليوناً من المواطنين في عملية تنظيمها، وشجعت السلطات المركزية مشاركة المواطنين في الرقابة على المنشآت والإدارات عبر "الرقابة الشعبية"، وأنشئت لهذا الغرض شبكة واسعة من اللجان بلغ عددها نحو 250000 لجنة مشكّلة من أعضاء في الحزب الشيوعي، من جهة، ومن متطوعين مختارين لا ينتمون بالضرورة إلى الحزب الشيوعي من جهة ثانية. وقد حفز هذا الشكل من الرقابة نوعاً من المشاركة الطوعية، التي لم تكن غريبة عن الانفجار غير المتوقع للمشاركة الاجتماعية العفوية التي وسمت أحداث البيروسترويكا فيما بعد.

ظاهرة "المنشقين" السوفييت وولادة ظاهرة "الشيوعية الأوروبية"

لقد ركّزت الولايات المتحدة الأميركية، والدول الغربية الأخرى، على ظاهرة "المنشقين"  دون غيرها من الظواهر العديدة التي شهدها المجتمع السوفييتي في تلك الفترة. ولم تكن هذه الظاهرة متجانسة، بل توزع المعبرون عنها على ثلاثة تيارات إيديولوجية: ماركسيون إصلاحيون، مثّلهما الأخوان "روي وجوريس ميدفيديف"، اعتبروا أن ستالين شوّه الماركسية وأنه لا بد من العودة إلى "لينينية الأصول"؛ وأنصار إحياء  "الروح والتقاليد الروسية" وتبني القيم الأخلاقية المسيحية كأساس للحياة الاجتماعية،  الذين مثّلهم  "ألكسندر سولجنيستين"، وأنصار الديمقراطية الليبرالية على النمط الغربي، الذين  مثّلهم الفيزيائي "أندريه  ساخاروف"، الذي أسس "لجنة الدفاع عن الحقوق المدنية" في سنة 1970. واعتباراً من سنة 1972، صعّد جهاز أمن الدولة  "الـ  كي. جي. بي" من إجراءاته لتقييد حركة هؤلاء "المنشقين" الذين بقي صدى نشاطهم ضعيفاً في الداخل وقوياً في الخارج. فبفضل سولجنستين وساخاروف، في المقام الأول، تعرّف العالم إلى حركتهم، وتحولت قضية حقوق الإنسان في الاتحاد السوفييتي، ما بين 1967 و 1973، إلى قضية دولية ذات أهمية، تردد صداها في مؤتمر هلسنكي للأمن والتعاون في أوروبا، الذي انطلق في سنة 1973 وتبنى في وثيقته الختامية في سنة 1975 مبدأ ضرورة احترام حقوق الإنسان، وتشكلت لجان لمراقبة مدى احترام الدول الموقعة على هذا البيان، ومنها الاتحاد السوفييتي، لمبادئ مؤتمر  هلسنكي. ولتعزيز دور حركة "المنشقين" هذه، حصل ساخاروف في سنة 1975على جائزة نوبل للسلام، قبل أن تفرض السلطات السوفيتية  الإقامة الجبرية عليه  في سنة 1980.

وصارت الدعوة الغربية المتصاعدة إلى توسيع الحريات الفردية في الاتحاد السوفييتي تترك تأثيرها على سياسات بعض الأحزاب الشيوعية الأوروبية، وخصوصاً الأحزاب الشيوعية في إيطاليا وفرنسا واسبانيا. فهذه الأحزاب، التي تخلت  منذ مطلع السبعينيات عن مفهوم "ديكتاتورية البروليتاريا"،  صارت توجه انتقادات مبطنة، وأحياناً علنية، لسياسة الاتحاد السوفييتي في مجال  حقوق الإنسان، كما فعل الحزب الشيوعي الفرنسي في مؤتمره الثاني والعشرين في سنة 1976. وكان قد انعقد في العاصمة البلجيكية بروكسل في سنة 1974 مؤتمر للأحزاب الشيوعية في أوروبا الغربية، أقلق القيادة السوفيتية وجعلها تتخوف من بروز قطب جديد داخل صفوف الحركة الشيوعية العالمية، خصوصاً وأنه ترافق مع  بروز مصطلح "الشيوعية الأوروبية" الذي طرحه بعض الصحافيين الأوروبيين  للدلالة على المواقف والسياسات المتمايزة  التي تتبناها الأحزاب الشيوعية الثلاثة الرئيسية في أوروبا الغربية. وفي المؤتمر الخامس والعشرين للحزب الشيوعي في الاتحاد السوفييتي، في ربيع سنة 1976، أعلن الزعيم البلغاري تودور  جيفكوف أن "الموقف إزاء الاتحاد السوفييتي يمثّل حجر أساس الطبيعة الثورية والأممية البروليتارية، وهو  الحد الفاصل بين قوى التقدم وقوى الرجعية". وفي 21 تشرين الثاني 1976، شارك ثلاثة ممثلين عن الحزب الشيوعي الفرنسي في مهرجان للمطالبة بإطلاق سراح عدد من "المنشقين" السوفييت، كما عقد، في آذار 1977، اجتماع في مدريد لزعماء الأحزاب الشيوعية في فرنسا وإيطاليا واسبانيا. وفي 18 آذار 1977، وجهت قيادة الحزب الشيوعي السوفييتي رسالة إلى الحزب الشيوعي الفرنسي تنتقد فيها مواقف بعض زعمائه "غير الودية" إزاء الاتحاد السوفييتي وتصفها بأنها "خاطئة وخطيرة".

