أربعة وستون عاماً على رحيله: خليل السكاكيني مساؤك حب وحياة وقدس

2016-08-16

أربعة وستون عاماً على رحيله:

خليل السكاكيني مساؤك حب وحياة وقدس

زياد خدّاش

بعد منتصف ليلة أمس، طرقت بابي الذكرى الرابعة والستون للإنسان خليل السكاكيني، فتحت لها الباب، لم أفاجأ بها فقد كنت أنتظرها، كانت شاحبة وحزينة ومتعبة تتوكأ على عصا، قالت بصوت كأنه الدموع يكاد لا يسمع: ياه منذ سنوات طويلة لم يفتح لي الباب أحد، بعد منتصف ليل 13 - 8 من كل عام أطرق الأبواب في بلادي ولا أحد يفتح فأظل وحيدة، ليلة كأمية ونصف نهار، ثم أغادر إلى العدم لأحاول بعد عام مرة أخرى وهكذا تمضي حياتي من باب مغلق إلى آخر مغلق، أجلستها قبالتي في شرفتي المطلة على جبل وقمر يتبادلان النميمة على الشمس النائمة، وسبع غيمات يترددن بين السواد والبياض، كنت وحيدا، فالأهل والأصحاب والجيران نيام، حتى المستوطنة القريبة نائمة، الهواتف الخلوية مقفلة والحاسوب مطفأ، وكانت الذكرى وحيدة جدا، قالت لي: من انت؟

وما الذي يهمك في عظامي التي شبعت عظاما،؟ أجبتها: سيدتي الذكرى: أنت لست عظاما، أنت تاريخ أحلامي وجمالي ودروس تفكيري وتجاربي وهواء جذوري الأول ومستقبل مدني القادمة وهواجسي، فقد علمني صاحبك خليل السكاكيني كيف اكون إنسانا قبل كل شيء، أرى العالم والأشياء من منظار الإنسان لا من منظار الطائفة أو الحزب أو العائلة، ففي هذا الزمن العربي وغير العربي الذي تتصارع فيه الهويات شر تصارع، وتديره الطوائف والأصوليات شر إدارة، يحلو لي أن أكون مثل خليل بعيدا عن القوالب قريبا من الإحساس الكوني المجنح الواسع بإنسانيتي .

ابتسمت الذكرى، نهضت ألقت بالعصا جانبا، دخلت إلى المطبخ، أحضرت رغيفا وقطعة جبنة وصحني زيت وزعتر، وحبة بندورة، راحت تأكل بتلذذ، ثم نهضت ورقصت أمامي رقصة مضحكة، هي أقرب إلى التهيؤ للرسم، نقشت بيديها دائرة كبيرة، همست: هذا هو العالم، دخلت الذكرى الدائرة، راحت تبحث عن نقطة ففهمت أنها تريد مساحة صغيرة لتكون لها وطنا ولتشكل بها هوية، لم تجد الذكرى النقطة، فواصلت التحرك هنا وهناك، حائرة وخائفة، فهي بلا لون وبلا تضاريس وبلا اسم، البشر كلهم يحتاجون غريزيا إلى أمكنة ليولدوا فيها ويموتوا، أمكنة جميلة ومميزة ومبدعة، ليفاخروا بها العالم، وفجأة صمتت الذكرى ووقفت متجمدة كأنها تحولت إلى تمثال، كان رأسها مائلا إلى الوراء كأنه يبحث في شكل سقف الشرفة عن إيحاء ما، اليدان مرميتان في الهواء بشكل مسرحي، الفم مطبق، العينان جاحظتان مليئتان بالدهشة المؤلمة أو السعيدة، سمعت صوتا صغيراً لكنه قوي يأتي من جهة الجبل والقمر والغيمات السبع:

رائع أن تجد نقطتك أيها الإنسان، نقطة تحن وتنتمي إليها وتحبها وتربي فيها أولادك وطاقاتك وأحزانك وأحلامك، وتعود إليها بعد منفى ما، لكن الرائع أكثر أن تشكل هذه النقطة امتدادا ودافعا لإحساس كبير بـآلام العالم وهمومه، ومتاعبه، وجسرا صلبا مع خير الكون وتطوره، وان لا تصبح هذه النقطة ذريعة لقتل الآخر وإعدام الألوان الأخرى، وتفجير الجسور مع القمر وقطع الحبال مع الغيوم والقمر، هذا هو درس تجربة السكاكيني مع الآخر ومع ذاته.

