الدولة - الأمة - النزعة القومية وحق تقرير المصير مفاهيم أساسية
فالح عبد الجبار

2017-10-08

الدولة - الأمة - النزعة القومية وحق تقرير المصير مفاهيم أساسية

فالح عبد الجبار 

منذ اطلاق الزعيم السوفييتي فلاديمير لينين (١٩١٤) والرئيس الاميركي وودرو ويلسون (١٩١٨) الدعوة الى حق تقرير المصير، كلٌ من موقعه، بات حق تقرير المصير اساساً عالمياً لإنشاء دول قومية، واعتبار الدولة القومية اللبنة الأساسية في معمار العالم، واندرج حق تقرير المصير بعد ذلك في ميثاق الأمم المتحدة (١٩٤٩)، كقانون انساني شامل، يتجاوز، في قيمته ونطاقه، الدساتير القومية المحلية.

لذا ابدأ مداخلتي بهذا الإقرار، ان حق تقرير المصير القائم على حق الاستقلال، مبدأ مفروغ منه. بهذا المعنى "مقدس"، أي لا مساس فيه. لكن "القدسية" تنتهي عند هذا الحد. فالأشكال والصيغ التي يتخذها متنوعة، متعددة، ومشروطة بأحوال وأوضاع بالغة التنوع. النقاش حول هذه الاشكال ضروري ومفيد، رغم انه يواجه جداراً من الاهواء العنيفة، والتعصب. هذا لن يثنينا عن النقاش العقلي. ادناه عشر اطروحات تجمع الجانب النظري بالتاريخ الفعلي.

الأطروحة الاولى:

تشكل الامم او نشوء الدولة-الامة، يرتبط بعصر الرأسمالية، عصر الصناعة، الليبرالية السياسية (الديمقراطية)، والليبرالية الاقتصادية (اقتصاد السوق)، والمدن الكبرى، في ظل جهاز حكم مركزي (الدولة).

لا وجود للأمم والدول القومية قبل هذا العصر، رغم ان بعض لبنات تشكُّل الامة (اللغة، الثقافة، الخ) ذات تاريخ موغل في القدم احياناً.

الأطروحة الثانية:

إذا كانت الدولة مفهوم واضح بذاته، باعتبارها جهازاً للحكم يبسط سيادته على إقليم جغرافي محدد، ويحظى باحتكار وسائل العنف المشروع، فان الامة كجماعة قومية مفهوم ملتبس، رغم الاعتقاد بوضوحه.

هناك مقاربتان لمفهوم الامة وبناء الامم، هما المقاربة الألمانية، والمقاربة الفرنسية.

المقاربة الألمانية التي وضعها الفيلسوف الألماني يوهان فيخته (١٧٦٢١٨١٤) في نص يُعرف باسم "خطابات الى الامة الألمانية" (١٨٠٧)، حدد فيه مفهوم الامة على اساس اللغة، واواصر الدم، بل شبهها بـ"القبيلة"، لجهة قرابة الدم، والجماعة المغلقة بثقافتها ولغتها.

منذ ذلك الحين وصيغة فيخته لمفهوم الامة كجماعة ثقافية ذات لغة مشتركة، وصلة رحم سادت، مع بعض التعديلات، تحت اسم النموذج الألماني. فالثقافة حددت اما باللغة، او بالدين، او بالعرق. اليابان تحوي كل هذه العناصر، والهند مثلاً لا تحوي أي عنصر مشترك من هذه. مع هذا، النزعة القومية اليابانية لا تقل قوة عن نظيرتها الهندية.

النموذج الفرنسي لا يعتبر أواصر الدم، ولا اللغة اساساً لبناء الامة. واضع هذا المفهوم المفكر الفرنسي ارنست رينان، في محاضرته الشهيرة في السوربون (١٨٨٢) بعنوان: ما هي الامة! كان رينان ينظر الى تجربة اميركا الشمالية وتجربة اميركا اللاتينية في الاستقلال عن إنكلترا وعن اسبانيا رغم وحدة اللغة والثقافة.

