محاولة أميركية ﻹنقاذ إسرائيل الصهيونية من نفسها

2017-01-06

محاولة أميركية

ﻹنقاذ إسرائيل الصهيونية من نفسها

نعيم الأشهب

حين أجازت واشنطن، بامتناعها عن التصويت في مجلس اﻷمن الدولي، تمرير القرار ٢٣٣٤ ضد اﻹستيطان اﻹسرائيلي في اﻷراضي الفلسطينية المحتلة، اعتبر البعض ذلك صفعة الوداع من إدارة أوباما لنتنياهو على سجل استفزازاته ومشاكساته الطويل ﻷوباما وإدارته، لصالح تحالفاته مع أقصى اليمين اﻷميركي. لكن هذا السبب، في عالم السياسة، ثانوي وهامشي، مهما بلغ مستواه. بينما اعتبر البعض، وبخاصة من المسؤولين الفلسطينيين، الذين يواصلون الرهان على السراب اﻷميركي، ذلك صحوة ضمير، في اللحظات اﻷخيرة من أوباما وإدارته، تجاه قضية الشعب الفلسطيني العادلة؛ وبدورهم يتجاهل هؤﻻء بعناد حقيقة أن ما يحدد سلوك واشنطن ليست قيم العدل واﻷخلاق، وإنما المصالح اﻷنانية. ولكن سرعان ما جاء خطاب جون كيري، وزير الخارجية اﻷميركية، في ٢٠١٦/١٢/٢٨ ليضع النقاط على الحروف، ويكشف الدوافع الحقيقية وراء ذلك الموقف.

خاطب كيري اﻹسرائيليين اليهود قائلا: "اليوم هناك أعداد متساوية من اليهود والفلسطينيين بين نهر اﻷردن والبحر المتوسط، يمكن أن يختارا العيش معا أو اﻹنفصال في دولتين"، وأضاف: "هناك حقيقة أساسية، وهي إذا كان الخيار العيش في دولة واحدة ، فسيكون على إسرائيل أن تختار إما أن تكون يهودية أو ديموقراطية، وﻻ يمكنها أن تكون اﻹثنين معا، كما أنها لن تكون أبدا في سلام"، موضحا دون لبس الدوافع اﻷميركية الحقيقية من وراء تمرير قرار مجلس اﻷمن السالف الذكر، بقوله:"ما ندافع عنه هو مستقبل إسرائيل كدولة يهودية وديموقراطية…"، معتبرا أن تنفيذ حلّ الدولتين"يعني اﻹعتراف بإسرائيل دولة يهودية…". وأنذر كيري في كلمته اﻹسرائيليين بأنهم "يقدمون على اﻹنتحار"!. وكان قد بدأ حديثه بالتحذير بأن حلّ الدولتين في "خطر شديد"، ومعروف أن كيري ونائب الرئيس اﻷميركي فايدن قد حذرا، أكثر من مرة، في السنتين اﻷخيرتين على وجه الخصوص من مخاطر الدولة الواحدة على يهودية دولة اسرائيل؛ ومما قاله كيري في هذا الشأن في ٢٠١٣/٤/١٨: "أعتقد أن نافذة حل الدولتين تنغلق.. وأعتقد أن لدينا فترة من الوقت، سنة أو سنة ونصف أو حتى سنتين، ليكون (الحل) قد انتهى".

من الواضح أن قلق واشنطن على مستقبل إسرائيل، كدولة يهودية، هو وحده الدافع وراء امتناعها عن تعطيل قرار مجلس اﻷمن المذكور بالفيتو، كما درجت العادة، وذلك في ضوء الحقيقة الديموغرافية (السكانية) التي أتى كيري على ذكرها، وأن خطر إجهاض حلّ الدولتين كامن في استمرار اﻹستطان وتصعيده في اﻷراضي الفلسطينية المحتلة ١٩٦٧.

بمعنى آخر: إن واشنطن أكثر قلقا وأشد حرصا على يهودية إسرائيل من حكومة نتنياهو التي يعميها جشع التوسع وضم بقية أرض فلسطين التاريخية.

