بلفور وتداعياته الكارثية من هم الهمج نحن ام هم؟ (الحلقة السابعة) لتجريم انتقاد إسرائيل
سعيد مضية

2017-09-06

بلفور وتداعياته الكارثية من هم الهمج نحن ام هم؟

(الحلقة السابعة)

سعيد مضية

لتجريم انتقاد إسرائيل

شاع مفهوم الأبارتهايد بعد الحرب العالمية الثانية كنظام للفصل العنصري بغرض الاستغلال والنهب المنظم. وتناولت الأمم المتحدة نظام الأبارتهايد عام 1973 فاعتبرته "كل إجراء تشريعي موجّه لحرمان مجموعة أو مجموعات عرقية من المشاركة في الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية، والتعمد في إقرار ظروف تمنع تطور تلك المجموعات".

وعقب انكشاف مظاهر نظام ابارتهايد تطبقه إسرائيل ضد الفلسطينيين، تغير تعريف الأبارتهايد بهدف تبرئة إسرائيل من تهمة الأبارتهايد. تضمن بيان روما تعريفا للنظام يحيله من "إجراء تشريعي" إلى "نظام ممأسس"؛ والفرق كبير بين التعريفين. باتت الشروط المترتبة لانطباق صفة الأبارتهايد تتوزع بين " تصرفات غير إنسانية" .. تقترف في إطار "نظام ممأسس" يقوم على "الاضطهاد المنهجي والسيطرة من جانب مجموعة أو مجموعات عرقية" تحدوها "نوايا الحفاظ على النظام'". يلفت النظر اشتراط قيام "نظام ممأسس" بمقتضاه يتم تسريب إسرائيل خارج النظام. وبالفعل استغل غولدستون بعد ردته ضبابية التعريف واستحالة إثباته، حيث انتزاع نسبة 97 بالمائة من أراضي العرب الفلسطينيين وتقديمها إلى اليهود اعتبرت تصرفات خارج "إطار نظام ممأسس".  استند غولدستون بنفي وجود الأبارتهايد في إسرائيل إلى حقيقة أن " العرب في إسرائيل ينتخبون وينتخبون ولهم أحزابهم العربية ، ويعارضون داخل الكنيست ويستأنفون إلى المحكمة العليا..."، الأمر الذي كان معدوما في نظام أبارتهايد جنوب إفريقيا.

رد عليه ديزموندتوتو في مقالة اتهمه بان "تحليلاته تبسيطية". وقال، "يمكن ملاحظة كيف انتزع من التمثيل الفلسطيني قيمته وجدواه: هل تؤخذ آراء ممثلي العرب كأقلية عرقية ومواقفهم بنظر الاعتبار؟ هل يصدق عاقل احترام إرادة السكان وممثليهم، بصدور عشرات القوانين تباعا من الكنيست، تشرع اضطهادهم وتقمع حريات التعبير عما يلحقهم من ضيم؟"

جسد الصحفي الإسرائيلي جوناثان كوك نظام الأبارتهايد في مصالح ومؤسسات ازدهرت في ظل الاحتلال وفوق أراض مصادرة من أصحابها العرب : الاحتلال أكثر من استيطان. جوهر المشكلة أن "الاحتلال مشاريع اقتصادية يديرها المستوطنون، وهي تتجاوز الاستيطان إلى حضانة تيار مهيمن، تيار التعليم الديني يسمم العقول الطرية، وكذلك السيمانارات التي يتلقى فيها الصبيان المتدينون تدريبات تؤهلهم ليكونوا ضباطا للجيش ويتثقفون يوميا بأنهم الشعب المختار ولهم الحق المقدس في إبادة الشعب الفلسطيني. ولهؤلاء المتطرفين المتمسكين بصهيونيتهم مجموعات سكانية مدينية في الضفة الغربية تلائم نمط حياتهم الدينية. وهؤلاء لن يتخلوا ببساطة عن المستوطنات... فهي عقارات تدر فوائد جمة جرى نهبها من أصحابها الفلسطينيين. وهي مزارع تعتمد في بقائها على سرقة الأرض الفلسطينية ومصادر المياه الفلسطينية. 