السياسة الخارجية: الاتحاد السوفييتي والعالم

تبنت القيادة السوفيتية، وعلى رأسها ليونيد  بريجنيف، ثلاثة توجهات رئيسية في سياستها الخارجية: وضع حد لسيرورة تفكك "المعسكر الاشتراكي" وضمان اندماج  بلدانه أكثر على الأصعدة السياسية والعسكرية والاقتصادية؛ تطبيع العلاقات بين الشرق والغرب على أساس سياسة التعايش السلمي؛ دعم حركات التحرر الوطني والأنظمة "التقدمية" في العالم، وصولاً إلى التدخل المباشر إن استدعت الضرورة ذلك. وهذه التوجهات الرئيسة عبّرت عنها ثلاثة أحداث كبرى خلال سنوات 1965-1982، هي: التدخل السوفييتي في تشيكوسلوفاكيا؛ وسياسة "الوفاق" الدولي وتوقيع اتفاقيتَي الحد من الأسلحة النووية؛ والتدخل السوفييتي في أفغانستان.

  1. الاتحاد السوفييتي ودول "المعسكر الاشتراكي"

سعى الزعماء السوفييت  الجدد، الذين استلموا السلطة بعد إقالة نيكيتا خروتشوف، إلى تطوير علاقات بلدهم مع الأحزاب الشيوعية في أميركا اللاتينية، ودعموا نتائج المؤتمر الذي عقدته هذه الأحزاب في مدينة هافانا في كانون الأول 1964، وساندوا النضال المسلح في عدة دول من دول هذه القارة، وهو ما ساهم في التقريب بين كوبا والاتحاد السوفييتي بعد البرودة التي أصابت علاقاتهما نتيجة أزمة الصواريخ السوفيتية في كوبا. كما قدم الاتحاد السوفييتي مساعدات اقتصادية وعسكرية كبيرة إلى كوريا الديمقراطية وإلى فيتنام الشمالية، وهو ما دفع هذين البلدين إلى اتخاذ موقف الحياد إزاء الخلاف الصيني-السوفييتي.

وكان الشرق الأقصى قد تحوّل إلى موقع صدام بين الصين والاتحاد السوفييتي من جهة، وبين الفيتنام والولايات المتحدة الأميركية من جهة ثانية. وكانت الإدارة الأميركية آنذاك تعتبر أن الخطر الأكبر تمثله الصين، ولم تر في الانقلاب على خروتشوف "كارثة"، بينما خلق هذا الانقلاب بعض الآمال في بكين. وكان أليكسي كوسيغين عندما زار الفيتنام في شباط 1965 قد توقف في بكين وقابل ماوتسي تونغ وشوين لاي، واقترح عليهما وقف السجال الإيديولوجي بين البلدين، وتبني سياسة مشتركة إزاء الفيتنام ودعوة الفيتناميين إلى التفاوض مع الأميركيين، لكن مهمته فشلت فشلاً ذريعاً، إذ رفض ماوتسي تونغ أي مساومة مع الأميركيين ورفض الفيتناميون أي مفاوضات معهم. وتطورت الحرب في الفيتنام سريعاً، وصار التدخل الأميركي فيها يتعاظم أكثر فأكثر، وسعى الأميركيون إلى استغلال تفاقم الخلاف الصيني السوفييتي، وخصوصاً بعد بدء الثورة الثقافية في الصين في ربيع سنة 1966. وفي 31 آذار 1968، أعلن الرئيس الأميركي ليندون جونسون أن قواته ستكتفي بقصف المنطقة المنزوعة السلاح في الفيتنام وأنه لن يترشح لدورة رئاسية ثانية، مقترحاً على الفيتناميين الدخول في مفاوضات، وهو ما قبله هوشي منه، وافتتحت الجولة الأولى لهذا المفاوضات في باريس في 13 أيار 1968. بيد أن الحرب تواصلت، واستأنفت القاذفات الأميركية في نهاية سنة 1971 قصف فيتنام الشمالية.

