تنامي اللامساواة في العالم – قصة ازاحة الستار
ميخائيل داودرشتت

2016-11-16

تنامي اللامساواة في العالم – قصة ازاحة الستار

للرسام الايطالي جياكومو كارديلي "أمم متحدة"..

ميخائيل داودرشتت

ترجمة واعداد: سامح الناشف

"اغنى 1% في العالم يملكون اكثر مما تملك كل باقي الانسانية" هذه هي الخلاصة الفاضحة والمفزعة التي توصلت اليها دراسة اجرتها Oxfam* على هامش المنتدى العالمي للاقتصاد في دافوس هذا العام. وهي واحدة من دراسات عديدة ظهرت في السنوات الاخيرة وتناولت موضوع توزيع الدخل والثروة في العالم. ومما لا شك فيه أن الازمة المالية العالمية هي من كان يقف وراء هذا الاهتمام البارز بالموضوع. هذه الازمة التي لم تكشف فقط عن التبعات المصيرية لغياب ضبط وشفافية اسواق المال العالمية وانما كشفت ايضا عن مسؤولية هذه الاسواق في استمرار التوزيع غير العادل للثروة والدخل العالميين.

جدير بالذكر ان واقع التوزيع المجحف هذا كما نشهده في تقارير ودراسات عدة يعود في الاصل الى رؤى النظريات الاقتصادية** التي ما زالت ترفض أي نقد يوجه الى حالة التوزيع الآنية حيث تعتبر التوزيع القائم نتيجة طبيعية لديناميكية الاسواق التي تقيم بشكل امثل كل عمل حسب منفعته الاجتماعية. وكل تدخل في هذه العملية الطبيعية من شأنه ان يعيق النمو ومعه بالتالي الرفاه.

انطلاقا من هذه العقيدة طالب ما يعرف باجماع واشنطن ًwashington Consensus بقيادة منظمات دولية ذات ثقل مثل منظمة النقد الدولي IMF والبنك الدولي والمنظمة الاقتصادية للتعاون والتطوير OECD التخلي عن ضبط الاسواق خاصة سوق العمل وعدم قيام الدولة باعادة التوزيع بدعوة ان امرا كهذا من شأنه ان يعرقل الازدهار الاقتصادي. وكان ان قامت جهات يسارية بانتقاد هذا السلوك الانفرادي االمريب. فقد حظي كتاب Kate picket و Richard Wilkinson الصادر عام 2009 : Why Equality is 

Better for everyone لماذا تعود المساواة بالفائدة على الجميع، باهتمام ملحوظ. واللافت للنظرهنا حقا انه منذ بضع سنوات أخذ ناقوس الخطر يقرع حتى في اوساط تعتبر محافظة. فقد قامت المنظمة الاممية OECD بنشر تقارير عديدة ومطولة ًصدر منها عام 2011:

Divided We Stand – Why Inequality keeps Rising  اننا منقسمون – لماذا اللامساواة في العالم اخذة بالازدياد. حيث نقرأ في التقرير: ان اللامساواة تتضاعف والباب يوصد امام الترقي والاختلاط الاجتماعي والفقراء لا يصلهم شيء من النمو الاقتصادي. في عام 2015 اطلت علينا المنظمة ذاتها ثانية بتقرير ترفع فيه راية المساواة وتدعو الى توزيع عادل لمصلحة الكل. وبالاضافة انضمت الى هذه القناعات المنظمة الدولية IMF والمصنفة تقليديا مع التيار المحافظ وفاجأتنا بدراسات مفادها انه باستطاعة اعادة التوزيع ان يدعم ويرفع من مستوى النمو الاقتصادي. نفس التوجهات والمخاوف والشكوك الى التوجيهات والتكريس فالمطالب نجدها ايضا في الايكونومست المتحفظة والمحافظة.

القنبلة الاولى في هذا السياق فجرها في العام 2013 كتاب الفرنسيThomas Pikettys :Capital in the 21first Century  رأس المال في القرن الحادي والعشرين) وفيه يكشف لنا عن الزيادة الدراماتيكية للثروة العالمية التي ارتفعت من ادنى مستوى لها عام 1950 حيث كانت تساوي ثلاثة اضعاف دخل العالم لتساوي الآن خمسة اضعاف الدخل العالمي. كما توصل في بحثه الى ان الفوائد السنوية على هذه الثروة الهائلة غالبا ما تكون اعلى من درجة نمو الناتج القومي الاجمالي مما يجعل الكفة في توزيع الدخل تميل بوضوح لصالح الاغنياء.
اذا ما القينا نظرة على تطور توزيع الدخل نجد ان نسبة اللامساواة سجلت ارتفاعات في معظم دول العالم. المقياس الاكثر شيوعا للكشف عن حالة اللامساواة هو الـ Gini Coefficient***. وهو يتذبذب بين صفر (مساواة كاملة) و 100 (كامل الدخل يصب في جيب شخص واحد او منزل واحد). ورد في تقارير ال OECD ارتفاع هذا المؤشر في العقود الثلاثة الاخيرة من 28,9 الى 31,3.

