ليتهم ينصتون إلى ما تجهر به الاستخبارات الإسرائيلية!

2016-09-10

ليتهم ينصتون إلى ما تجهر به الاستخبارات الإسرائيلية!

سعيد مضية

أفاقت الرباعية من سباتها واختزلت القضية الفلسطينية بكل تعقيداتها وتفرعاتها في عودة رجل إلى موقعه في مركزية فتح. في عصر الرياء السياسي وجهت الرباعية إنذارها إلى رئيس فتح ولم تتوجه بتأنيب او مجرد سؤال إلى نتنياهو على تصرفاته المنتهكة لأبسط حقوق الإنسان الفلسطيني. أعصاب الرباعية المتخدرة والمتخشبة لم تستفزها كروب الفلسطينيين من قتل حسب مزاج الجندي الإسرائيلي، او اغتصاب الأراضي وتهويد القدس؛ لم يستنفرها انتهاك حرمات الأقصى ، ولم يعكر مزاجها هدم البيوت وتخريب المزارع واقتلاع الأشجار. قزمت الرباعية قضية فلسطين في شخص رجل كان موظفا معزولا في عهد عرفات الذي خذلته الأنظمة.

الأنظمة العربية  خذلت قائد فتح والشعب الفلسطيني، ياسر عرفات بكل قدره ومهابته ومكانته الدولية التي تجلت بأسطع توهجها عندما تقاطرت دول الجمعية العمومية إلى جنيف والإصغاء إلى خطابه الشهير لما رفضت الإدارة الأميركية منحه تأشيرة الدخول.. خذلته الأنظمة وتركته يكابد برودة العزلة عندما اعلن بوش لدى تسلمه الرئاسة الأميركية في شباط 2000 ان عرفات مشكلة وليس حلا. الرياء السياسي الوقح بات مسيطرا على المسرح الدولي في مرحلة الليبرالية الجديدة ولم تعد هناك حاجة للمؤامرات؛ بات كل شيء يمضي على المكشوف  لما غابت المبادئ عن السياسة واستبدلت بالمصالح، ليس مصالح الشعوب بل مصالح الأنظمة الهزيلة المعادية لشعوبها في البقاء.

لا تحتاج إدانة إسرائيل بجريمة اغتيال عرفات إلى كثير تحقيق، فالتهديدات بالقتل والتصفية او الاعتقال لم تنقطع طوال حصار عرفات بالمقاطعة، ولم تر الأنظمة غضاضة في ذلك. وقبل ذلك قام جيش الاحتلال بهجوم على المقاطعة؛ في الحال وفي الليل نزلت الجماهير إلى شوارع رام الله في مظاهرات صاخبة أجبرت جيش الاحتلال على التراجع. اغتيل عرفات وحظي بوداع مظهري هنا وهناك واهيل التراب على قضيته مثلما اهيل على قضية شعبه. والقضية الفلسطينية عنقاء الزمن الراهن، تبعث دوما من رماد الحريق.

 دأب نظام مبارك في مصر على الضغط على الطرف الفلسطيني كي ينفس ضغوط الدعاية  الصداحة باستبداد نظامه ؛ ويبدو ان التقليد المرذول ورثه النظام المصري الحالي، ورث السيرة المشينة تجاه القضية الفلسطينية من جملة موروثات نظام مبارك العديدة. مناخ عولمة الليبرالية الجديدة احدث اصطفافا جديدا على الصعيد الدولي، حيث انحازت الأنظمة العربية للتحالف الليبرالي الجديد وعلى رأسه الامبريالية الأميركية وإسرائيل وتنكرت لشعوبها. رفعت الأنظمة العربية أيديها عن القضية الفلسطينية وحتى عن شعوبها ومصالحها وحاجاتها. وبذا فانتصارها لطريد فتح لم يصدر عن غيرة على مصلحة الفلسطينيين.

في مناخ دولي موبوء تسلم محمود عباس رئاسة دولة فلسطين ورئاسة حركة فتح ورئاسة منظمة التحرير وسط بشائر زائفة باحتمال أن يكسب نهجه المهادن عطف الإدارة الأميركية؛ توهم عباس أن الوساطة الأميركية سوف تستخدم عتلاتها لحمل إسرائيل على إنهاء ما سمي عملية السلام بتلبية مطلبه بدولة فلسطينية عاصمتها القدس الشرقية. لذلك واصل عملية التفاوض العقيم إلى أن أيقن ان المفاوضات يريدها نتنياهو غطاء لزحف الاستيطان وعربدة التهويد برضى اميركي. اليمين الإسرائيلي وطد أقدامه في الحكم نتيجة نجاحه في زرع الفاشية داخل المجتمع اليهودي. ضمان دعم أغلبية المجتمع اليهودي حفزت شهية اليمين لمزيد من الاستيطان والضم وأذكت رغبته في تطهير عرقي جديد في فلسطين.

