لقاء ثقافي: حوار مع الشاعر الفلسطيني سميح محسن

2016-07-25

لقاء ثقافي:

حوار مع الشاعر الفلسطيني سميح محسن

  • لن ألبس عباءة، ولا جبّة الواعظ في يوم من الأيام، وهذا ليس دوري كشاعر. أنني أكتب نصّا شعرياً خاضعا لشروطه الفنية، وأترك دائما لكل قارئ فهمه، وبالعادة لا أفسّر نصي، لأنني أحترم القارئ، وأحترم عقله.
  • روح الشهيد تتحول إلى حارس على الهدف، والحلم والآمال التي أستشهد لأجل تحقيقها. وعندما يستدعي الشاعرُ روحَ الشهيدِ فإنه يستدعيها لأمر جلل.

أجرت الحوار/ آمنه وناس

يرافق الحرف والقلم، ليكتب للفرح والشجن، يصافح الورق بين بهجة وألم، في رحاب عشقه للأرض والوطن، بقضايا البلاد ملم، بحسن العبارة فطن، بالتحرر يحلم، لا يوقفه بطش ولا وهن. تأخذنا عباراته نحو الأعماق، فنلمس الوجع و الأمل، من إحساسه ننهل الحنين و الأشواق، لعلم أنهكته مطامع محتل، فكلماته في عرض الوجع أطواق، تحملنا نحو اشراقة لا بد لها أن تكتمل، هو الشاعر الفلسطيني سميح محسن.

أهلا بك سيدي

أهلا وسهلا بك أستاذة آمنة وناس، وأشكرك على هذا التقديم الوارف لي.. يعكس تقديمك هذا مدى إطلاعك على تجربتي الشعرية، لذا أكرر شكري لك على تقديمك، وعلى اختياري لأن أكون أحد من تحاوريهم من الشعراء والكتّاب والأدباء الآخرين على امتداد الأرض العربية… وشكرا لتونس الجملية التي نحبها…

س “القصيدة تفتح آذانها للحديث، تئن القصيدة من خلل واضح بالتفاصيل، سقف القصيدة دالية تستريح على صدر تفاحة، أستضلّ بدفئ القصيدة، أسكن قلب القصيدة”، القصيدة و الشاعر “سميح محسن”، بين الحرف و الإحساس، إلى أين يبحران بنا، و ما مميزات الشواطئ التي يعبرانها بنا؟

ج لن أخوضَ في سردِ المفاهيمِ المتداولةِ عن تعريفِ القصيدة، وكذلك لن أبحثَ عن تعريفي الخاص لها، ولكنّ القصيدةَ بالنسبة لي هي تعبير عن حالة شعورية تعتمل في عوالمي الجوانّية، أو تعبير عن حاجة أحتاج لكتابة موقف فيها. المفهوم الأول يعبّر عن فهمي للقصيدة الذاتية، وأما المفهوم الثاني فيعبر عن حاجتي لكتابة قصيدة الحدث، وهي القصيدة التي توسم بأنها قصيدة سياسية، أو وطنية. من خلال هذا التعريف هناك الشواطئ الذاتية، الداخلية التي تعبر إلى شواطئها القصيدة، وهناك القضايا العامة، الكبرى، الوطنية والقومية والأممية التي تعبر إليها أيضا… التفاصيل تعتبر في قصيدتي اللحم الذي أكسو به عظام القصيدة، وهي التي تبثّ الروح فيها.

س “الخروج من الغرف الضيّقة”، عنوان حمل الإحساس والقلم، احتضن الفرح و الألم، فبأي أسلوب تكلمه؟