تعتبر الولايات المتحدة من البلدان التي يسجل فيها المؤشر ارقاما قياسية. حيث ارتفع هناك منذ العام 1985 من 34 الى 41, وفي المانيا من 25,1 الى 29,1%. 
ومما يثير القلق هنا ارتفاع المؤشر في دول تسودها تقليديا العدالة الاجتماعية مثل السويد. فقد ارتفع مؤشر اللامساواة فيها من 19,8 الى 27,4 . ومن باب الدقة والامانة نشير الى ان هناك دولا قليلة في الاتحاد الاوروبي لم تطلها يد هذا الظلم الاجتماعي مثل بلجيكا وهولندة وفرنسا. اما في الصين فعلى الرغم من تراجع عدد الفقراء بسبب النمو المرتقب فقد صعد هذا المؤشر ليصل من 33,5 الى 53,6. الخبر السار يأتينا من البرازيل كونها البلد الوحيد الذي تراجعت فيه اللامساواة.
بالنسبة لتوزيع الثروة فالارقام هنا تعطينا صورة اشد قبحا وفظاعة عن اللامساواة, حيث نجد في اغلبية الدول ان الارقام التي يسجلها مقياس اللامساواة هي ضعف ما شهدناه في توزيع الدخل: 80,9 في السويد, 77,5 في المانيا, و85 في الولايات المتحدة.

الجدير بالذكر ان هذه الثروة تتجمع في القسم العلوي من الهرم مما يعني ان 10% من السكان يملكون نصف الثروة الاجمالية للبلد الواحد.

على الرغم مما تعكسه الصورة التي تقدمها الارقام اعلاه عن اللامساواة في الدخل والثروة داخل حدود الدولة من ظلم وبشاعة الا انها بالمقارنة لا تصل حجما واثرا الى حد الصورة المرعبة التي تتكشف لنا عن اللامساواة العالمية. اذ الى جانب اللامساواة في دولة بعينها هناك اللامساواة الاشد قسوة وحدة بين كل دولة ودولة. ففي الجنوب العالمي اينما كان يعيش مليار من الناس باقل من يورو واحد في اليوم، في الوقت الذي يتقاضون في البلدان الغنية ما بين 50 الى 100 يورو في اليوم. لقد عبر عن هذه الحالة برانكو ميلانوفيتس، احد المحللين البارزين لتوزيع الدخل العالمي بقوله: ان الانتماء الجغرافي يحدد مدى احتمالية الموقع الذي يحتله الفرد او البيت في هرم الدخل العالمي اكثر مما يفعله الانتماء الطبقي.
ولو اجرينا الآن عملية دمج لكلا النوعين من التوزيع بغرض التقسيم بين الافراد داخل منطقة معينة كاوروبا مثلا او حتى العالم بأسره لقادنا الامر الى مستويات مأساوية من اللامساواة: في اوروبا يدخل جيوب اغنى 20% عشرة اضعاف ما يكسبه الخمس الافقر. اما بالنسبة للعالم ككل فتكون النتيجة اعلى بخمس مرات، حيث دخل الخُمس الاغنى في العالم يفوق دخل الخمس الافقر ب 50 مرة.

ان تنازل الخمس الاغنى عن 2% من دخله لصالح الفقراء يؤدي الى مضاعفة دخل هؤلاء ما يعني تخفيض نسبة اللامساواة الى النصف. ما قد يبعث على الامل في هذا السياق هو رصد تراجع نسبي للامساواة العالمية بسبب النمو الاقتصادي السريع في دول فقيرة كما في الصين مثلا. من هنا يمكن ان نستلخص ان تراجع اللامساواة بين دول معينة يمثل تعويضا عن ارتفاعها داخل حدود دول اخرى.

