ستالينجراد، دير الزور والتحولات الاستراتيجية في مسار الحروب

2017-09-18

ستالينجراد، دير الزور والتحولات الاستراتيجية في مسار الحروب

* أحمد جرادات

في الثامن عشر من يناير عام 1943 تم تحرير مدينة لينيغراد، ستالينجراد لاحقا  من الاحتلال النازي، بعد احتلالها لمدة 873 يوماَ، وشكلت تلك الحادثة تحولا جذريا في مسار الحرب العاليمة الثانية لصالح الاتحاد السوفيتي ولحلفاؤه ضد المانيا النازي وحلفاؤها. ومنذ ذلك الحين اعتبرت ستالينجراد، نموذجا أممياَ لحالات الصمود والإبداع الوطني في مواجهة حالات الغزو والعدوان والاحتلال.

اليوم تم فك الحصار عن مدينة دير الزور السورية بعد احتلالها لثلاث سنوات، وصمود حاميتها المكونة من خمسة آلاف جندي، ورغم الحصار، والسيطرة الداعشية على كثير من أحياء المدينة، وخاصة منطقة المطار الذي يعتبر رئتها على العالم الخارجي. مدينة يقطن فيها ما يقارب 200 الف مواطن. ورغم قسوة الظروف في سوريا، وتهديد العاصمة دمشق بالسقوط، والدعم اللوجستي الكبير بالمال والعتاد والمقاتلين لقوى العدوان، صمد الجنود كل هذه المدة، فيا ترى ما سر هذا الصمود الاسطوري في هذا الواقع المعاند؟

ثمة كلمة سر هي واحدة تجمع ما بين ستالينجراد، ودير  الزور، هي عدالة المواجهة والاهم بالمعنى العملي هو احتضان الشعب للجنود والمقاومة في كلتا الحالتين وكل الحالات المشابهة، ما الذي يفسر صمود المقاومة الفلسطينية في غزة امام الحصار لأكثر من عشرة سنوات، وثلاث حروب عدوانية كان اعنفها عام 2014، هو الشعب الذي لا يفقد بوصلته، ويعرف كيف يدافع عن نفسة ويحتضن من يدافع عنه. والشعب دائما في هذه المسالة مبدع وخلاق، وعليه كانت دائما ثقة القيادة الحقيقية بشعبها اساس الانتصارات والتحولات الكبرى.

يبدو انه ليس من قبيل الصدفة، ولا الحديث العاطفي لرجل وصف بالجدية والحسم، رجل ينظر اليه باتخاذ القرارات الصعبة وفي اللحظة المناسبة، في لحظة تاريخية وقف العالم فيها على شفا اشتعال الحروب في بقاع كثير من العالم، بتغذية من الامبريالية العالمية، التي تعاني من ازمات اقتصادية ومالية بنيوية ترافق هذا النظام الرأسمالي، تغذيتها للحروب وخاصة ضد الدول الضعيفة التي لا تشكل فضاء تابع يساهم في حل ولو مؤقت لهذه الازمات. رجل حسم الامر منذ خمسة سنوات في التعبير عن سياسة أممية بان الحكومات فقط شعوبها صاحبة القرار في تغييرها، ولا يجوز لأي قوة كبرى اخرى ان تمارس دور تغييرها، واردف ان هذا الزمن انتهى لأنه يعرض السلم والأمن الدولي للخطر. مباشرة كان يقصد امريكا وحلفائها. ظن الكثيرون ان هذا التصريح النوعي يأتي على شاكلة التصريحات والقرارات العابرة. لكنه مارس هذه القناعة في الميدان، وكانت سوريا محطة التزكية والبرهان لهذه السياسة. اللازمات الثلاث لبوتين، سوريا موحدة وعلمانية، تغيير النظام شأن الشعب السوري، لا لتقيسم سوريا.