واتخذ الخلاف بين الاتحاد السوفييتي والصين الشعبية طابعاً إقليمياً على المناطق الحدودية، دفع الاتحاد السوفييتي إلى تعبئة 40 فرقة عسكرية على حدوده مع الصين. ووقعت معارك حقيقية في آذار 1969 وفي الأشهر اللاحقة أثارها  الخلاف على ملكية مناطق على الحدود. وحاولت الولايات المتحدة الأميركية  استغلال هذا الخلاف لمصلحتها، وشرعت إدارة الرئيس الأميركي الجديد ريتشارد نيكسون في التقرب من القيادة الصينية، وبدأت محادثات بين البلدين في كانون الثاني 1970. وفي نيسان 1971، استقبل شوين لاي فريقاً أميركياً لكرة المضرب كان يزور الصين، وقام مستشار الأمن القومي الأميركي هنري كيسنجر، ما بين 8 و 11 تموز 1971 بزيارة رسمية إلى بكين، تلقى خلالها دعوة رسمية للرئيس الأميركي كي يقوم بزيارة الصين، وأعلن نيكسون في 15 تموز أنه يعتزم زيارة الصين قريباً. وهو ما تحقق ما بين 21 و 28 شباط 1972.

وكانت سنة 1968 قد شهدت تفجر اضطرابات واسعة في تشيكوسلوفاكيا. ففي حزيران 1967، أعلن مؤتمر اتحاد الكتاب تمرداً واضحاً على قيادة الحزب الشيوعي، وذلك بمبادرة من الكتاب الشيوعيين. وشهد خريف ذلك العام اندلاع تظاهرات وإضرابات طلابية. وفي 5 كانون الثاني 1968 أُبعد أنطونين نوفوتني عن الأمانة العامة للحزب الشيوعي التشيكوسلوفاكي وحلً محله ألكسندر دوبتشيك، الذي تبنى مجموعة من الإصلاحات على الصعيدين السياسي والاقتصادي. وتطور النشاط السياسي في البلاد، وانطلقت حركة ديمقراطية عميقة داخل الحزب، فيما سمي "ربيع براغ". ولم يقترح دوبتشيك، الذي قرر إلغاء الرقابة على وسائل الإعلام، انسحاب بلاده من حلف وارسو. وفي 23 آذار 1968، حذر ممثلو دول حلف وارسو، الذين اجتمعوا في مدينة دريسدن، الزعماء التشيكوسلوفاكيين من مغبة الذهاب بعيداً في تبني السياسات الإصلاحية. وفي أيار، سمع دوبتشيك التحذير نفسه في موسكو. ثم أعاد الزعماء السوفييت، في 29 تموز، تحذيرهم الزعماء التشيكوسلوفاكيين الذين التقوهم على الحدود بين البلدين من انتهاج سياسة مخالفة لتوجهات دول حلف وارسو، لكن دوبتشيك رفض التراجع عن سياسته الإصلاحية. وفي ليلة 20 و 21 آب 1968، بدأ التدخل العسكري لدول حلف وارسو في تشيكوسلوفاكيا، في إطار ما سمي بـ "عقيدة بريجنيف" بشأن "السيادة المحدودة" لدول الحلف. وقد رفضت قيادتا الحزبين الشيوعيين الفرنسي والإيطالي هذا التدخل العسكري. وصارت الأمور تعود إلى طبيعتها بعد استقالة دوبتشيك، وحلول غوستاف هوساك محله في 17 نيسان 1969، الذي وقع معاهدة تحالف جديدة مع الاتحاد السوفييتي ودفع اللجنة المركزية لحزبه إلى الموافقة على التدخل السوفييتي في آب 1968.