"والاحتلال يوفر أراض تختبر عليها الأسلحة المتقدمة ووسائل المراقبة المتطورة من إنتاج الصناعات العسكرية وأجهزة المراقبة والتجسس التي تدر الأرباح الجزيلة . كما أن الاحتلال ينعش خدمات الأمن والمخابرات، حيث يعمل الأشكيناز وينتقلون منها إلى قيادة الأحزاب السياسية. لن يتم التنازل بسهولة عن أي من هذه المكاسب. ناهيك عن تكاليف ضخمة سوف تدفع للفلسطينيين تعويضات عن الخسائر ولمن طردوا من ديارهم".

اجري البروفيسور جون دوغارد بحثا مفصلا قدمه إلى محكمة راسل لمحاكمة الأبارتهايد الإسرائيلي(5ـ7 نوفمبر تشرين ثاني 2011) حلل فيه نظام الأبارتهايد كما مورس في جنوب إفريقيا لمعرفة مدى انطباقه على ممارسات إسرائيل في الأراضي الفلسطينية المحتلة، خاصة في الضفة الغربية؛ بين دوغارد ان العنصرية الممارسة في إسرائيل ابشع واشد ضراوة.

 لم يعد كافيا ممارسة التمييز بنموذجه سالف الذكر؛ ففي اكتوبر 2013 أقرت حكومة  نتنياهو مشروع قانون يميز صراحة ضد العرب، ويتناقض مع بيان إعلان الدولة وقرار التقسيم الصادر عن الجمعية العمومية للأمم المتحدة في نوفمبر 1947. القانون المسمى قانون قومية الدولة صارخ في عنصريته يتستر بقانون الخدمة العسكرية؛ فهو يعزز مكانة المستوطنات ويزيد مخصصات الاستيطان بالموازنة كما يعزز المكانة القضائية لليهود في كل ارض إسرائيل، ما يعني فرض سيادة الدولة على كامل فلسطين التاريخية. ويمنح القانون الأفضلية لليهودي في مجال التوظيف والحصول على حق السكن بالجامعة ودخول محلات الخدمة العامة والقبول في مؤسسات التعليم العالي. علاوة على أنه يفرض الشريعة اليهودية مرجعية دينية لجهاز القضاء في إسرائيل. ويلزم القانون المحكمة العليا في إسرائيل تفضيل اليهود على العرب.

أحيت إسرائيل المحرقة ضمن تمثيلية درامية تركت انطباعا عميقا لدى أنصار إسرائيل وما زالت توظف لمنع انتقاد إسرائيل التي أدرجت جميع ممارساتها الجائرة بحق الشعب الفلسطيني ضمن مبرر منع تمرير المحرقة.

فقد نشر اليهودي الهنغاري مالكئيل غرينفالد (البالغ من العمر 71 سنة آنذاك، وأحد الناجين من الهولوكوست) كرّاساً صغيراً يتهم فيه اليهودي الهنغاري رودولف كاستنر (القيادي الصهوني البارز وأحد أقطاب الـ 'ماباي'، حزب بن غوريون) بالتعاون مع النازيين خلال سنتَيْ 1944 و1945. ذكر كيف نسق كاستنر مع الضابط النازي المعروف أدولف إيخمان قائد الـ 'غستابو'، عملية شحن نصف مليون يهودي هنغاري إلى معسكرات الإبادة، بعد أن طمأنهم كاستنر وبعض معاونيه إلى أنّهم سوف يُنقلون إلى مساكن جديدة، حتى أنّ البعض منهم تسابقوا إلى صعود القطارات بغية الوصول أبكر والحصول على مساكن أفضل! وكان الثمن إنقاذ حياة كاستنر وبعض أقربائه، وغضّ النظر عن هجرة 1600 يهودي إلى فلسطين.

تحول الكرّاس إلى قضية حين رفع كاستنر دعوى أمام القضاء ضدّ غرينفالد، بتهمة تشويه سمعته، وبعد أخذ وردّ أصدر القاضي بنيامين هاليفي حكمه بأنّ كاستنر تعاون بالفعل مع النازيين وباع روحه للشيطان. فضح يوسيف غرودزينسكي، أستاذ الألسنيات بجامعة تل ابيب 'قضية كاستنر'. أسفرت القضية عن فضيحة للصهيونية. كان لا بد من التفكير في حيلة للتغطية عليها.

