بدايةُ التّاريخ

2017-04-01

بدايةُ التّاريخ

فريد غانم

التّاريخَ الذي يكتبُه المنتصرونَ دومًا، لم يتوقَّفْ عندَ نوافذي إلّا ليرتاحَ قليلًا من أولئك الكَتَبةِ المأجورين الذين قَتَلُوا أفلاطونَ والفارابي وفريدريك نيتشه بدمِهم الباردِ، وأعطوا الحرّيّةَ الكاملةَ للتّماثيل التي يجبلونها بأيدي سدَنَتِهم، ثمَّ أعلنوا أنّ التّاريخَ انتهى في اللَّحظةِ التي بلغَ فيها السَّاحلَ المُسيَّجَ بالبَوارجِ وعُطْبٍ مُزمِنٍ في الذّاكرة

كنتُ، كُلَّما انهارَتِ الشّمسُ على الأرضِ في أقصى جنوبِ الشَّرْقِ، أرفعُ شمسيَّتي كيْ لا تحترقَ رُمُوشي وزغَبُ أطفالي، وكانَتْ تدخلُ العصافيرُ التي أعرفُها في أبواقِ الشَّجَرِ الطَّاعنِ في السِّنِّ، حفاظًا على ذيولِها من ألسنةِ اللّهيبِ البعيدِ بُعْدَ آخرِ الكونِ عنّا. وكنتُ، كُلَّما تكشّفت الأقدامُ المدلَّلةُ في ليالي شتاءِ الأسِتانَة، أُصابُ بالزُّكام بالأصالةِ عن نفسي والنّيابةِ عن أنفِ السُّلطان. وكنتُ، كذلك، كُلَّما تجمَّدَ نهرُ المسيسيبّي فوقَ الأسماكِ المُصابةِ بالغَفْلةِ، وانهارَتْ مياهُ الطُّوفانِ في البُحيراتِ السَّبْعِ، أرتدي معطفًا كشميريًّا حفاظًا على ولائِيَ للأبوابِ العالية.

غيرَ أنّ التّاريخَ الذي يكتبُه المنتصرونَ دومًا، لم يتوقَّفْ عندَ نوافذي إلّا ليرتاحَ قليلًا من أولئك الكَتَبةِ المأجورين الذين قَتَلُوا أفلاطونَ والفارابي وفريدريك نيتشه بدمِهم الباردِ، وأعطوا الحرّيّةَ الكاملةَ للتّماثيل التي يجبلونها بأيدي سدَنَتِهم، ثمَّ أعلنوا أنّ التّاريخَ انتهى في اللَّحظةِ التي بلغَ فيها السَّاحلَ المُسيَّجَ بالبَوارجِ وعُطْبٍ مُزمِنٍ في الذّاكرة.

وثانيًا، منذُ أَنِ اكتشفَ آدمُ واكتشَفَت حوّاءُ أنّهُ لم يكنْ لهما خيارٌ في لونِ الطَّرفِ الثّاني من الخيطِ المُقدَّس، وأنّه كانَ عليْهِما التّسربلَ بالعُريِ المتكاملِ حفاظًا على مبدأِ العِفَّة، تبيَّنَ أنَّ الغرامَ والشّهوةَ نسبيَّانِ، مثلُ سائرِ الأشياءِ واللّا أشياء.

وهكذا، فقط في سبيلِ وضعِ قطعةٍ إضافيّةٍ في لوحةِ اللّوغو اللَّانهائيّة، نضيفُ أنّهُ منذُ أنْ خرجَ كارل ماركس من بيتِه المُكتظِّ بالأولاد والجلبةِ والحَركةِ، ونطحَ برأسِه مصطبةَ السُّجودِ للأوثان، قد تحوَّلَ بقدرةِ قادرٍ أو بكُفرِ كافرٍ، إلى قيمةٍ فائضةٍ تحوَّلت بِدَوْرِها، في فضاءاتِ المعابدِ التي لم نتوقّفْ عن هدمِها إلّا من أجلِ إعادةِ بنائِها، إلى صنَمٍ يتساقطُ الغبارُ والحسرةُ من عينَيْهِ.

لكنَّ سنابكَ الخيلِ عادَتْ، بعد أن توقّفَ التّاريخُ في المقهى لتدخينِ سيجارةِ مارلبورو، إلى طحنِ جماجمِ العصافيرِ المُغرِّدةِ، التي ما تزالُ مختبئةً في أبواقِ الأشجارِ الشّائِبة، وإلى إنزالِ بُروقِ الأوهامِ عُنوةً من غيومٍ اصطناعيةٍ على رؤوسٍ مُستجيرةٍ بالمظلَّاتِ، وإلى سبيِ البَسمات من شفاهِ الحَسناواتِ الصَّاعداتِ من حُلُمٍ، وإلى وأدِ البناتِ اللواتي يُبطئْنَ حركةَ الجبابرةِ ويشوّشنَ رشاقتَهم في سفك الدّماء السّوداء على شاشاتِ هوليوود.

أمّا أنا، والحالُ كذا، فلم أجِدْ أثرًا للطُّرقِ السَّريعةِ والصُّرُطِ المُعبَّدةِ النّازلة من رأسِ أثينا الذهبيِّ في بيزانطيا حتّى رمادِ موقدٍ في خيمةِ بدويٍّ ضامرٍ في الحجاز. لكنّني انتبهْتُ في الصّباحِ الأَخير، حينما صبَغَ القوَّادونَ وجوهَ الغانياتِ بمساحيق الكُرياتِ الحَمراءِ، أنَّ جُزازاتِ العِصيِّ المُكسّرةَ على ظهورِ العبيدِ والغُرَرَ المقطوعةَ من جباهِ الهُنود وأسياخَ الأطفالِ المَشوِيِّينَ في معرَّةِ النُّعمان، لا يجوزُ أن تجتمعَ في لوحة الألوانِ إلّا حينَ يشتدُّ وقعُ حوافرِ الخيلِ فوقَ نُثارِ الخوابي ويكسرُ البريقَ في العُيونِ الحُورِ، وأنَّ الشّوارعَ لا تمتلئُ بالإبَرِ التي تفجّرُ البالوناتِ المليئةِ بالخواء إلّا حين يخلعُ اللُّصوصُ أقنعتَهم ويعملون في وظيفة ضبْطِ حركةِ السَّيْر، وأنَّ التَّاريخَ ينهضُ، في نهاية النّهار المُدمَّى، ليخلعَ عباءتَه المُزيّفةَ وليبدأَ، عاريًا تمامًا، من جديد.

**إذا كان التّاريخ انتهى، في الأوقاتِ التي اختارها مناهضو التّنوير منذ قرون (أو ربّما منذ ألوف السّنين)، أو كما يُعلنُ المحافظون الجدُد والقدماء، فليس ثمّة مخرجٌ غيرَ البدايةِ من جديد، كلّما نصلُ إلى نهاية.