وكان البولونيون هم الذين أحدثوا الخرق الأكثر أهمية في جدار معسكر بلدان حلف وارسو. ففي سنة 1970، تسبب ارتفاع كبير في الأسعار إلى اندلاع تظاهرات عمالية كبيرة في الموانئ البولونية الواقعة على بحر البلطيق. واضطر زعيم حزب العمال البولندي الموحد فلاديسلاف غومولكا إلى الاستقالة ليحل محله إدوارد غيريك الذي انتهج سياسة توظيف  استثمارات كبيرة كلفت البلاد كثيراً وأفضت إلى تضخم اقتصادي شديد. واضطر النظام من جديد إلى رفع الأسعار، وخصوصاً أسعار المواد الغذائية، وهو ما أدى إلى اندلاع موجة جديدة من الإضرابات، كان من أكبرها الإضراب الذي أعلنه في 14 آب 1980 عمال أحواض السفن في غدانسك وتبعهم العديد من عمال منشآت الموانئ الواقعة على بحر البلطيق. وتشكّلت نقابة مستقلة باسم "تضامن" برئاسة عامل كهرباء في الأحواض هو  ليخ فاونسا. وحظيت حركة الإضراب ونقابة "تضامن" بدعم الكنيسة الكاثوليكية التي كانت تتمتع بنفوذ كبير وسط السكان، وخصوصاً بعد انتخاب بابا من أصل بولوني، هو بولس الثاني، في سنة 1978، وقيامه بزيارة موطنه الأصلي في العام التالي. وقد اضطرت حكومة حزب العمال البولوني الموحد إلى التراجع أمام هذه الحركة ووقعت اتفاقاً مع فاونسا تعترف فيه بشرعية وجود نقابة مستقلة عن السلطة،  واضطر غيريك أن يترك منصبه في قيادة الحزب لستانيسلاف كانيا. وبعد أن عبر الزعماء السوفييت عن قلقهم من تطورات الأحداث في بولونيا، أعلن الجنرال فويشخ ياروزلسكي الذي كان يشغل منصب وزير الدفاع، في 13 كانون الأول 1981، الأحكام العرفية في البلاد ومنع نشاط نقابة "تضامن"، واستولى الجيش على السلطة.

  1. سياسة الوفاق الدولي

ساهم في تمهيد الطريق أمام تبلور سياسة الوفاق الدولي تطور علاقات الاتحاد السوفييتي التجارية مع الخارج. وكانت هذه العلاقات قد بدأت تتوسع اعتباراً من مطلع الستينيات، وأدت إلى تضاعف قيمة تجارة الاتحاد السوفييتي الخارجية ما بين 1960 و 1970. وخلال سنوات السبعينيات، تعزز اندماج الاقتصاد السوفييتي في السوق العالمية. وكانت مبادلاته التجارية تتطور مع الدول الاشتراكية في منظمة "الكوميكون"، ومع دول العالم الثالث، ومع دول أوروبا الغربية، ثم مع الولايات المتحدة الأميركية، وخصوصاً ما بين 1972 و 1975، على الرغم من القيود التي وضعها الكونغرس الأميركي. وكان الاتحاد السوفييتي يصدّر النفط، الذي ارتفع سعره نتيجة الطفرة النفطية في سنة 1973، والغاز، الذي صار يصدّر إلى دول أوروبا الغربية في مطلع الثمانينيات عبر خط أنابيب أورو- سيبيري. أما واردات الاتحاد السوفييتي، فكانت تتمثل في المنتجات الغذائية، وخصوصاً القمح والصويا، والتكنولوجيات الطليعية. وفي سنة 1966، تمّ توقيع عقدين مع شركتَي "فيات" الإيطالية و "رينو" الفرنسية  لتحديث صناعة السيارات السوفيتية. 

كان ليونيد بريجنيف قد أعلن في المؤتمر الثالث والعشرين للحزب الشيوعي في الاتحاد السوفييتي، في آذار 1966، أن التعايش السلمي "هو شكل من أشكال الصراع الطبقي بين الاشتراكية والرأسمالية"، وتمنى أن يتكرس هذا التعايش بما يمكّن الاتحاد السوفييتي من تجاوز أوضاعه الاقتصادية الصعبة وخفض نفقات التسلح. وفي آذار 1966، أدى انسحاب فرنسا من البنية العسكرية لحلف شمال  الأطلسي إلى تطوير العلاقات الفرنسية - السوفيتية، وهو ما تجلى خلال زيارة الجنرال شارل  ديغول التاريخية إلى موسكو في حزيران 1966، التي اعتبرت بمثابة انطلاقة سياسة الوفاق الدولي. وبعد انتخابه في تشرين الأول 1969 رئيساً لحكومة ألمانيا الاتحادية، انتهج فيلي براندت سياسة واقعية في علاقاته مع دول حلف وارسو، تجلت في توقيعه في موسكو في 12 آب 1970 معاهدة عدم اللجوء إلى القوة  في العلاقات بين البلدين، تبعه التوقيع على معاهدة بين ألمانيا الاتحادية وبولونيا في 3 كانون الأول 1970 تعترف بالحدود القائمة بين البلدين، ثم التوقيع في 3 أيلول 1971 على معاهدة بين القوى الأربع المحتلة  لمدينة برلين، وهي الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا والاتحاد السوفييتي، تحافظ على الوضع القائم في برلين وتضمن حق الغربيين في العبور إلى برلين الغربية، وأخيراً معاهدة الاعتراف المتبادل بين ألمانيا الاتحادية وألمانيا الديمقراطية في 21 كانون الأول  1972. ومثّل تطبيع العلاقات مع ألمانيا الاتحادية نجاحاً سياسياً ودبلوماسياً كبيراً للاتحاد السوفييتي ودول حلف وارسو.