في الوقت الذي الذي تشكل حلف دولي واسع يضم عشرات الدول، من بينها دول عظمى كما امريكا، بريطانيا وفرنسا، وضخت مئات مليارات الدولارات، وتم استجلاب عشرات آلاف المقاتلين من كل بقاع الارض، وفتحت الحدود وأنشئت معسكرات التدريب، وكل الدعم اللوجستي على مدار الساعة، وضم هذا التحالف كل التناقضات، بين من يدعي الديمقراطية، والمدنية، واحترام حقوق الانسان، وقوى ارهابية وأيضا دول الديمقراطية وحقوق الانسان  ليست على  اجندتها، بل العكس انتهاكها الرسمي، والهيكلي في بناها، وسولكها الاجتماعي والسياسي لمبادئ وقيم حقوق الانسان والديمقراطية. خليط من التحالفات التي قد تبدو للوهلة الاولى بأنها غريبة، لكنها في ثقافة وسلوك الامبريالية هي عادية ومرحب بها اذا كانت تخدم هذا النظام ومصالحه. تحالف عريض واسع جندت له كل وسائل النجاح لإسقاط الدولة السورية، تحت ذريعة مساندة الشعب السوري لنيل ديمقراطيته المفقودة، وتم تقزيم شعار هذا  التحالف مكرا ودهاءا بان القصة كلها تتعلق بإسقاط رأس النظام الرئيس بشار الاسد.

في ظل هذا الواقع الصعب الذي لف سوريا، صمد الجيش السوري، وصمد النظام والتف من حوله غالبية الشعب، ادراكا بان القضية ليست كما يتم الادعاء تتعلق بالديمقراطية وحقوق الانسان..الخ، بل المقصود هو تدمير الوطن ومقدراته وسيادته، وإخراجه من موقعه المهم في المنطقة، وضرب محور مضاد اولا لإسرائيل، وثانيا للتبعية للنظام الرأسمالي العالمي، الذي تشكل سوريا في هذا المحور، حجر الرحى بفعل الموقع، وثانيا وهذا المهم انها دولة عربية نقية وخارج القدرة على تسويق الادعاء ضد المد الايراني"الشيعي"، المسالة التي منها وعبرها بدأ التجييش والحشد والاعداد للغزو والعدوان على سوريا، لانها الاكثر مؤهلة لقيادة مشروع مدني – عصري في المنطقة، مع تأكيدنا هنا على اهمية احداث عمليات حداثية على صعيد الديمقراطية والتعددية السياسية واحترام حقوق الانسان، ولكن عبر مسار وطني داخلي.

من هنا كانت مستهدفة ويجب ان تستهدف وفق المصالح الامبريالية وأدواتها في المنطقة. مع صمود سوريا، عجزت الدول الامبريالية وخاصة امريكا في استصدار قرارات من مجلس الامن بالتدخل المباشر بسبب اصطدامها بالفيتو الروسي وأيضا الصيني على غير العادة.

ما بقي في جعبة المحور المعادي لسوريا هو أكذوبة الدفاع عن حقوق الانسان، وهذه  المرة تم التركيز على قضية المهاجرين السوريون ومعاناتهم وظروفهم القاسية التي هم صنعوها، اي الحلف المعادي لسوريا، وتم شن حملة اعلامية  واسعة وفي كل الدول، حول نماذج من معاناة المهاجرين، وتصدر رؤساء الدول الغربية الاشارة لها، وذرفت ميركل دموع التماسيح على صورة طفل مهاجر القى به البحر على الشاطيء. ولحق بها اوباما والآخرون، تحضيرا لاستصدار قرار دولي بالتدخل للدفاع عن حقوق الانسان. في ظل هذه الحملة الواسعة ضد سوريا، أدرك الروس بأن الأمر ذهب  بعيدا. وكانت الضربة الحاسمة، استيقظ العالم على انزال الجيش الروسي على الارض السورية، واستجلاب القاذفات ووسائل الدفاع الجوي، وانخراط الروس باللحم الحي في المعركة، والإعلان الروسي الشهير أن (أمن دمشق وسوريا من أمن موسكو). في اعقاب ذلك، تعزز حضور المحور المساند لسوريا، اعني ايران على صعيد المستشارين والتسليح، وحزب الله الحاضر في الميدان قبل ذلك.

