حينَ يهدِمُ أعداؤكَ بيتَك

2017-08-21

حينَ يهدِمُ أعداؤكَ بيتَك

خالد جمعة

حين يهدم أعداؤك بيتك، تنحني القيم التي بناها الإنسان على مر التاريخ، ليس فقط لأن سياسة العقاب الجماعي مرفوضة، بل لأن سياسة العقاب الفردي المرتبطة بممتلكات مرفوضة أيضاً، فالبيت كائن مستقل، يبني علاقة مع أصحابه، مع جيرانه، مع من لمس جدرانه، من بناها ومن سكن فيها، من نظر ذات يوم من نوافذها، وعلق لوحةً على جدرانها، البيوت كائنات تتنفس وتحلم وتتذكر، وتحتفظ بالأسرار وتفشيها أحياناً، تماماً مثلنا، بل وأفضل منا، لأننا نغادر أماكننا أحياناً، نهاجر أو نذهب إلى العمل، لكن البيوت لا تغير أماكنها، تعتز بالبقعة التي تبنى فيها، لذا تبقى إن استطاعت إلى الأبد، لكن الأعداء يعرفون ذلك فيقتلونها، البيوت تستشهد أيضاً، وكما يسقط شهيد بكامل حنّائه وذكرياته وعنفوانه، بكامل هيبة الحياة فيه، تسقط البيوت كذلك، حاملة معها أفكارها وذكرياتها وخطوات من أقاموا فيها ومن زاروها مصادفةً، ومن تفرجوا على الغروب من أسطحها، تسقط حتى بشقوقها التي أعدّها الزمن الطويل مثل الخطوط التي تظهر في يد ووجه العجائز.

حين يهدم أعداؤك بيتك، تسقط النظريات والتنظيرات، ويقبع الكون في حفرةٍ مظلمة ونتنة، وتصبح كل العبارات التي تتحدث عن الإنسانية محض هراء لا يصلح لإسكات طفلٍ رضيعٍ أصبح بيته الوحيد هو حضن أمه بعد أن باتت العائلة تنظر إلى جثة بيتها من الشارع القريب، تتحول المساحة إلى قبر، وتنهار الأسس التي قام عليها النوع البشري، فيعود كل شيء إلى أصله الحيواني، قبل أن يتطور ليصير إنساناً.

حين يهدم أعداؤك بيتك، لا تكمن الفكرة في انهيار السقف، وانحناء الجدران فحسب، بل تدخل في تفاصيل أكثر دقة، حين يسقط الإناء الذي يحتضن زهرة قرنفل عن حافة النافذة التي تتهاوى مع ضربة البولدوزر، وحين تسحق الجرافة الحائط الذي كنت تسند إليه ظهرك وأنت تراقب بنات الجيران الذاهبات إلى المدارس، وحين يفجّر الديناميت مخزن ألعابك حين كنت صغيراً، فتعثر على أشياء نسيتها، لكنها في هذه اللحظة تكون مفتتة وخالية من الحياة ولا تصلح للذكريات، لأنها ميتة مع البيت، كل شيء داخل البيت يموت حين يموت البيت، لأنه يشبه الجنين والبيت هو رحم الأم، وما من جنين عاش بعد أن ماتت أمه.

حين يهدم أعداؤك بيتك، تنتصر الآلة والرصاصة على الحجارة، فتبكي وتقول: لن يسرقوا ذكرياتي مع ذلك، لكنك تعرف أنك تخاتل ذاتك، فالذكريات دائما بحاجة إلى مكان، والرأس لا يكفي ليحيل شجرة في الخيال إلى ظل، لا يكفي ليمنح حلمك ألوانه ورائحته وملمسه، لكنك تتماسك وأنت تنظر إليه يتهاوى مثل لعبة أطفال على شاطئ البحر، فتبدو أنت من بعيد لمن يراقبك، كولد مهزوم، وفي داخلك أشياء تسقط مع كل قطعة قرميد، مع كل قطعة خشب، مع كل دمعة يذرفها البيت الذي يستنجد بك وبالعالم وبالأديان وبالسياسات، ولا أحد يجيبه، تخرج أسلاكه من جدرانه مثل أحشاء حية، تتدفق المياه من أنابيبه مثل دم يسيل، ولا أحد يريد أن يفهم ما يفعله ذلك بك، العالم مشغول بالدفاع عن نفسه ضدك، ضدك أنت بالذات، فذكرياتك وبيتك يهددهم على ما يبدو، وهنا عليك أنت أن تفهم كذلك.

حين يهدم أعداؤك بيتك، لا تحاول أن تبني بيتاً جديداً في المكان ذاته، بل ابحث عن مكان آخر، فمن غير المشروع أن تقيم بناءً فوق ضريح.