أما بخصوص العلاقات الأميركية - السوفيتية، فقد شهدت انعطافاً حاسماً في سنة 1972، لعب دوراً بارزاً فيه السفير السوفييتي في واشنطن أناتولي دوبرينين الذي كان على تواصل مباشر مع مسشار الأمن القومي، ثم وزير الخارجية، هنري كيسنجر، وأنضج معه فكرة إجراء مفاوضات بين البلدين، في جنيف،  حول الأنظمة المضادة للصواريخ وحول الصواريخ العابرة للقارات. وبعد زيارة قام بها  أندريه غروميكو، وزير الخارجية السوفييتي، إلى واشنطن، وصل الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون إلى موسكو في 22 أيار 1972، وكان أول رئيس أميركي  يزور الاتحاد السوفييتي، وعقد لقاء قمة مع ليونيد بريجنيف تمّ خلاله  توقيع مجموعة من الاتفاقيات، كان من أهمها اتفاق "سالت 1" الذي وضع حدوداً لاستخدام الصواريخ المضادة للصواريخ، وحرّم إجراء التجارب في البحار وفي الفضاء، كما منع إنتاج صواريخ جديدة عابرة للقارات، ووضع حدوداً لعدد الصواريخ التي تطلقها الغواصات، واتفاق  يشتري بموجبه  الاتحاد السوفييتي  القمح من الولايات المتحدة  بأسعار رخيصة  مدفوعة من قروض أميركية. وفي 29 أيار، تمّ توقيع بيان حول المبادئ الأساسية للعلاقات بين الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة الأميركية، واتفق الزعيمان على الدعوة إلى مؤتمر حول الأمن والتعاون في أوروبا، بما مهد الطريق أمام انطلاق مباحثات مؤتمر هلسنكي. وعززت هذه الزيارة نفوذ ليونيد  بريجنيف، كما ساهمت في تمكين ريتشارد نيكسون من الفوز بولاية رئاسية ثانية في 7 تشرين الثاني 1972. وعقدت قمة جديدة بين الزعيمين في واشنطن ما بين 17 و 22 حزيران 1973، تم خلالها التوقيع على معاهدة للحؤول دون وقوع حرب نووية. وما بين 1971 و 1976، تضاعف حجم التجارة بين البلدين ثمانية أضعاف، وأعطى الزعماء السوفييت الأولوية لاستيراد التكنولوجيا الطليعية، لكن الاتحاد السوفييتي لم يحصل على صفة  "الدولة الأولى بالرعاية "، إذ ظل الكونغرس الأميركي، بتأثير السناتور جاكسون، يعارض منح امتيازات اقتصادية للاتحاد السوفييتي قبل التزام حكومته الواضح بتحرير سياسة هجرة المواطنين السوفييت  الذين يعتنقون الديانة اليهودية إلى الخارج، وخصوصاً إلى إسرائيل.