ج كان هذا عنوان مجموعتي الشعرية الأولى التي صدرت عن (دار حوار للنشر والتوزيع) في مدينة اللاذقية السورية عام 1988، وكنت كتبت قصائدها على امتداد عشر سنوات عندما كنت أعيش في دولة الكويت آنذاك… تمثل المجموعة الشعرية التباسات التجربة الأولى، حيث يسعى الشاعر من خلالها إلى محاولاته الأولى لأن يكون على مستويي الشكل والمضمون. على المستوى الشكلي انحزت لكتابة قصيدة التفعيلة، وأغرتني قصيدة التفاصيل كثيراً، وعلى مستوى المضمون جاءت المجموعة منحازة طبقياً، ولعل عنوانها “الخروج” تعبير على التمرد، و”الغرف الضيقة” تعبير عن البحث عن فضاءات أكثر عدلاً للفقراء والمحرومين والمظلومين… السؤال الذي يُطرَح عادة حول التجارب الأولى، هل لو قدّر للشاعر أن يعيد النظر في قصائده الأولى، أو في بعضها، سيفعل ذلك، أقول سيفعل، لكنّ تلك القصائد أصبحت ملك العامة، وليست ملك الشاعر بعد صدورها بين دفتي كتاب.

س “على مقعد من سراب سأجلس أفتح في عزلة الروح نافذة للتفكير فيما مضى، قلم سائل بالحكايات و الحبر جفّ على شفّة النار حتى اكتوى”، ماضي الإنسان “سميح محسن” كيف أثر على الشاعر “سميح محسن” و كيف يتراء لنا ذلك عبر أعماله؟

ج ولدت في قرية صغيرة ما أعمال محافظة نابلس بعد ثمانية أعوام من نكبة فلسطين، وعشت في أسرة فقيرة، شأن غالبية الأسر الفلسطينية الريفية. في طفولتي عملت كأحد أفراد أسرتي في الزراعة، ورعي رأس، أو رأسين غنم، وحفرت الأرض بأدوات يدوية، وحرثت الأرض على الدواب، ساعدت في الحصاد، وفي غيرها من الأعمال الفلاحية، لذا يلاحظ القارئ حضور القرية، وبعضهم يتنسم رائحة الأرض في كتاباتي. قريتي غادرتها خمسة عشر عاماً للعمل في الكويت إلا أنها لم تغادرني. وعندما عدت إلى البلاد، قررت العيش فيها، مع العلم أن مكان عملي يبعد عنها نحو مائة وخمسين كيلو مترا في الذهاب والإياب، أسافرها يوميا. المقطع المشار إليه في السؤال هو المقطع الأول في مجموعتي الشعرية الجديدة “غبار على مرايا البحر”، التي صدرت في العاصمة الأردنية عمان عن “دار فضاءات للنشر والتوزيع”، وبدعم مشكور وكامل من وزارة الثقافة الأردنية، وجاءت كفاتحة لما ستقوله المجموعة. وأنا على مشارف الستين من العمر كتبت هذه القصيدة لألخص حياتي، وتجاربي، ورؤاي، وشقاواتي، انكساراتي وخيباتي ونجاحاتي فيها…

س التاريخ، أو الذاكرة في حياة الإنسان “سميح محسن” إلى أين أخذت الشاعر “سميح محسن”؟

ج أتساءل أحيانا، هل طفولتي لم تغادرني، أم أنني لم أغادر طفولتي، أم أنني ألجأ إليها بين حين وآخر. كفلسطيني، عندما أتحدث عن الطفولة، فإنني أتحدث عن الذاكرة، عن الوجع، عن التاريخ، وعن الذاكرة… أن يستيقظ الإنسان على حقيقية مرة، وهي أن جزءاً من وطن آبائه وأجداده قد سلب منه، وأن الجزء المتبقي منه قد سقط أمامه في طفولته، فكيف سينشأ… هذه الحقائق الصادمة هي من شكّل وعيي، لذا يعيب علينا أشقاؤنا العرب بأنّ الفلسطينيين لا يملون الحديث في السياسة، ولا يتركون مناسبة إلا وكانت السياسة محور أحاديثهم.  أخذني ذلك التاريخ، وتلك الذاكرة إلى فلسطين، إلى قضيتها، ومصائر شعبها، فأجدني منحازا لها على حساب أي قضية أخرى، وأحيانا أوقعنا هذا الانحياز في مثالب التنازل عن بعض القضايا الفنية والجمالية في الشعر، حيث أن استجابة الشعر دائما للأحداث الكبرى أكثر كثيرا من استجابة الفنون الأخرى، فكان الاستعجال في الكتابة عن حدث كبير يأتي على حساب بعض القضايا الفنية، مع العلم أنني أطرح مقولة “أننا يجب أن نكتب لفلسطين ما يليق بها”…