أما لماذا هذا القلق وذلك الحرص اﻷميركي على يهودية إسرائيل حتى أكثر من حكومتها المتطرفة الحالية، فذلك يعود، ببساطة، الى أن إسرائيل اليهودية فقط هي من تستطيع الوفاء بالخدمات المنوطة بها لخدمة اﻷهداف والمصالح اﻷميركية، في المنطقة وأبعد منها. وإذا كان اليمين اﻹسرائيلي المتطرف يراهن على "أكل الكعكة واﻹحتفاظ بها في ذات الوقت"، أي بضم بقية اﻷرض الفلسطينية واﻹحتفاظ بإسرائيل دولة يهودية عن طريق نظام اﻷربارتهيد الجاري تطويره وإحكامه في اﻷراضي الفلسطينية المحتلة ١٩٦٧، فإن اﻷدارة اﻷميركية ترى أن هذا النظام للفصل العنصري ﻻ مستقبل له شأن صنوه في جنوب إفريقيا، بخاصة في ضوء التطورات العاصفة في المنطقة والعالم، والتي تجري على نحو معاكس ﻷحلام حكام إسرائيل.

وفيما يتعلق بالعلاقات اﻷميركية - اﻹسرائيلية، ينبغي اﻷخذ في الحسبان، لدى تقييمها، المبدأين التاليين: اﻷول - أنها علاقات استراتيجية من الدرجة اﻷولى، غير خاضعة لمزاجية المسؤولين في الطرفين؛ والثاني - أنها قائمة على مبادلة مصالح، أشبه بالصفقات  التجارية، وهذا ما بدا جليا باﻹتفاق اﻷخير بين حكومة نتنياهو وإدارة أوباما، والذي تعهدت اﻷخيرة بموجبه، بتقديم "مساعدات" بقيمة ٣٨ مليار دوﻻر على مدى عشر سنوات، وهو المبلغ اﻷعلى في تاريخ العلاقات بين الدولتين. أي أن إدارة أوباما ، برغم العلاقات غير المثالية بينها وبين حكومة نتنياهو، تقدم ﻹسرائيل ما لم تقدمه أية إدارة أميركية سبقتها. بمعنى آخر: هذه المساعدات اﻷميركية السخية ليست هبة محسن، وإنما أجرة خدمات متفق عليها في مساومة معقدة تستغرق أشهرا أحيانا، كما جرى في الصفقة اﻷخيرة. وكلما تضاءل نفوذ الوﻻيات المتحدة في المنطقة من جانب ، وتنوّعت واتسعت قائمة هذه الخدمات، من الجانب اﻵخر، ارتفع اﻷجر.

وبالعودة الى قرار مجلس اﻷمن وأقوال كيري، فهما ﻻ يعنيان وﻻ بحال أن واشنطن تنتصر للحق الفلسطيني، وأنها بالتالي ستدعّم تسوية للنزاع اﻹسرائيلي - الفلسطيني وفق قرارات الشرعية الدولية الخاصة بهذا النزاع ، وﻻ حتى القبول بتولّي اﻷمم المتحدة معالجة هذا النزاع، بل بقاءه حصراَ بيد واشنطن وحكام إسرائيل ليتحكّموا بشكل التسوية ومضمونها.

فنائب مستشار اﻷمن القومي في البيت اﻷبيض "بن رودس" قال، بعد تأكيده على دعم أوباما كل كلمة في خطاب كيري السالف الذكر،"لكن إذا حاولوا في اﻷمم المتحدة فرض حلّ للصراع فسنستعمل الفيتو"(هآرتس اﻹسرائيلية ٢٠١٦/١٢/٢٩). ومن الغباء المطلق  اﻹعتقاد بأن واشنطن لم تكن قادرة على إيقاف الزحف اﻹستيطاني في اﻷراضي الفلسطينية  لو أرادت. فقد استعملت الفيتو أكثر من مرة ضد المطالبة بإيقافه؛ أكثر من ذلك، فالغذاء المالي اﻷساسي للإستيطان أتى ويأتي من الوﻻيات المتحدة، بخاصة من تبرعات داعميه،ولو كانت واشنطن ضد هذا اﻹستيطان فعلا لفرضت الضرائب عليها، على اﻷقل،بدل إعفائها، ناهيك أنها كانت قادرة على تجفيف مصادر هذا اﻹستيطان في أميركا متى شاءت.