أفرج عن كاستنر بكفالة بعد استئناف الحكم الذي صدر بإعدامه ؛ وذات ليلة كان عائدا إلى بيته اطلقت عليه النار واردي قتيلا، بقيت حكايته سبة في جبين الصهيونية ينبغي إزالتها.

فاجآ بن غوريون أعضاء الكنيست بنبأ مذهل : كان لابد من إبلاغكم ان ادولف أيخمان موجود بين ايدينا. لم تأت محاكمة أيخمان وإعدامه تنفيذا لعقوبة، بل تصفية لأحد شهود التعاون الصهيوني –النازي.

فى١١ مايو ١٩٦٠، وكان فريق من الموساد بانتظاره أمام منزله لدى عودته من عمله فى مصنع مرسيدس، بالأرجنتين، حيث انتظر واحد أمام بيته فى انتظار وصول الحافلة، فى حين تظاهر اثنان من العملاء بأنهما يصلحان سيارة أما الرابع فقد استقل الحافلة للتأكد من أنه سيغادر، وترجل أيخمان من الحافلة باتجاه بيته وطلب منه أحد العملاء قرب السيارة سيجارة فوضع أيخمان يده فى جيبه فتم تقييده فلما حاول المقاومة ضربه الآخر على مؤخرة رأسه وأفقده الوعى. وضعوه فى سيارة واقتيد إلى منزل آمن. ومنه نقل إلى إسرائيل.

بدأت محاكمة أيخمان فى القدس يوم ١١ إبريل ١٩٦١ وجلس أيخمان داخل كشك زجاجى مضاد للرصاص لحمايته من الاغتيال. وبدأ مسلسل درامي بمحاكمة ايخمان أُشرِك فيها شهودٌ لقنوا ماذا يقولون. جاءت المحاكمة مسرحية درامية صادمة  للرأي العام في اسرائيل والعالم. خلقت مناخ عطف على إسرائيل وظفته الصهيونية صك براءة لإسرائيل، ومسوغا للطلب بمنع انتقاد ممارسات إسرائيل باعتبار ذلك ترويجا لمعاداة اليهود.

وحكم عليه فى ١٥ ديسمبر بالإعدام وأعدم فى ٣١ مايو ١٩٦٢بسجن الرملة بإسرائيل.

منذ ذلك التاريخ اكتسبت إسرائيل مناعة سياسية لممارساتها. تشكل مناخ موات لإسرائيل استثمرته سريعا بحمل الدول على استصدار قوانين تجرم انتقاد تصرفات إسرائيل وترادفها  باللاسامية. أدخل موضوع المحرقة، طبقا للصياغة الصهيونية، في المنهاج المدرسي وأخذت تتوجه إلى معتقل اوشفيتز رحلات الطلبة في الصفوف الثانوية العليا، حيث يتلقون محاضرات عن العذابات التي أنزلت باليهود، يخرج الشبان من المحاضرات وقد افقدهم الغضب صوابهم ويودون لو يتجولون في الشوارع يعثرون على نازيين يبطشون بهم. ويقال لهم حينئذ ان النازيين الجدد موجودون في اطرافكم، إنهم الفلسطينيون. اشتط ميناحيم بيغن في اتهام الفلسطينيين بالنازية.

 وممن تداعت في فكره الشواهد على عنصرية إسرائيل في ظروف المحرقة  إيفان جونز أستاذ الاقتصاد السياسي المتقاعد  بجامعة سيدني. كتب، في بحث مفصل وموثق نشرته مجلة كاونتر بانش تحت العنوان "الدولة المارقة" يستعرض تاريخ النشاط الصهيوني بفلسطين. نقل تصريحات وكتابات موثقة عن زعماء الهاغاناة والوكالة اليهودية تؤكد صراحة نوايا اللجوء إلى العنف لطرد العرب من فلسطين. وممن نقل عنهم الباحث يوري ديفيس، مؤلف كتاب "الأبارتهايد الإسرائيلي"، يورد فيه مقابلة أجراها مع مستوطن عبّر عن لسان حال الطيارين الإسرائيليين في محرقة غزة الأخيرة. طرح ديفيس تصريح الأكاديمي المشهور والفيلسوف الإسرائيلي، يشاعياهو ليبوفيتش إثر حرب1967 "اذا توجب احتلال شعب آخر فمن المستحيل تجنب طرائق النازية"؛ علق احد المستوطنين على كلام ليبوفيش: ليبوفيتش محق، نحن يهود نازيون، ولم لا؟ حتى في هذا اليوم انا على استعداد للقيام بأعمال قذرة لأجل إسرائيل .. أن أقتل أكبر عدد ممكن من العرب، أن أطردهم،  أحرقهم.. ولتشنقني إن رغبت بصفتي مجرم حرب... وما لم تدركوه بعد أن الأعمال القذرة للصهيونية لم تكتمل؛ حقا كان بالإمكان إكمالها عام 1948...". 