س يقول المعلم الروحاني الهندي “غوتاما بوذا” “لا تبقى في الماضي و لا تحلم بالمستقبل، بل وجه عقلك نحو الآن”، كيف تجادل هذه المقولة؟ و هل ترى في مفهومها بلاغة؟

ج أميّز بين البقاء في الماضي، وبين الاتكاء على الماضي. البقاء في الماضي أن أبقى أسيراً له، هذا ما أرفضه لأنّه ضد سنة الحياة والطبيعة وتطورهما، والاتكاء عليه ما أؤيده من أجل الاستفادة منه، نبذ ما هو سلبي، وتطوير ما هو إيجابي به. وإن كنا جزءاً من الماضي فإنّ المستقبل جزء منا، لذا علينا أن ننظر إليه ونساهم في بنائه، فنحن جزء من الماضي والمستقبل معا. الإنسان هل يعيش دون أن يحلم بالمستقبل الذي يناضل لأن يكون على الصورة التي يريدها. نحن نوجّه عقلنا للماضي لقراءته، وللبناء عليه، ونوجّه عقلنا لما هو الآن لبناء مستقبلنا، ومستقبل أبنائنا وأحفادنا، أما إذا كنا نبتاً شيطانيا، ونحن لسنا كذلك، قد ننفصل عن ماضينا وعن حاضرنا.

س “فلسطين فصل طويل، طويل، طويل”، كم من مسافر يحتضن هذا الفصل الطويل؟

ج فلسطين فصل طويل، وطويل جداً… نكبتها، وسقوطها المدوي ما تزال شظاياه تصيبنا، ليس كعرب فلسطينيين فقط، وإنما كعرب من المحيط إلى الخليج، كما وتصيب أحرار العالم كافة… رغم انشغال العالم العربي منذ سنوات بقضايا أقطاره التي نشأت مؤخرا، إلا أن فلسطين، وإن برحت مكانتها ومكانها في قلوبهم وضمائرهم بعض الوقت، إلا أننا نراه يعود بقوة عندما تستجد أزمة حادة فيها. هذا في العام، أما في الخاص، فإنّ فلسطين ليست هوية مكانية فقط، بالنسبة لنا كفلسطينيين، هي هوية مكان وتراث وثقافة ووجود ومستقبل وحياة يومية، وبالنسبة لأشقائنا العرب هي هوية نضالية، فالفلسطيني ليس هو فقط من يحمل هويتها، ولكنه أيضاً من يحمل قضيتها. إيماني الذاتي أن فلسطين لا تقبل القسمة على اثنين… الظروف الراهنة لن تستمر إلى أبد الآبدين، هكذا علّمنا التاريخ، وكم تقلّب على حكمها الغرباء، إلا أنهم في النهاية انصرفوا، وبقيت فلسطين… لا أحد يستطيع التنبؤ بمتى يحدث ذلك، لكنني أؤمن بحقائق الحتمية التاريخية…

س يقول الممثل و المخرج الفلسطيني “زهير البلبيسي” ” فلسطين تسير في العروق مجرى الدم”، عندما ينزف الدم خارج العروق، كيف السبيل للحفاظ عليه؟

ج هذا تعبير مجازي عن حبنا لفلسطين، وعشقنا لها. في الأمانة العامة للكتاب والأدباء الفلسطينيين نتبنى شعار “بالدم نكتب لفلسطين” وهذا شعار مجازي أيضاً، لأننا لم نستخدم الدم بديلاً للحبر على الورق، ولكنّ هناك العشرات من الكتاب والأدباء والفنانين والمفكرين الفلسطينيين والعرب الآخرين الذين قضوا شهداء وهم يدافعون عن فلسطين وهويتها… لا غسان كنفاني، ولا ناجي العلي، أو كمال ناصر، أو ماجد أبو شرار، أو وائل زعيتر، أو عز الدين القلق، أو علي فودة، وغيرهم من شهداء الكلمة كتبوا بالدم لفلسطين، إلا أنهم ضحوا بدمائهم وأرواحهم في سبيل فلسطين وقضيتها… في ظل الظرف الراهن، هناك دم نزف وينزف خارج العروق. في حالة الاقتتال الفلسطيني – الفلسطيني، نزف دم خارج العروق، وإلى الآن يدفع شعبنا في الأرض المحتلة ثمن هذا النزف. علينا أن نوقف هذا النزف، ونحافظ على دمنا من أجل قضيتنا الأم…