في رأيه الامم تقوم على عنصرين: وحدة المصالح المشتركة لأعضائها، ونسيان الماضي (الاقطاعي) المحترب. بدون نشوء مصالح مشتركة، وبدون نسيان احقاد الماضي، لا يمكن بناء الامة. وله قولة شهيرة: "الامة استفتاء دائم".

اغلب الحركات القومية والدول القومية اعتمدت النموذج الألماني، رغم وجود تنوع في بلدانها ما يقتضي المرونة، واعتماد النموذج الفرنسي .

الأطروحة الثالثة:

إذا اعتمدنا النموذج الألماني الذي تبلور في ظل تجزؤ المانيا وتخلفها الصناعي وغياب الديمقراطية فيها، فسنواجه مشكلة عصية في العالم: هناك ٨٠٠٠ مجموعة لغوية في العالم، بينما توجد اقل من ٢٠٠ دولة. هذا يعني ان الدولة متعددة الثقافات/ اللغات هي القاعدة وليست الاستثناء. وان الدولة المتجانسة قومياً/ لغوياً هي الاستثناء وليس القاعدة.

من هنا الحاجة الى النموذج الفرنسي الذي نما في حاضنة الرأسمالية، والديمقراطية البرلمانية الراسخة.

لكن الحركات القومية التي سادت وقادت العراق وغيره، اعتمدت النموذج الألماني.

من هنا فان الازمات هي نتاج التصادم بين هذين النموذجين، السياسة المتبعة تقوم على نموذج المانيا، وواقع الحال يتطلب النموذج الفرنسي.

الأطروحة الرابعة:

دخلت معظم مجتمعات اوروبا + (اميركا الشمالية) عصر القوميات قبل مجتمعاتنا، وذلك بفضل تطور الصناعة الرأسمالية، بما تخلقه من أسواق وتداول، وترابط عضوي، وبفضل وسائل الاتصال، والمواصلات التي تحطم عزلة الجماعات المحلية، وبفضل انشاء جهاز حكم مركزي، ونظام تعليم مجانس للثقافة.

نحن، العالم العربي والإسلامي، احتضنا التصورات القومية فكرياً قبل نضج مجتمعاتنا لها، قبل نشوء الاقتصاد الحديث، وقبل ظهور المدن المتطورة، وقبل الدولة المركزية، الخ.

كنا مجتمعاً زراعياً- حرفياً متجزئاً، مفتتاً، تنغلق اجزاؤه في قبائل وعشائر، ومدن، كما تنغلق مدنه في احياء، وينقسم سكانه بين حضر وزراع وبدو، وينقسم لغوياً إلى كرد وعرب، وينقسم دينياً ومذهبياً.

الأطروحة الخامسة

في عراق عام ١٩٢١، قرر شخصان مصير بلاد ما بين النهرين (ميزوبوتاميا) هما المندوب السامي البريطاني السير بيرسي كوكس Percy Cox، والأمير فيصل، المخلوع فرنسياً من كرسي سوريا. اللقاء التاريخي ومحضر اللقاء متاح في دار وثائق الخارجية البريطانية، واستشهد به المؤرخ الراحل بيتر سلاغليت في كتابه" بريطانيا في العراق Britain in Iraq كوكس (او كما يسميه العراقيون: كاوكز) كان خاضعاً لمبدأ تقرير المصير كما ورد في اعلان الرئيس وودرو ويلسون، وكان هو واقرانه يسمون الإعلان انه يمثل "روح العصر" رغم قناعاتهم بان ويلسون مثالي، منفصل عن الواقع، وان بلاد ما بين النهرين، والشام وسواها لا تحمل أي معلم مشترك لبناء امة، وتقرير المصير بالمعنى الويلسوني. لكنه كان ايضاً ملزماً بتقرير المصير من نوع ما، بسبب الكلفة الباهظة لمواجهة ثورة العشرين (نحو ٥٠ مليون جنيه إسترليني، ما يعني اليوم مليارات).

اما الأمير فيصل فكان واعياً بأن شعب المنطقة يعيش مرحلة ما قبل قومية (يسميها:

ملّة)، وان هويتها بل هوياتها قبلية، ودينية ومذهبية.