اشتطت الدعاية الإسرائيلية في تقديم صورة للفلسطينيين منفرة وتحريضية. كلما اقترب المشروع الصهيوني من التطهير العرقي تشتط الدعاية الإسرائيلية في التحريض على الكراهية والتطهير العرقي. وهذا ما حمل الكاتبة دينا مطر ، الأستاذة الجامعية في كلية الدراسات الشرقية والأفريقية بلندن على  عنونة مقال لها حول الدعاية الإسرائيلية "التطهير العرقي في الدعاية الإسرائيلية. وتقول في مقالها:

وقد عملت إسرائيل، عبر مركز أبحاثها ومجموعات الضغط المناصرة لها والمنتشرة في العالم، على تطوير استراتيجيتها الإعلامية عبر استخدام الخطاب الدعائي للإشارة إلى اليهود والمواطنين الإسرائيليين، كضحايا الاضطهاد المستمر الذي يمارسه الفلسطينيون، بالرغم من أن لهذه المصطلحات معاني قانونيةً ومعايير محددة ينطبق عليها الفعل، وتصنّف وفقاً للقانون الدولي جرائمَ ضد الإنسانية." غير أن إسرائيل توظفها لتبرير سياسات الأبارتهايد بذريعة منع تكرار دور اليهودي الضحية".

تشير الباحثة إلى خطاب نتنياهو المصوّر حول "التطهير العرقي هو الأحدث في سلسلة فيديوهات خطّط لها ونفذها «ديفيد كيز»، المتحدث باسم حكومة نتنياهو لوسائل الإعلام الأجنبية، وأحد الاستراتيجيين الرئيسيين المسؤولين عن الحملات المتنامية للترويج للدعاية الإسرائيلية في وسائل الإعلام الاجتماعية. ومنذ تعيين نتنياهو رئيسا لحكومة إسرائيل نشر ثمانية أفلام قصيرة تتناول مجموعة متنوعة من القضايا تلقاها أنصاره في إسرائيل والولايات المتحدة بحفاوة كبيرة. "غزت (أرض إسرائيل) مجموعات مختلفة من الآشوريين والبابليين والإغريق والعرب والصليبيين والإمبراطورية البريطانية - وآخرهم – الفلسطينيون. أراد اللوبي الإعلامي الإسرائيلي من خلال هذا المشهد التمثيلي أن يقدم اليهود كشعب نجا من سلسلة غزوات وحشية وغزاة، وبقي منهم الفلسطينيون.

ولعب دورا في هذا السياق أدب الأطفال. واشتهرت غيئولا كوهين، صاحبة الأبارتهايد، في كتابة روايات الأطفال ذات المنحى العنصري. ولها دار نشر اهتمت بإصدار الروايات المحرضة على كراهية العرب. انضمت لحزب حيروت اليميني وانتخبت إلى الكنيست على قائمته عامي 1973و77. وهي من أشد المعارضين لاتفاقية كامب ديفيد مع مصر، واعتبرت مخططات السلام "زرعت في جسم فقام برفضها". وعلق أوري أفنيري على رواية كتبتها، تتحدث عن اختطاف رياضيين إسرائيليين على أيدي "إرهابيين" عرب، وينجح الرياضيون بعد جهد وقلق عامين في الإفلات من قبضة الخاطفين. وفي الرواية يبرز العرب في صور سلبية مثيرة للاشمئزاز. يقول أفنيري إن الحكاية المفبركة المثيرة لكراهية الآخر سوف تسفر بعد خمسة عشر عاما عن جلوس فاشيين في مقاعد الكنيست. وكانت نظرة نبوئية ثاقبة . يجدر بالذكر ان الوزير الليكودي في حكومة نتنياهو الحالية، تساحي هنيغبي هو ابن صاحبة الأبارتهايد، واعتاد وهو طالب بالجامعة قيادة هجمات الطلبة على الطلبة العرب مستعملا سلاسل الحديد.