بالمقارنة تبدو صورة توزيع الثروة في العالم ككل مشينة وفاضحة اكثر منها في حالة توزيع الدخل. ذلك ان اغنى 10% من سكان العالم يملكون 87,6% من الثروة العالمية. واغنى 1% يملكون 50% من الثروة. وعليه فان تقارير Oxfam التي تقشعر لها الابدان تؤكد ان اغنى 62 ميلياردير في العالم يملكون كما يملك كل النصف الافقر من سكان العالم. خلافا لمعطيات توزيع الدخل نشهد في الآونة الاخيرة تفاقما ملحوظا لحدة اللامساواة في توزيع الثروة العالمية. هذا الاستمرار وهذه الحدة تفضي الى تبعات وعواقب وخيمة. وقد حذر من هكذا عواقب الباحثان بيكيت وفيلكينسون. كذلك اشار الباحث يوسف شتيغلتس في كتابه الصادر في العام 2012: Der Preis der Ungleichheit -  ثمن اللامساواة - الى المؤثرات السلبية للامساواة على التفاعل الاجتماعي والنمو الاقتصادي وعلى الشرعية الديمقراطية.

من هنا نلمس ونستلخص دونما غضاضة ان من شأن اللامساواة ان تتسبب في كساد عالمي وفي ازمات مالية جديدة، الامر الذي يقلق كما اسلفنا حتى التيار المحافظ.
ختامًا لا بد من ان نسلط الضوء على سؤالين اساسيين تمخضا عن هذه الكشوفات المذهلة: من هو المسؤول عن هذه الكارثة؟ وما هي الادوات المتاحة لمكافحتها؟ صحيح ان العولمة والتغيرات التكنولوجية تلعب دورا هاما في هذا التطور. الا ان المسؤولية الكبرى تقع على عاتق صانعي القرار

فقد دأبت السياسة خلال العقود الاربعة الاخيرة وبشكل منهجي على تخفيف وطأة الضرائب على الاغنياء: فألغيت ضريبة الارباح على الاغنياء وخفضت الضرائب المفروضة على الشركات وأصحاب العمل الى النصف و"حررت" اسواق العمل (بمعنى رفعت الرقابة عنها – المترجم). وهذه الاجراءات جميعها تمت بحجة تسريع النمو وخلق فرص عمل جديدة وبالتالي ضمان استمرار دولة الرفاه. هناك بعض الساسة ممن اقتنعوا وآمنوا بهذه المعادلة التي ما هي سوى نتاج الخطاب الموروث لفلسفة النظريات الليبرالية التي اثبتت فشلها لدى التعامل مع الأزمات. فعندما يضخ الاقتصاد الاميريكي بمبلغ ثلاثة مليارات دولار سنويا لحساب مجموعات الضغط فلا الخطاب يسلم ولا السياسة.

من خلال هذا المسلك وهذه العقيدة تكون السياسة قد فتحت الباب على مصراعيه للعولمة وللتحويل المحوسب لرأس المال بشكل ساعد على تفاقم حدة اللامساواة:

الرواتب تفقد قوتها الشرائية وحصتها من الدخل القومي تهبط الى الحضيض ناهيك عن اتساع الفجوة بين متقاضيها. فالجالسون على قمة الهرم لم يعودوا يتقاضون اكثر من مستخدميهم بـ 40 مرة بل بـ 400 مرة. اما عن الغش والتحايل في دفع الضرائب المستحقة والذي امسى امرا طبيعيا يمارس باستمرار فحدث ولا حرج. يبدو ان السياسة قد رفعت ايديها عن مناهضة هذا الظلم.

بهذا نكون قد اعطينا الجواب على السؤال الثاني والمتعلق بمقارعة وحش اللامساواة: لا بد من تغيير/تحسين جهاز فرض الضرائب على الدخل العالمي، ولا بد من صيانة حقوق العاملين والتأكيد عليها، ولا بد اخيرا من مضاعفة الاستثمار في صحة وتعليم الفقراء اذا ما ارادت الدولة فعلا تحقيق اعادة مؤثرة لتوزيع الدخل.

(الكاتب هو مدير مطبعة J.H.W Dietz العلمية ومسؤول سابق عن قسم السياسة الاجتماعية والاقتصادية في مؤسسة فريدريخ ابرت الالمانية والمقال نشر في العدد 62016 للمجلة الاكاديمية السياسية : (Neue Gesellschaft

//إشارات

*"اوكسفام" اتحاد دولي مستقل للجمعيات الخيرية هدفه مراقبة حالات الفقر واللامساواة في العالم والكشف عنها.

** القصد هنا النظريات الاقتصادية السائدة في الغرب والتي يعتمد عليها اقتصاد السوق حيث يعتبر العرض والطلب الميكنزم الطبيعي لتحديد الاسعار.

** الـ Gini Coefficient هو مقياس احصائي شائع يستخدم لضبط حالات اللامساواة في العالم.