التدخل الروسي بهذا الشكل كان حاسما ومربكا لأمريكا، لأنه كان خارج الحسابات الامريكية، وهنا كان خطأ السلوك الامريكي في عدم تقدير ان هذا سيحدث كما قال السفير الامريكي في سوريا سابقا روبرت فورد  حول سوء التقدير، " لم نكن نتوقع تدخل روسي مباشر او إيراني وهذا ما غير المعادلة لصالح الحكومة  السورية، وروسيا وايران وحزب الله هم الرابحون في هذه الحرب".

إذن هنا اتضحت بوضوح عناصر التناقض والصراع، بين محورين أمميين، لكلَ اهدافه ومصالحه، ولكلَ أدواته أيضا، وبذلك انخرط العالم بمجمله في الصراع في سوريا، وهنا نكون امام حرب عالمية بامتياز، ولا تقل اهمية عن ديناميكيات الحربين العالميتين السابقتين، لا في قوة التسليح، والمال، والاعلام، والمدة الزمنية، وحجم الدمار، والاهم طبيعة كل محور، وأهدافه. واتضح ان الصراع في سوريا ونتائجه سيؤسس لمعالم عالم جديد، استنادا الى معايير النصر والهزيمة. انتصار محور امريكا يعني مزيدا من تبعية المنطقة، مزيدا من تسييد اسرائيل في المنطقة، اضعاف لدور روسيا والصين عالميا على كل الصعد، تفتيت المنطقة وإدخالها في صراعات لعشرات السنين على أسس طائفية وعرقية وجهوية...الخ. وانتصار المحور المساند لسوريا، حتما ستتسع مروحته لتطال المنطقة بعكس طموحات وأطماع النظام الامبريالي وأدواته في المنطقة.

ما مر هو توطئة لنتيجة ان الحرب في سوريا هي عالمية، وإبعادها اوسع من الجغرافيا السورية وحتى المنطقة ايضا. وهي في قلب لعبة الامم عالميا.

بهذا المعنى لم يكن من قبيل الصدفة ان يقول بوتين في تعليقه على فك الحصار عن دير الزور مؤخرا، بأنه يشكل تحول استراتيجي في مسار الحرب على الإرهاب. بوتين لم يقل هذا مثلا عند تحرير حلب على أهمية الحدث، لسبب أن دير الزور تشكل بالموقع عقدة اعصاب الهدف لتقسيم سوريا، وتجزئة محور المقاومة. وهي التي كانت مرشحة لاستقطاع الجزء الشرقي الشمالي من سوريا على طريق التقسيم. وهي ايضا الاقرب الى حدود العراق، وهذا التقسيم سيضرب مشاريع التواصل بين البلدين.

من هنا كانت معركة  دير الزور استراتيجية، ومن هنا بعد دير الزور سمعنا ترامب في اشارة غير معتادة بان "هدفنا في سوريا محاربة داعش فقط". ومن هنا وصل الغضب وخيبة الامل الاسرائيلي درجاته القصوى. من هنا ايضا كان بوتين محقا عندما صرح بان فك الحصار عن دير الزور، هو تحول استراتيجي في الحرب على الارهاب، وهنا الارهاب ليس فقط متمثلا في داعش وأخواتها، بل ارهاب مشروع متكامل  تقف خلفه دول كثيرة في المنطقة والعالم، وما داعش والنصرة واخواتهما إلا ادوات تنفيذ للمشروع الاكبر لتجزئة سوريا والمنطقة، وإغراقها في صراعات دموية طويلة الأمد، واحتجاز تطورها ونموها.

في ملاحظة، قد تبدو خارج السياق لكنها في صلبه، في الاسابيع والأشهر الاولى لأحداث سوريا، ارتبكت معظم القوى اليسارية والتقدمية في المنطقة، وكانت شبه عاجزة عن استقراء مسبق لما يدور، بل البعض منها ذهب بعيدا للتصديق بان ما يجري في هو معركة حرية وديمقراطية وحقوق انسان..الخ. وإنصافا للتاريخ، علينا ان نشير بأنه في حينها تميز الحزب  الشيوعي السوري بإصدار ورقة  موقف تحليلية، من البداية لخصت الحالة، وان المستهدف هو سوريا والمنطقة خدمة للمشروع الامبريالي والصهيوني. كانت رؤية صادقة اثبتتها تطورات الاحداث.

  كاتب فلسطيني