لم يتزحزح محمود عباس عن انتظار الحل السلمي وخيار المفاوضات والتنسيق الأمني حفاظا على الاحتلال؛ في الحقيقة لم يفرط بالثوابت في تصريحاته ومداخلاته، لكنه ابقى الوضع الفلسطيني راكداَ، لا يتسبب في إزعاج الاحتلال. والركود يفضي إلى الاستنقاع والتحلل؛ والانتظار في بيئة تتحرك بتسارع يعني التخلف عن الركب والسقوط في هاوية يصعب الخلاص منها . ركن حكام أنظمة الليبرالية الجديدة إلى حماية زعيمة النظام حتى وصل سخط الجماهير درجة الثورة ، وبات رئيس النظام عبئا يتوجب الخلاص منه بانقلاب يحفظ النظام. بالمثل بات نظام عباس العبء الذي يتوجب الخلاص منه. لم يتردد أوباما في ترك مبارك لمصيره، ويبدو انه بلا تردد ينوي ترك عباس لمصير التنازل الطوعي او الإطاحة. وهكذا صدرت الرسالة المشئومة عن اللجنة الرباعية. وأعدت الرباعية البديل المرضي عنه في ر جل يزعم انه عضو مركزية فتح قابع في حضن أمراء دولة الإمارات العربية المتحدة، المستظلين بحماية الموساد الإسرائيلي. والعجيب المستهجن أن شخصيات شاركت في برامج تلفزيونية ناقشت الموضوع، ومنها قطب حمساوي،  لم تتجاسر على كلمة تكشف القناع عن الرجل، أبسطها التذكير انه مرشح بوش لقلب نظام حماس في غزة. أفسدت  حماس الخطة وتغدت بفتح قبل ان تذهب في وجبة عشاء.

 إن اكتفاء محمود عباس بالرفض والتنديد ورفع يافطة عدم التدخل في الشئون لا تردع أحداَ، خاصة عندما يكون الهدف ضرورة ملحة في نظر الداعين لتغيير الوضع الفلسطيني بما يرضي اليمين الإسرائيلي. امام عباس مجد الهبة الجماهيرية المظفرة لما حاول جيش الاحتلال اقتحام مكاتب الرئاسة في مقاطعة رام الله. وامامه في هذا الموقف الحرج والمصيري استيعاب ما استوعبته المخابرات الإسرائيلية. ففي مقالته المنشورة في 3 أيلول الجاري لاحظ اوري أفنيري، رجل السلام والواقعية السياسية أن الشين بيت "يعلمون عن الفلسطينيين أكثر من أي طرف آخر في إسرائيل (وربما في فلسطين كذلك)... هم الشطر الوحيد من مؤسسة الحكم الذي يقيم تواصلا مباشرا وحقيقيا ويوميا مع الواقع الفلسطيني. يستجوبون الفلسطينيين المشتبه بهم، يعذبونهم ، يحاولون تجنيدهم عملاء. إنهم يجمعون المعلومات، متغلغلين في أبعد زوايا المجتمع الفلسطيني". فباتوا على بينة من "اننا نواجه أمة فلسطينية، وان هذه الأمة لن تتلاشى..الفلسطينيين يريدون دولة لهم، وان الحل الوحيد للصراع يكمن في تشكيل دولة فلسطينية بجانب إسرائيل."

يستذكر افنيري وثيقة "الحراس" عرضها تلفزيون إسرائيل، تضمنت أجوبة جميع رؤساء الشين بيت والموساد ممن بقوا على قيد الحياة، على سؤال بصدد حل الصراع القائم؛ "فدعوا جميعا بمستويات متفاوتة من التركيز إلى 'حل الدولتين، عبروا عن آرائهم ان لا سلام بدون حصول الفلسطينيين على دولتهم".

ويمضي أفنيري الى القول، "في ذلك الحين كان تمير باردو لم يزل على رأس عمله رئيسا للموساد؛ فلم يستطع التعبير عن رأيه. لكنه منذ بداية العام 2016 بات بمقدوره التعبير، وصرح بضرورة إقامة دولة للفلسطينيين، معبرا عن خشيته من ان إسرائيل تقترب من حرب أهلية".

يقول أفنيري،" لدينا في إسرائيل بالطبع كمًّا من المشاكل الاقتصادية  - الاجتماعية؛ غير أن الانقسام بين "يمين" و"يسار" في إسرائيل يخص في الغالب السلام والاحتلال. أن قيادات الاستخبارات كلهم يساريون، يدعمون إنهاء الاحتلال وإقامة دولة فلسطينية بجانب إسرائيل.. والمثقف من بين هؤلاء (وضباط المخابرات مثقفون حقا وغالبا هم كذلك) ويفكرون في ما يتبين لهم من حقائق، يتوصلون إلى استنتاجات يعجز عن الوصل إليها سياسيون كثر. الانقسام بين يمين ويسار في إسرائيل - يقول أفنيري - يختص بالموقف من السلم والاحتلال. اليسار يطالب بحل الدولتين وتمكين الشعب الفلسطيني من إقامة دولته المستقلة ذات السيادة؛ اما اليمين فيحرضون على كراهية الفلسطينيين وأشدهم تحريضا هو نتنياهو، رئيس الوزراء".