اتبعت إسرائيل أسلوب غسيل الدماغ إزاء اليهود الشرقيين ، تغرس في وعيهم حال وصول البلاد عقد النقص، انهم يحملون ثقافة متخلفة وانهم بحاجة إلى التثقف من جديد. واليهود القادمون من الأقطار العربية هم عرب من أصول عربية ذوو ديانة يهودية. لكن السياسة قصيرة النظر دفعت هؤلاء في أحضان الصهيونية كي تجندهم ضد أبناء جلدتهم. أدرك بن غوريون هذه الحقيقة، واخترع لها الدواء المر؛ لكي يتحاشى عودة هؤلاء او نسلهم إلى أصولهم عمد إلى  اتباع سياسة خالية من الإنسانية. فقد أوعز بخطف الولادات الجديدة من أبناء وبنات اليهود الشرقيين ، ومعظمهم يمنيون، ويبلَّغ ذووهم بوفاتهم، حيث يرسلون إلى أسر أشكينازية في أميركا واوروبا كي ينهلوا "ثقافة يهودية خالصة". لوحظت ظاهرة اختفاء الولادات الجديدة  في السنوات الأولى من عقد الخمسينات. مؤخرا كلفت حكومة نتنياهو تساحي هنيغبي، الوزير بالحكومة، التحقيق في الظاهرة، واعلن التوصل إلى غياب بضع مئات من أطفال اليهود، وتقرر إبقاء نتيجة التحقيق سرا حتى سبعينات القرن الحالي.

كتب عن القضية وفك لغز اختطاف الأطفال الصحفي الإسرائيلي المقيم في الناصرة ، جوناثان كوك ، وقال إن عددهم تجاوز الثمانية آلاف (19).

مباشرة عقب تفجر  انتفاضات الشعوب العربية عام 2011 ضد انظمة الليبرالية الجديدة صدر بيان حمل تواقيع عدد من الشباب والشابات من الجيل الثالث أبناء أسر مهاجرة من بلدان الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، أعلنوا انفضاضهم عن الصهيونية سياسيا وثقافيا، وتعهدوا "بالتحديد علينا أن ندخل في حوار وتضامن مع نضالات المواطنين الفلسطينيين داخل إسرائيل، أولئك الذين يناضلون من اجل حقوق اقتصادية وسياسية متكافئة، وتصفية القوانين العنصرية ، ومع نضال الجماهير الفلسطينية في الأراضي الخاضعة للاحتلال العسكري الإسرائيلي في الضفة وغزة ومساندة مطالبهم بإنهاء الاحتلال وإقامة دولة وطنية مستقلة". قدم الشباب والشابات أنفسهم جيلا يتنصل من مظاهر ثقافية فرضت عليهم سابقا "أولا في إسرائيل التي تتصور نفسها وثقافتها تعود لمكان ما في أوروبا وأميركا الشمالية، ثم العرب الذين يتصورون اليهود أوروبيين وفضلوا إقصاء تاريخ اليهود العرب، باعتباره فصلا هزيلا او معدوما في التاريخ العربي.. وأخيرا بين اليهود الشرقيين أنفسهم، ممن انتابهم الخجل من ماضيهم في العالم العربي".

لم يسمع ثانية صوت هذه المجموعة ؛ فالأجهزة تهب في حال  طوارئ لمحاصرة وقمع صوت كهذا يفصم علاقة الصهيونية بجماهير اليهود ويفضح طبيعتها الطبقية ؛ إذ يقول بيان الجماعة "ونحن أيضا نعيش في ظل نظام، رغم ادعائه ’التنوير'و’الديمقراطية (..) إن هذا النظام يدوس على الحقوق الاجتماعية والاقتصادية لمعظم المواطنين، ويمضي في سيرورة متواصلة من تقليص الحريات الديمقراطية ويقيم حواجز عنصرية ضد اليهود العرب والشعب العربي والثقافة العربية". وهذا يعد خطا أحمر بتجاوزه تحول إلى النضال الطبقي المتزامن مع الانفلات من قيود أيديولوجية وثقتها عقود من تعبئة الوعي الزائف والانتماء الموهوم.