ولم تكن العلاقات بين الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة الأميركية تخلو، في تلك الفترة، من مظاهر التوتر. فإذا كان التوقيع، في 23 كانون الثاني 1973، بين الفيتنام والولايات المتحدة الأميركية على "معاهدة باريس"، التي وضعت حداً لحرب الفيتنام، قد صبّ في مصلحة تعزيزها، فإن هذه العلاقات شهدت توتراً، في تشرين الأول 1973، عقب اندلاع الحرب العربية - الإسرائيلية  التي خلقت تهديداً بوقوع مواجهة بين البلدين وأدت إلى ارتفاع  كبير في أسعار النفط، وظّفه الاتحاد السوفييتي لمصلحته. بيد أن أكثر ما ساهم في توتير العلاقات بين البلدين هو الموقف الأميركي الداعم  لحركة "المنشقين"، الذين استفادوا كثيراً  من أجواء الوفاق الدولي، إذ صار الكونغرس الأميركي  ينتقد التقييدات المفروضة على حركة هؤلاء "المنشقين"، ويطالب الإدارة الأميركية  بالضغط على القيادة السوفيتية كي تطلق لهم حرية الحركة والتعبير. ومع ذلك، عقدت قمة سوفيتية-أميركية جديدة بالقرب من يالطا ما بين 27 حزيران و 3 تموز 1974، في وقت كان فيه ريتشارد  نيكسون مهدداً بترك منصبه نتيجة فضيحة "ووترغيت"، وأعطت تلك القمة دفعاً جديداً لعقد مؤتمر هلنسكي حول الأمن والتعاون في أوروبا. ولدى عودته من القرم، تقدم نيكسون باستقالته، واختار الكونغرس جيرالد فورد نائباً للرئيس قبل أن يخلف نيكسون في البيت الأبيض. وما بين 23 و 24 تشرين الثاني 1974، عقدت قمة بين جيرالد فورد وليونيد بريجنيف في فلاديفوستوك، تركزت المحادثات فيها  حول الخطوط التوجيهية للتوصل إلى اتفاق "سالت 2" . بيد أن العلاقات بين الدولتين عادت لتتوتر من جديد نتيجة تصاعد  ضغوطات الكونغرس على الإدارة الأميركية الجديدة لربط  تطوير العلاقات التجارية ومنح الاتحاد السوفييتي صفة "الدولة الأولى بالرعاية " بتوسيع الحريات السياسية والسماح بهجرة مواطني الاتحاد السوفييتي اليهود إلى الخارج. ومع أن العلاقات بين البلدين ظلت متوترة بعد وصول جيمي كارتر إلى البيت الأبيض في مطلع سنة 1977، بسبب زيادة  دعم الإدارة الجديدة لحركة "المنشقين" السوفييت وقيام الاتحاد السوفييتي بنشر صواريخ "س س 20 " متوسطة المدى في أوروبا، إلا أن القمة التي عقدت بين جيمي كارتر وليونيد بريجنيف، في سنة 1979، نجحت في التوصل إلى اتفاق "سالت 2"، الذي رفض الكونغرس المصادقة عليه، عقب التدخل السوفييتي في أفغانستان، وذلك قبل أن تعترض إدارة الرئيس الجديد رونالد ريغان عليه.

وبغض النظر عن هذه التقلبات في العلاقات السوفيتية - الأميركية، فإن سياسة الوفاق الدولي تجلت، بأسطع صورها، في انعقاد مؤتمر الأمن والتعاون في أوروبا في مدينة هلسنكي. ففي تموز 1975، بدأت مباحثات المرحلة النهائية لهذا المؤتمر، التي انطلقت في سنة 1973، وتوصلت في الأول من آب 1975، إلى وثيقة نهائية  وقعها ممثلو 33 دولة أوروبية فضلاً عن الولايات المتحدة الأميركية وكندا، اعترفوا بالحدود الناجمة عن الحرب العالمية الثانية، بما في ذلك حدود ألمانيا الديمقراطية وبولونيا. وقد تكوّنت "وثيقة هلسنكي" من ثلاثة أقسام:  الأول حول الأمن في أوروبا، وتضمن دعوة  إلى إقامة علاقات جديدة في هذه القارة، قائمة  على احترام السيادة الوطنية لكل دولة من دولها، وضمان حصانة حدودها ووحدة أراضيها، وحل الخلافات بينها بالطرق السلمية وعدم اللجوء إلى القوة، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول، واحترام حقوق الإنسان والحريات الأساسية بما فيها حرية الرأي والعقيدة والدين؛ والثاني حول التعاون في مجال الاقتصاد والعلوم والتقنيات والبيئة؛ والثالث حول  التعاون في المجالات الإنسانية وغيرها. 