 هذه الحقائق تجهلها بالطبع الزعامات العربية ممن يضغطون من اجل التقارب مع نهج نتنياهو، ولو اقتضى ذلك تبديل القيادة بمن هم أكثر طواعية وامتثالا لمشيئة أولي الأمر في النظام الدولي لليبرالية الجديدة. الثقة بقدرات الجماهير في المقاومة والصمود هي حبل النجاة والرد اللائق على ضغوط المتواطئين مع اليمين الإسرائيلي.

وتجهل هذه الحقائق لمزيد من الأسى الفصائل الفلسطينية المتعاركة كالديكة، فقزمت القضية الوطنية بصورة مشينة، إذ تتنافس في الكيد الرخيص والرثاثة السياسية .

وحسب المثل الشعبي المغرفة تعاير المجرفة؛ حماس تقول بحق ان قرار محكمة العليا الفلسطينية مسيس؛ وفتح تقول بحق أيضا أن قرارات محاكم القطاع بإلغاء قوائم انتخابية فتحاوية مسيسة. كلا التنظيمين يتذاكي بسذاجة واضحة؛ وما أبشع تذاكي الغبي الساذج! حماس مركزية القيادة والتنظيم تبني هيكليتها على مبايعة الطاعة؛ وفتح مركزية القيادة بدون تنظيم تخضع لنظام ابوي منذ نشأتها. الهيئات العليا تملي القرارات على الهيئات الأدنى. لا تقبل فتح ديمقراطية داخلية تنظم بمقتضاها انتخابات حرة في صفوفها يتمخض عنها  تنظيم وقرارات يحترمها الجميع وينصاعون لها. وطبيعي انها لا تقبل ديمقراطية العلاقة مع الفصائل؛ ومن ثم تدب الفوضى والفلتان والتسيب تنهك فتح وتخلق داخلها الكتل المتمردة كما حدث في نابلس وغيرها.

ونظراَ لمركزية القيادة في فتح وحماس يستحيل تحقيق تحالف او ائتلاف وطني، لأن كل فصيل يسعى لفرض موقفه، وتغدو الفصائل التي تنسق مع فتح او حماس هي بالفعل تابعة ولا تؤثر في القرار، مثلما هو واضح خلال عقد من الزمن.

المفارقة العجيبة أن الفصائل مدعية اليسارية لم تتفق على مقترح موحد للوساطة بين الديكين المتصارعين؛ كل فصيل قدم مقترحه للوساطة واستراح بضمير مستريح، أدى الواجب وزياة. تذاكي أيضا.لم  تكلف فصائل اليسار نفسها الاجتماع والتداول والخروج ببرنامج مدروس يعرض على الطرفين ثم يمضي تحالف اليسار في درب المقاومة الفاعلة ؛ و لم يجسر فصيل على تقديم تفسير لتمترس  فتح وحماس كل خلف عناده، لم يجسر احد على فضح غياب الضمير الوطني لدى قيادتي الفصيلين؛ يتركان الساحة مرتعا للاستيطان والتهويد، ويدخلال في صراع على سراب.

وزير الجيش الإسرائيلي ، ليبرمان، دعا منذ زمن إلى إعدام كل فلسطيني معارض.

وحاليا يقترح تقسيم الفلسطينيين إلى فئتين حمراء وخضراء. الأولى منطقة إرهاب يفرض عليها الحصار والحرمان إن أقدم فرد واحد من المنطقة على عمل (إرهابي)؛ أما الثانية فتنعم مقابل خضوعها وهدوئها  ببركات المحتلين. المهم أن يتواصل الاحتلال، منفذا مشاريعه بدون مقاومة ولا معارضة، والهاء الفلسطينيين بمقالب التذاكي الحمساوي – الفتحاوي . 

الخروج من دائرة الانتظار مرهون باجتراح نمط من العمل المشترك تستجيب له الجماهير وتنفض عنها غبار الإحباط. ألا تستحق مواجهة الجرائم اليومية للاحتلال ومستوطنيه النهوض المشترك لعمل مشترك بين جميع العناصر الحية من مختلف الفصائل،يفضي إلى حالة من الائتلاف او التحالف في ميادين العمل؟! على الأقل ألا يستطيع اليسار الشروع في عمل مشترك ميداني يقود الجمهور بعيدا عن متراس حماس وفتح، وقد يخلفهما معزولين ملهيين بمناوراتهما الرثة المثيرة للاشمئزاز؟

يمكن بل يجب إخراج الحالة الفلسطينية من متاهة فتح - حماس. إرادة التصدي من شانها إن فعلت أن تجر الجمهور الفلسطيني بعيدا عن مستنقع الخلاف الفتحاوي -الحمساوي وتنقية الأجواء من مكرهته السياسية. ومثال الهبة تضامنا مع الرئيس عرفات في المقاطعة يجب ان يظل منارة هادية.