كان أبراهام بورغ  قد ألقى على كاهل سياسات الصهيونية وزر كسر حلقة يمكن أن تربط إسرائيل بمحيطها العربي، مطالبا بالتحرر من عقد الاضطهاد المتولدة عن النازية.

هكذا بالتدريج تم قلب البدهيات  ليتحول اصحاب الأرض الأصليين غزاة والغزاة أصحاب وطن عليهم تحرير وطنهم من آخر الغزاة!! يدرك نتنياهو وأشياعه أن المكيدة لا تنطلي على الشعوب خارج إسرائيل؛ لكن الليكود اتخذ منذ تسلم الحكم عام 1977 منحى الإعلان عن بناء المستعمرات وسيلة ثقافية لإشاعة ثقافة الكراهية ضد العرب الفلسطينيين. بعد ذلك يتجاهل الساسة الأميركان كل ما يصدر عن إسرائيل من ثقافة كراهية وينصحون العرب بالتخفيف من كراهيتهم لليهود باعتبار ذلك حاجزا يحول دون التسوية السلمية!!

الشرق الأوسط على نار  

على الصعيد الإقليمي شغلت إسرائيل طبقا لنبوءة هيرتسل، موقع القلعة الأمامية للغرب بوجه حركة التحرر العربية. دأبت "القلعة" على تصويب فوهات مدافعها وبنادقها نحو الأقطار المجاورة، تشغلها بالحروب وتستنزف ثرواتها الهزيلة في شراء الأسلحة. غارات على القرى الحدودية لما تبقى من فلسطين المنضمة إلى الأردن، وتحرشات بسوريا واعتداءات على غزة وجنوب لبنان، وتوترات مع مصر جمال عبد الناصر. دبر بن غوريون مؤامرة تفجيرات في القاهرة ومصر اكتشفت حقيقة مدبريها ومنفذيها، شارك الموساد الإسرائيلي في عملية اختطاف المهدي بن بركة، الشخصية الوطنية من المغرب واحد القادة البارزين في ستينات القرن الماضي للنضال المشترك في آسيا وإفريقيا واميركا اللاتينية. 

لدى سرد أنماط المذابح ومختلف الاضطهادات ومصادرة الأراضي من مالكيها العرب تتكشف حقيقة الديمقراطية في إسرائيل، التي طالما تغنوا بها واتكأوا عليها لتبرير جرائم الحرب . معيار الديمقراطية طبيعة النظرة للمعارضة وللأقليات وأسلوب التعامل معها. وكما طرح المؤرخ بابه القضية، فإن "إسرائيل قطعا ليست ديمقراطية . إن بلدا يحتل شعبا آخر طوال ما يزيد عن أربعين عاما ويحرمه من أبسط الحقوق المدنية وحقوق الإنسان لا يمكن أن يكون ديمقراطيا. وإن بلدا ينتهج سياسة تمييز ضد الفلسطينيين الذين يشكلون خمس شعبه داخل حدود 67 لا يمكن أن يكون ديمقراطيا. وإنه لأمر عديم الجدوى ولا معنى له أن  تتيح للناس المشاركة في الجانب الشكلاني من الديمقراطية ـ  ينتِخب أو يُنتخب ـ دون أن تتيح نصيبا في الصالح العام ، أو في الموارد المشتركة للدولة، او تمارس التمييز ضدهم رغم حقيقة أنك تسمح لهم المشاركة في الانتخابات. لن تجد توصيفا معلوما للديمقراطية ينطبق على الحالة الإسرائيلية".

أخذت تتصاعد التوتراث وتشيع ثقافة الكراهية بين اليهود من خلال العمليات العسكرية لوحدات الجيش  وأعمال التطهير العرقي. شاعت نظرات  الازدراء إلى العرب داخل إسرائيل، فكانت النظرة العرقية البهيمية إيذانا بحروب متلاحقة ضد الأقطار العربية. "قررت إسرائيل منذ مرحلة مبكرة من نشوئها تفوق العنصر الأبيض، ومنذ أتى وجلب هنا اليهود من الأقطار العربية، وأصبحوا هنا يهود ا شرقيين نعاملهم وكأنهم دون البشر، ولم يعرضوا عليهم ولم يمكنوهم من الاندماج بالسلطة والأرض وأجهزة القوة ووسائل الإعلام. اصبحوا سريعا مواطنين، لكن من الدرجة الثانية...يعيشون مع علم وتجربة دائمة للدونية."(15).