أوه ما أعذب هذه الليلة، وحدي بلا حاسوب ولا هواتف خليوية وبلا فضائيات وبلا حروب، ليلة مع ذكرى رحيل رجل مات قبل نصف قرن، عشق القدس والسفر ونيتشة والحرية، وقدس العلم، ومقت النفاق والذل، ذكرى رجل انسجم مع نفسه إلى درجة أنه غامر واستقال فورا بلا تردد من عمله الوحيد كمفتش في وزارة المعارف حين عين هوربرت صموئيل الصهيوني المنحاز إلى الصهيونية مندوبا ساميا في فلسطين، الهي أين نجد من يتخلى عن لقمة عيشه هذه الأيام من أجل موقف وطني؟؟، وحين قال المذيع في إذاعة فلسطين: هنا أرض إسرائيل، هاج السكاكيني وماج، واستقال فورا من الإذاعة مشترطا عودته بالقول: هنا أرض فلسطين، وهذا ما حصل.

قلت للذكرى: حدثيني عن خليل الإنسان والمفكر والوطني والحالم، صمتت قليلا ثم أجابت: أحب سلطانة زوجته بجنون، ومضت سنوات طويلة نثر خلالها زهورا كثيرة ودموعا حتى استوعب رحيلها، كان حساسا لآلام الآخرين ومخاوفهم بغض النظر عن جنسيتهم أو لونهم، إلى درجة أنه خاطر بحياته من أجل أن ينقذ يهوديا كانت الدولة العثمانية تطارده، فآواه في بيته في الوقت الذي رفض اليهود أنفسهم حمايته، إلى أن أبلغت عنه امرأة يهودية السلطات العثمانية فسيق السكاكيني مكبلا معه إلى سجن في دمشق وكاد هناك يشنق لولا زحف البريطانيين وهزيمة العثمانيين.

وماذا أيضا أيتها الذكرى؟ تنهدت وأشارت لي أن تمهل، مشت باتجاه المطبخ أحضرت كأس ماء، شربته، وواصلت: كان يرفض استغلال الدين لنهب أموال الفقراء وتزييف وعيهم، وكان يعتز بعروبته فطالب بتعريب الكنيسة، لكن اعتزازه هذا لم يمنعه من التواصل بفرح وحماس مع مستجدات الإبداع الغربي في الفكر والعلم والأدب والتربية، كان حديثا جدا في تفكيره ونظرته للحياة، كان من أوائل من اكتشف خطورة هجرات اليهود وتنبأ بمستقبل مرعب إذا لم توقف هذه الهجرات، وهذا ما حصل تماما، كان يحب تلاميذه حبا غريبا لا يشبهه حب في العالم، فلا ضرب أو قمع أو تهديد أو تخويف ولا إجبار على حضور إلى المدرسة.
كانت نظريته التربوية ترتكز على احترام ميول الطالب وتشجيعها وإطلاق طاقاته، إلى أبعد مدى، وعلى جعل المدرسة أشبه بالمنتجع السياحي إذا صح التعبير، كان يشجع الطلاب على الاهتمام بأجسادهم، قبل أذهانهم، كان سباقا لعصره فكل ما كان يؤمن به ويحاول تطبيقه يعمل به الآن في العالم الغربي، أما عالمنا العربي فلم ينظر بحماس لطروحات السكاكيني لأنها تهدد تقاليده الجامدة وعقله القديم، وماضيه القبائلي، فما زال يرزح تحت قيود التخلف والجهل والسطحية والتدين المتعصب.