  1. تعزيز الوجود السوفييتي في دول "العالم الثالث"

واصل الاتحاد السوفييتي في النصف الثاني من الستينيات تعزيز علاقاته مع حركات التحرر الوطني والأنظمة "التقدمية" في "العالم الثالث"، مستفيداً من ضعف الولايات المتحدة الأميركية بعد الهزيمة التي لحقت بها في الفيتنام، ومن ارتفاع أسعار النفط،  ومن الأزمة الاقتصادية التي صارت تواجهها الدول الغربية جراء "الطفرة النفطية"، ومن التطورات في الهند الصينية  بعد نجاح قوات فيتنام الشمالية في احتلال كامل الأراضي الفيتنامية، ووصول "الخمير الحمر" إلى السلطة في كمبوديا، و"الباتيت لاو" إلى السلطة في لاوس. وفي أفريقيا، وقف الاتحاد السوفييتي إلى جانب الصومال، ثم دعم، بالتعاون مع كوبا، النظام العسكري الذي أسقط حكم  الإمبراطور هيلاسيلاسي في أثيوبيا. وفي أنغولا، حررت "الحركة الشعبية لتحرير أنغولا"، بدعم من  الاتحاد السوفييتي ومن  25000 مقاتل كوبي، البلاد بقيادة أوغوستينو نيتو، كما تسلمت حركة "الفريليمو" السلطة في الموزامبيق بزعامة سامورا ميتشيل، وعزز الاتحاد السوفييتي، في تلك الفترة، نفوذه في الكونغو-برازافيل، وغينيا-بيساو وغينيا، كما طوّر علاقاته القديمة مع الجزائر. وفتحت هذه العلاقات التي نسجها الاتحاد السوفييتي مع عدد كبير من الدول الأفريقية إمكانات جديدة أمام توسع حضور أسطوله البحري.

في مطلع حزيران 1967، اشتعلت منطقة الشرق الأوسط مع اندلاع الحرب التي شنتها إسرائيل على الدول العربية، فسارع الاتحاد السوفييتي إلى قطع علاقاته الدبلوماسية مع إسرائيل، وواصل دعمه العسكري لكلٍ من مصر وسورية. وفي سنة 1970، قرر الاتحاد السوفييتي تزويد مصر بصواريخ أرض- جو، وأرسل إليها نحو 10000 خبير عسكري، كما استمر في تعزيز علاقاته مع سورية، وجمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية، ومع ليبيا والعراق، وواصل مدها، ومعها منظمة التحرير الفلسطينية، بالأسلحة. وفي آسيا، نسج الاتحاد السوفييتي علاقات صداقة قوية مع الهند وأفغانستان.

كانت أفغانستان قد تحوّلت إلى النظام الجمهوري، في سنة 1973، عقب قيام محمد داوود خان بإسقاط حكم الملك محمد ظاهر شاه. وفي نيسان 1978، وقع انقلاب عسكري على حكومة محمد داوود  دبّره محمد نور  طراقي، العضو القيادي في حزب الشعب الديمقراطي الأفغاني (الشيوعي).

وأبرم الاتحاد السوفييتي في كانون الأول 1978 معاهدة صداقة وتعاون مع جمهورية أفغانستان الديمقراطية التي واجهت، منذ إعلانها، مقاومة الأوساط الإسلامية. وفي شباط 1979، اغتيل السفير الأميركي في كابول بعد أن كان هدف عملية اختطاف، وتوسع التمرد الذي قام به المجاهدون الإسلاميون، واضطر الاتحاد السوفييتي إلى زيادة عدد مستشاريه العسكريين في أفغانستان.  وكان  نظام شاه إيران قد سقط، في الفترة نفسها، على يد الثورة الإسلامية، الأمر الذي ضاعف مخاوف الأميركيين والغربيين عموماً. وقام  حفيظ الله أمين بالانقلاب على حكم محمد نور طراقي، وتزايدات  تدخلات باكستان، والصين الشعبية والولايات المتحدة في شؤون أفغانستان الداخلية، ما أثار قلق القيادة السوفيتية، التي دعمت وصول بابراك كارمال إلى سدة الرئاسة، وقررت زيادة عدد قواتها في أفغانستان ليصل تعدادها، في نهاية كانون الثاني 1980 إلى نحو 85000 جندي سوفييتي، وذلك إثر قرار اتخذه المكتب السياسي للحزب الشيوعي في الاتحاد السوفييتي، في 29 كانون الأول 1979، بالتدخل العسكري في هذا البلد.