في اللقاء بين الرجلين يقول كوكس لفيصل ان ترتيبات تقرير المصير تتضمن انشاء دولة عربية-عراقية، والى شمالها دولة كردية، ثم الى شمالها دولة تركية حسب مقررات مؤتمر سيفر. قال فيصل، من ضمن ما قاله: انت تعطيني دولة غير قابلة للحياة. تركيا وإيران تعادياني. والسعودية جنوباً تعاديني. كيف لي وانا السني-الشافعي ان احكم عرباً ذوي اغلبية شيعية. الاكراد هم سنة- شوافع. وجودهم سيخلق نوعاً من توازن.

كان فيصل يفكر بلغة الهوية المذهبية، الفاعلة امام ناظريه. وكوكس يفكر بلغة الاستقرار وكلفة الحكم بعد تجربة ثورة العشرين.

وافق كوكس وألغيت مقررات معاهدة سيفر (فرح اتاتورك لذلك بالطبع)، وختم على العراق ان يكون دولة ثنائية القومية.

الأطروحة السادسة:

مرت الدولة العراقية الوليدة بمرحلتين: الاولى مرحلة مدّ السيادة بوسائل العنف (عنف الدولة) بإزاء مجتمع زراعي، متشظي.

إنشاء الدولة: العرش، الإدارة، الجيش، الشرطة، جهاز القضاء، جهاز التعليم، لم يكن صعباً، فهو يقوم على بناء نظام حكم وسيطرة لغرض السيادة.

اخضعت الدولة التمردات المعادية لها، أي كل ميول اللامركزية، سواء الاكراد في السليمانية او الآشوريين، او وجهاء البصرة، ام إزاء عشائر الجنوب التي رفضت التجنيد مثلاً.

لكن الدولة اخذت ايضاً، على الأقل خلال الثلاثينيات والاربعينيات، ببناء الجماعة الوطنية، المؤلفة من قوميات عدة، مجموعات دينية وثقافية متنوعة.

واعتمدت في ذلك النموذج الفرنسي أي خلق مصالح مشتركة، وفتح أبواب المشاركة، وبناء ذاكرة جديدة، تدعم الوحدة الحالية للأبعاض المبعثرة.

الأطروحة السابعة

النجاح النسبي للمملكة

لقد نجح النموذج المعتمد في عهد فيصل الاول (رغم الابتعاد عنه لفترة بعد وفاته، هي فترة غازي ١٩٣٣١٩٣٨) وبوسعنا الإشارة الى عوامل النجاح التي استمرت حتى بعد ثورة تموز بقليل.

1- انفتاح النظام السياسي- الديمقراطي- البرلماني- الدستوري، لسائر الجماعات القومية/ الاثنية/ الدينية/ المذهبية (يهود ١٩٤٨ هم الاستثناء الوحيد).

2- انفتاح اقتصاد السوق الحر امام رؤوس الاموال والتجارة المحلية، وفعل هذا الاقتصاد في ربط الافراد والجماعات عبر الروابط العضوية للتبادلات والتجارة.

3- المشاركة في الثروة الوطنية (=الأرض)، باستثناء أكبر طبقة ملاك أراضي على قاعدة التملك الحديث (الطابو) وليس الاقطاعية المؤقتة القديمة (الحيازة المقيدة).

وتضم طبقة الملاك الجديدة التي تشكلت بفضل برامج الخبير البريطاني دوبز Dobbs من أكثر من ٤٠ في المائة شيعة، ٢٠ في المائة كورد، ١٨ في المائة سنة عرب، فضلاً عن تركمان وآشوريين ومسيحيين عرب. وهي طبقة تحاكي التعدد الاثني-الديني المذهبي للجماعة الوطنية، بوصفها جماعة تشترك في إقليم واحد موحد. هذه الطبقة تشكل القاعدة الاجتماعية للدولة الجديدة.

4- فتح باب المشاركة في الجهاز الإداري الحكومي (الوزارات، الخ).

5- فتح باب المشاركة في الجيش/الشرطة/ الامن. كان بعض قادة الفرق اكراداً وأول انقلاب عسكري قاده كردي (بكر صدقي).

6- احترام التنوع الثقافي خصوصاً العربي-الكردي في التعليم، والاعلام الرسمي.