درجت ثقافة الكراهية في الحياة الاحتماعية  "نسمح لنفسنا العيش براحة كبيرة مع ورثة الشرير الألماني، المريح النوعي،الجمالي، والتمتع بالفلسطينيين كيس ضربات الملاكم للتنفيس عن شحنات العدوانية والغضب والتاريخ المخزونة فينا أكثر مما ينبغي"(15). كثيرا ما يُقارن بورغ دولة إسرائيل ببداية ألمانيا النازية. ما زال هتلر يقرر مسار تفكيرنا. ماضي المحرقة هو حاضر، في جهاز التعليم مثلا، بدون موضوع دراسة المحرقة لا يتسنى للطالب اجتياز امتحان الثانوية العامة المعروف بالبجروت. وكان وزير الخارجية الإسرائيلي، آبا إيبان، قد أطلق الاسم “حدود أوسفيتش” على حدود عام 1949"(15). 

اختطت إسرائيل لنفسها منذ أيامها الأولى نهج الاغتراب عن المنطقة، وان لا تكون دولة لمجموع شعبها. أصر بن غوريون على اتباع سياسة العداء للعرب عامة والتحالف مع القوى الامبريالية، وحظي في مساعيه بدعم الدول الامبريالية. في عشرينات القرن الماضي روجت بريطانيا ثقافة معاداة السوفييت والشيوعية. أعلن لينين، قائد ثورة اكتوبر الاشتراكية  تحالف ثورته مع حركات التحر ر الوطني للشعوب التي تستعبدها الامبريالية . ردت الدعاية البريطانية بحملة اكاذيب لشيطنة الدولة السوفييتية والفكر الاشتراكي. الصقت بالشيوعية والاشتراكية تهم تفكيك الأسرة والتنكر للتقاليد وإشاعة النساء ونشر الإلحاد. توجه مندوب صحيفة التايمز اللندنية إلى الخليفة العثماني القابع في الآستانة تحت حراب الإنجليز بسؤال حول الشيوعية والدين ؛ ثم توجه بالسؤال إلى شيخ الأزهر وروج أجوبتهما على نطاق واسع. ونشطت حملة ضارية ضد الشيوعية والسوفييت شملت العالم العربي ، وبرز في هذه المرحلة التي لم تنشأ فيها احزاب شيوعية عربية الشيخ التفتزاني يروج الدعاية ضد حركات التحرر الوطني لدعم السيطرة الكولنيالية للامبريالية.

وعلى نفس النهج مضت إسرائيل منذ قيامها؛ ناصبت العداء حركات التحرر والتقدم.دأبت دعاية اسرائيل على مهاجمة عبد الناصر، تصفه بالديكتاتور، ولم تلصق التهمة بالأنظمة الأبوية الاستبدادية التابعة للامبريالية. إسرائيل واصلت تصدير الأزمات والفتن داخل مجتمعات المنطقة واشغالها عن ولوج الحداثة والتنمية بالحروب المستدامة، تسخّر خطايا الحكام العرب في اضطهاد الأقليات العرقية والدينية وإشاعة شوفينية القومية الكبرى كي تلهي الجماهير العربية وغير العربية عن ازماتها الاجتماعية.  من جانب حظيت إسرائيل بأشكال الدعم المادي والمعنوي من قبل دول الغرب؛ ومن جانب مقابل شاركت إسرائيل في نصب المكائد وتدبير الدسائس وتصدير الأزمات بهدف حرف المجتمعات العربية عن ولوج الديمقراطية والتقدم الاجتماعي، باعتبارها المدخلات الحداثية الضرورية لتوطيد دعائم الاستقلال الوطني والتوحد القومي. لم تستهدف إسرائيل بالأذى الشعب الفلسطيني وحده؛ إنما قاومت الحركات الوطنية العربية كافة ، وتصدت لكل نزعة ديمقراطية في العالم العربي.