بمعنى آخر: لم تكن واشنطن، فعليا، ضد هذا اﻹستيطان، طالما كان يحقق أرباحا وإنجازات ﻹسرائيل، شريطة أن ﻻ يجهض حل الدولتين  بالمفهوم اﻷميركي، ويفتح آفاق اندماج فلسطينيي الضفة والقطاع، آخر المطاف، في المجتمع اﻹسرائيلي، حرصا على يهودية إسرائيل؛ لكن حين تجاوز هذا اﻹستيطان الحدود المقدرة وغدا يهدد هذا الحل، كان ﻻ بدّ من اﻹعتراض. وحل الدولتين في القاموس اﻷميركي ليس وفق الشرعية الدولية وتصورات الطرف الفلسطيني، بل قد ﻻ يتجاوز حالة محمية إسرائيلية. وهذا ليس تجنيا على الطرف اﻷميركي. فـ"ورقة الحقائق" التي وزعتها الخارجية اﻷميركية مؤخرا وضمّنتها رؤيتها لمباديء السلام في الشرق اﻷوسط تقول في بندها الخامس: "تلبية اﻹحتياجات اﻷمنية ﻹسرائيل ووضع نهاية كاملة للإحتلال، مع التأكد من قدرة إسرائيل على الدفاع عن نفسها بفعالية، وقدرة فلسطين على توفير اﻷمن لشعبها في دولة ذات سيادة ومنزوعة السلاح"، أي أن اسرائيل الدولة النووية الوحيدة في المنطقة والتي تحتل بقية اﻷراضي الفلسطينية منذ خمسين عاما هي التي بحاجة لضمانات ﻷمنها، بينما الشعب الفلسطيني اﻷعزل والواقع تحت اﻹحتلال ينبغي أن تكون دولته منزوعة السلاح!. وتساوقا مع هذا المنطق ،ينبغي اﻹعتقاد  بأن واشنطن ستدعم مطالب إسرائيل باستمرار سيطرتها على اﻷغوار الفلسطيني ومناطق أخرى، ىحجة الحاجة اﻷمنية. أما البند الثالث من"ورقة الحقائق" فيلغي حق اللاجئين، جزئيا وكليا، في العودة، ويحصر حقوقهم في التعويض .

ولو تكرر في حزيران ١٩٦٧ ما جرى من نزوح كما  في العام ١٩٤٨،وقامت إسرائيل بضم بقية أرض فلسطين، فإن واشنطن ستبارك ذلك فعليا، حتى ولو اعترضت عليه لفظيا.فباﻷمس وافقت على القرار ١٩٤ الخاص بحق اللاجئين الفلسطينيين بالعودة الى ديارهم التي هجروا منها. واليوم، فإن هاجسها اﻷساس هو الحفاظ على يهودية دولة إسرائيل، وتجاهر دون مواربة بشطب حق هؤﻻء في العودة.

واليوم، بينما تبدو إسرائيل الصهيونية، ظاهريا، في أوج قوتها، يتفجر مأزقها التاريخي الذي ﻻ فكاك لها من ارتداداته ؛ وهو مأزق ذاتي - داخلي، تصنعه الصهيونية بيديها. ذلك أن رحيق حياتها هو العدوان والتوسع،(بقية اﻷرض الفلسطينية) وحرمانها منهما يعني بداية نهايتها المحتومة. وهنا بالذات يبرز الدور المقرر والحاسم لسلاح الصمود، حجر الزاوية، الذي أهمله ويهمله مسؤولو السلطة الفلسطينية. إذ بدل السهر على توزيع أعباء المعركة، لتعزيز صمود السواد اﻷعظم من الجماهير الفلسطينية الفقيرة والمسحوقة، وهي المنوط بصمودها حسم المعركة النهائية مع اﻹحتلال، فإن همّ السلطة هو تعزيز ثروات وامتيازات قمة الشريحة البيروقراطية السياسية والعسكرية، وهذا ما تؤكده  الوقائع واﻷرقام الخاصة بتفاقم الفوارق اﻹجتماعية، بشكل صارخ، عما كانت عليه قبل مجيء السلطة، واتساع مساحة الذين يعيشون تحت خط الفقر بشكل مثير للقلق، فهل من مجال لتدارك هذه السياسة الخرقاء.