الأطروحة الثامنة:

انقلاب الدولة من النموذج الفرنسي القائم على الانفتاح الديمقراطي، والمصالح المشتركة النابعة من المشاركة الموسعة الى النموذج الألماني القائم على القسر، كان بداية السير على طريق الفشل المحتوم.

فهذا النموذج فشل في منشئه/ المانيا، اذ انتهى الى العنصرية والحرب، ودمار وتقسيم المانيا. ولم تبرأ منه الا بعد تحريرها من الإرث العنصري/ الاستبدادي (النازية).

والحال نفسه في العالم العربي. فشل النموذج الألماني في بناء الوحدة العربية. بل فشل في بناء وحدة وطنية محلية. العراق جزء من هذه الخيبة: نحن العرب سادة الفشل. فلا تقلدونا أيها الكورد.

الأطروحة التاسعة:

ما هي شروط بناء الامة في أوضاع متخلفة لم تكتمل فيها مقومات العصر الصناعي- الرأسمالي الحديث.

اول شروط بناء الدولة- الامة هو السيادة الداخلية القائمة على الشرعية الدستورية- الانتخابية، والسيادة الدولية المرتكزة الى القانون الدولي (اعتراف دولي).

ثاني هذه الشروط وجود اقتصاد سوق، لا اقتصاد ريعي، اقتصاد السوق يخلق روابط عضوية، شبكة مصالح مترابطة، متداخلة تخلق ما يسمى بـ"التضامن العضوي" الذي يشكل مادة أساسية في بناء الامم.

اما الاقتصاد الريعي- النفطي، حيث تكون الدولة هي المالك للريع، فلا تخلق ذلك.

الريعي يربط الفرد، كفاعل اقتصادي، بالنخبة الحاكمة، بالزعيم (او من يمثله)، ولا يربط الفرد بالأفراد الآخرين. من هنا فان زوال الزعيم/ الحزب/ الحاكم يعني انهيار شبكة العلائق الاقتصادية ومجيء شبكة جديدة محلها، تحمل معها ضروب الاقصاء، وضروب الولاء الجزئي.

كثرة من السياسيين والباحثين لا تدرك معنى اقتصاد السوق كأداة لبناء نسيج اجتماعي عابر للطوائف والاثنيات. فالمال لا دين له ولا مذهب.

ثالثاً- ينبغي للجهاز الإداري ان يفتح لسائر المواطنين، دون تمييز عرقي/ ديني/ مذهبي او، وهذا اهم، دون انغلاق حزبي (توظيف أعضاء الحزب).

رابعاً- انشاء جهاز عسكري- امني منفتح ومفتوح للجميع، من دون حصر احتكاري حزبي-مذهبي او حزبي-قومي.

خامساً- التجانس الثقافي شرط ضروري لاستمرار بناء الامة، وتمتينه، وهو يقوم على تعزيز المشتركات في جانب، واحترام التنوع من جانب آخر، خصوصاً التنوع اللغوي، والتنوع الديني.

سادساً وأخيرا اعتماد النموذج الفرنسي لا الألماني في توليد السيادة/ الشرعية/ الرضى/ واعتبار القبول بتماسك الجماعة الوطنية مسألة "استفتاء دائم".

الأطروحة العاشرة:

لقد قامت فكرة الجماعة الوطنية العراقية الجديدة عام ١٩٢١ على قاعدة تحالف شيعي- سني ومقرون بتفاهم كردي. واليوم، اعيد انتاج فكرة الجماعة الوطنية العراق على قاعدة تحالف شيعي- كردي، مقرون بتفاهم جزئي سني. وان انفراط عقد التحالف واهتزاز التفاهم يعني اننا إزاء حالة دولة فاشلة تفتقر الى الاعتراف بها كممثل للجماعة الوطنية. والمطلوب إعادة بناء هذا الاعتراف.

ما هو سائد حالياً يقرب من الهياج العنصري المميت. ثمة لغو متواصل بدل بناء المؤسسات الجامعة.

-----------------------------

* القاها الباحث يوم 16 أيلول/سبتمبر 2017 في «ملتقى الديمقراطية وتقرير المصير» الذي اقيم في مدينة السليمانية - لعراق.