اما الولايات المتحدة، التي تكاد تطيح برئيسها المنتخب على إيقاع تهم التدخل الروسي في انتخابات الرئاسة،فيصعب تعداد عمليات تدخلها  لتزوير الانتخابات او الإطاحة بالحكوملت المنتخبة مثل حكومة بربيز في غواتيمالا وحكومة مصدق في إيران، ثم حكومة سليمان النابلسي في الأردن عام 1957.  

كيف اطاحت خطة اجاكس بحكومة محمد مصدق في إيران؟  في البداية أثارت القلاقل: زعران استاجرتهم المخابرات الأميركيّة والبريطانيّة انطلقواً في الشوارع منتحلين صفة أعضاء في حزب «توده»، يهدّدون القيادات الدينيّة بالقتل في حال عدم دعم مصدّق. وكانت كل وسائل وأدوات وسيّارات وشاحنات الأوغاد هؤلاء من تمويل الحكومة الأميركيّة. تلقى الزعران الأوامر بقذف الجوامع ورجال الدين بالحجارة أمام المراسلين الأجانب، ولوم عناصر «توده» على ذلك. أبدى المسؤول الأميركي عن عمليّة «اجاكس»، كيرميت روزفلت، إعجابه بما حصل: يمكنكَ أن تبتاع "مظاهرة من الغوغاء". والطريف أن الذين انتحلوا صفة «توده» في الشوارع (بأمر من المخابرات الأميركيّة) هم أنفسهم الذين تظاهروا فيما بعد للمطالبة بعودة الشاه، أو للترحيب به.

شجع النجاح في عملية اجاكس الحكومتين البريطانية و الأميركيّة على نقل التجربة إلى سوريا . قدمت الأموال لحزب الشعب السوري لشراء ضباط من الجيش، وتم التفاهم مع الإخوا ن المسلمين على التظاهر في عدد من المدن. وخطة الفوضى هدفت إلى إعطاء ذريعة من أجل تدخّل القوّات العراقيّة (الموالية بالكامل لبريطانيا). لكن رسالة من وزير الخارجيّة البريطاني إلى أنتوني إيدن تفضح هدفاً أبعد للخطّة (اسمها كان "عمليّة ستراغل") وهو إلحاق الدولة السوريّة بالعراق الموالي للاستعمار البريطاني.تكشف الأرشيفات الوطنية للولايات المتحدة عن خطط وضعتها وكالة المخابرات المركزية الأميركية منذ عقود لتدمير حكومة سوريا. ومن هذه الخطط تدبير هجوم ضد الأراضي السورية من ثلاث دول معادية محيطة في آن واحد: العراق، إسرائيل، تركيا. مهمة إسرائيل رفع درجة التوتر من الحدود اللبنانية دون الدخول مباشرة في حرب.

وكتب سين آدل طباطبائي في 5 آذار 2017 يقول: في وثائق مركز بروكينغز للدراسات "مذكرة الشرق الأوسط 21: إنقاذ سوريا: تقييم خيارات تغيير النظام"، وفيها يقال: سيكون مساهمة تركيا أمرا محتما لضمان النجاح، وستشجع واشنطون الأتراك للعب دورا مساعدا اكثر من ذي قبل. ثم يمضي إلى القول، "ولدى المخابرات الإسرائيلية معلومات اكثر عن سوريا، علاوة على أرصدة قابعة داخل النظام يمكن تسخيرها لإَضعاف قاعدة قوة النظام والضغط من اجل إزاحة الأسد(الأب).

لم تقبل الامبريالية البريطانية او الأميركية في يوم من الأيام استقلالية القرار السياسي لبلد عربي. وتصدت الدبلوماسية الأميركية لعبد الناصر طوال عقد الستينات تفرض على مصر الحصار الاقتصادي وتمنع وصول القمح والسلع الأساسية؛ كما تراجعت عن تمويل سد أسوان وحرضت إسرائيل ونظام السعودية على مجابهة مصر الناصرية بالعداء وزودتهما بالسلاح، خاصة لمشاغلة الجيش المصري في اليمن. كما حرضت كلا من عراق نوري السعيد وتركيا على مهاجمة سوريا وإخراجها من جبهة مقاومة إسرائيل والهيمنة الامبريالية.