كان جسدانيا يحب تدليل جسده بالماء والرياضة الصباحية والغذاء الجيد، توقفت الذكرى عن الكلام، ومشت باتجاه الحمام، غابت نصف ساعة، كنت اسمع الماء البارد يهبط على جسدها المتعرق، عادت الذكرى، جلست قبالتي منتعشة وسعيدة: آه ما ألذ الماء البارد على جسد كجسدي، لقد علمني خليل أن استحم بالماء البارد، علمني أن أمرن جسدي يوميا حتى استطيع أن أمرن ذهني بعد ذلك، فالتمرينات هذه متلازمة إذ لا ذهن مرنا دون جسد مرن، ولا جسد مرناً دون ذهن مرن، أخذت الذكرى تتمرن أمامي، كان جسدها رشيقا ذكيا ومثقفا، تنهدت الذكرى، نهضت، إلي أين أيتها الذكرى ؟ إلى بيتي فقد أوشك الصبح على الانفجار، وأين هو بيتك ؟؟ بيتي هو تلك الغيمات اللواتي "أصبحن" الآن سوداوات بعد طول تردد.

في الصباح، كانت أمي تسألني مستغربة: ما هذه الصحون؟؟ هل تعشيت مرتين أيها السمين، كنت أضحك.

كم أحتاج صديقا لأخبره أني أفطر وأتعشى ليلا على يوميات خليل السكاكيني لأسباب كثيرة أهمها: البحث عن تاريخنا المخبأ وغير المفصح عنه، من الذي عرفنا إلى البطل الشعبي الفلاح إبراهيم أبودية والبطل الشاب سليم الأنصاري؟

وأطرفها وأغربها سفري الدائم مع خليل من مدينة فلسطينية إلى أخرى دون أن اصطدم بحاجز عسكري إسرائيلي، حيث يقول مثلا: اليوم سافرت إلى طبريا أو صفد أو عكا لأفتش مدارسها، أشعر بقشعريرة لذيذة ومؤلمة، وأتذكر كم هي بعيدة عكا اليوم عني، لماذا أحس أن خليل السكاكيني شخص لم يوجد ؟ كم يشبه حلما، أو بطلا في رواية أو فلم أو مسرحية، يا لحزنك وقدرك الملعون يا خليل، فقد سقطت في زمن غير زمنك، كنت مبكرا في نضجك وكانوا هم متأخرين، كم تعذبت! وكم تساءلت! وما زالت أسئلتك في الوطنية والتاريخ والوجود والتربية والأدب والفكر تدور في حلقات مفرغة في العقل العربي، ولا أحد يجيب يا خليل، أتدري لم؟ لأن كل ما هاجمته وفضحته ما زال موجودا: الخراب الداخلي والتعصب والدناءة والنفاق والكذب والضعف والكراهية والغباء والخوف.

أخبرت أصحابي أن ذكرى خليل سهرت عندي ليلة أمس، لم يعلقوا بكلمة، لم ينتبهوا أصلا، فأحسست بذلك الإحساس بالألم والحزن الذي أحس به الحوذي الفقير في قصة شقاء لأنطون تشيكوف، فقد كان الحوذي المسكين يخبر كل راكب يركب عربته أن ابنه قد مات، لم يكن الركاب يكترثون أو يسمعون، وكانوا يقولون له سق العربة واسكت، وفي النهاية لم يجد الحوذي غير حصانه ليلا في الاسطبل وهو يطعمه، ليخبره أن ابنه قد مات، كان الحصان يهز ذيله كأنه يفهم ويحزن، هذا ما اعتقده الحوذي الواهم.

أما أنا فلم أجد حتى حصانا لأخبره أن ذكرى خليل زارتني ليلة أمس بل واستحمت في بيتي.