لقد  كانت ردة فعل الولايات المتحدة الأميركية والدول الغربية الأخرى قوية جداً على هذا التدخل، إذ أرسل جيمي كارتر رسالة احتجاج شديدة اللهجة إلى ليونيد بريجنيف. وكانت قد عقدت قمة بين الزعيمين الأميركي والسوفييتي في فيينا في 17-19 حزيران 1979، وقعا خلالها اتفاقية "سالت 2"، التي رفض الكونغرس المصادقة عليها. وكان مجلس حلف شمال  الأطلسي قد اتخذ قراراً يقضي بنشر 573 صاروخاً متوسط المدى، من طراز "بيرشينغ" و"كروز" في أوروبا. وبعد التدخل السوفييتي في أفغانستان، قرر جيمي كارتر تجميد اتفاقية "سالت 2" ، ومقاطعة الألعاب الأولمبية التي كانت مقررة في موسكو، وعدم بيع القمح إلى الاتحاد السوفييتي. وبانتخاب المرشح الجمهوري "الصقري" رونالد ريغان إلى البيت الأبيض في انتخابات تشرين الثاني 1980، أُسدل الستار على عهد الوفاق، ووجد الاتحاد السوفييتي نفسه مدفوعاً إلى سباق تسلح جديد، بينما كان اقتصاده يعاني من حالة ركود، وكانت قيادته مضطرة إلى احترام التزاماتها الأممية التي كانت ترتب عليها إنفاق مبالغ هائلة لدعم أصدقائها، ناهيك عن التكلفة المالية والبشرية الهائلة التي تكبدتها نتيجة التدخل في أفغانستان.

وفاة ليونيد بريجنيف

في مطلع سنة 1975 بدأ ليونيدد  بريجنيف يعاني مشاكل صحية صارت تترك تأثيراً على نشاطه، فاقمتها إصابته بنزيف دماغي في سنة 1977. وكانت ظاهرة شخصنة السلطة قد راحت تبرز منذ النصف الثاني من السبعينيات، إذ أُطلق على ليونيد بريجنيف، في 7 أيار 1976، لقب ماريشال الاتحاد السوفييتي وانتخب رئيساً لمجلس السوفييت الأعلى في حزيران 1977، بحيث صار يجمع جميع المناصب التشريفية في البلاد، ونال سبع مرات وسام لينين، وثلاث مرات وسام بطل الاتحاد السوفييتي ومرة واحدة وسام بطل العمل الاشتراكي. كما حصل على ميدالية كارل ماركس وعلى جائزة لينين في الأدب في نيسان 1979.

وفي المؤتمر السادس والعشرين للحزب الشيوعي في الاتحاد السوفييتي، المنعقد في شباط 1981، بدأ الإنهاك الشديد واضحاً على وجه ليونيد بريجنيف، الذي لم يستطع التحدث أكثر  من ست دقائق وقرأ تقرير اللجنة المركزية بالنيابة عنه أحد معاونيه. وفي 10 تشرين الثاني 1982، وبعد أن شارك بصعوبة في احتفالات ثورة أكتوبر، أعلنت وفاته.   

أهم  المصادر:

-إيلنشتاين، جان (Elleinstein, Jean)، من روسيا إلى أخرى: حياة وموت الاتحاد السوفييتي، باريس،  المنشورات الاجتماعية، 1992.

دبريتو ج . ب (Depretto J. P.) (تحت إشراف)، سلطات ومجتمعات في الاتحاد السوفييتي، باريس، لاتولييه، 2002.

دُولين، سابين (Dullin, Sabine)، تاريخ الاتحاد  السوفييتي، الطبعة الثالثة، باريس لا ديكوفيرت، 2009.

رياسانوفسكي، نيكولا ف. ( Riasanovsky, Nicholas V. )، تاريخ روسيا من الأصول إلى أيامنا هذه، الطبعة الثانية، باريس، منشورات روبير لافون، 1994.

سابير، جاك ( Sapir,Jacques )، عودة إلى الاتحاد السوفييتي: اقتصاد، مجتمع، تاريخ، باريس، لارماتان، 1997.

شوفييه، ج. م (Chauvier, J. M) الاتحاد السوفييتي: مجتمع في طور الحركة، باريس، لوب، 1988.

غرازيوسي، أندريا ( Graziosi, Andrea )، تاريخ الاتحاد السوفييتي، باريس، المنشورات الجامعية في فرنسا، 2010.

ليفيسك، ج (Lévesque, J)، الاتحاد السوفييتي وسياسته الدولية من لينين إلى غورباتشوف، باريس، آرمان كولان، 1987.

ليفين، م (Lewin, M)، القرن السوفييتي، باريس، فايار، 2003 .

ويرث، نيكولا (Werth, Nicolas)، تاريخ الاتحاد السوفييتي، من الإمبراطورية الروسية إلى رابطة الدول المستقلة (1900-1991)، باريس، المنشورات الجامعية في فرنسا، 2012.