س “أنا أم فلسطينه أم أنا يا رفاق فلسطينه؟“

ج في المجاز أميل إلى مقولة “أنا أم فلسطينية” وفي الواقع أميل إلى مقولة “أنا فلسطينية”… الأمّ هي الأم بالمعنى الواقعي، والمعنى المجازي أيضا إذ ربط الشاعر الفلسطيني بين الأم والأرض، وخلق حالة تزاوج بينهما. كل فلسطينية ليست أمّا، ولكن كلّ أم قد تكون فلسطينية في الهوية النضالية، وفي الهمّ والإنساني. الفلسطينية في المعنى الواقعي هي الطفلة الفلسطينية التي استشهدت أو أصيبت وأعيقت عن الحركة، أو اعتقلت في سجون الاحتلال، أو هي ابنة أب أو أم، أو شقيق أو شقيقة قابلت ذات المصير. هي الزوجة التي ترمّلت، أو سجن زوجها، وحملت مسؤولية تربية أطفالهما، وهي الأمّ التي تحسرت على ابنها الشهيد، أو الأسير في سجون العدو، وماتت وهي تنتظر عودته من أسره دون أن تطفئ نار ابتعادها قسرا عنه.

س ماذا يقول “الشهيد الجميل”؟

ج يحمل مفهوم الشهادة في موروثنا الثقافي صفات التضحية والفداء والإقدام والبطولة والإيثار، لذا فإنّ روح الشهيد تتحول إلى حارس على الهدف، والحلم والآمال التي أستشهد لأجل تحقيقها. وعندما يستدعي الشاعرُ روحَ الشهيدِ فإنه يستدعيها لأمر جلل. شهداء الوطن، سواءً أكانوا شهداء حركة تحرر من الاحتلال الخارجي، أو شهداء ثورة داخلية ضد الظلم الاجتماعي والسياسي والاقتصادي، يبقون أحياء في ذاكرة شعوبهم، ويُنظَرَ إليهم بقدر ما من القداسة، لذا نجدهم حاضرين كأفراد، وكجماعات في النّص الشعري بشكل خاص، والأدبي، والعمل الفني على تنوّع أشكاله وألوانه بشكل عام. كشاعر، أنا مجّدت الشهيد، وقمت في العديد من نصوصي الشعرية باستدعائه للحضور، والمشاركة في كتابة النّص، كما حدث في قصيدتي “سلامي الأخير” التي نشرت ضمن مجموعتي الشعرية السادسة “في غيابة ليل”. فالشهيد الذي عاد “بكى دمعتين وغاب”. وقبل أن يغيب قال: “تمنيت إلا يباغتني الموتُ إلا على وجع الرّمل أقصى جنوب البلادِ لتُرسَمَ صورتُها في دمي لوحة في الإياب”، “دعوني أعيد النشيدَ كما كانَ لحنا جميلاً وأنفض عنه التراب”، “سأسقي الحمامات لحناً جميلاً لتعزفه في اغتراب”، “لماذا تسدون دوني الطريق إلى القدس، فلتتركوا رايةً، حجراً في يدي”. ألا يعبر ما كتبه الشهيد في هذه القصيدة عن أزمة حادة حدثت بعد صعوده للسماء؟ في نهاية القصيدة تلك صرخة مشتركة تداخل فيها صوت الشاعر وصوت الشهيد: “كيف سنمسحُ هذا الخراب؟”

س “كيف سنمسح هذا الخراب؟” بانتمائنا للمكان، بملامسة الحياة، سنجثوا على أثر ابتسامة ركبها المجهول في رحلة تفتيشها عن عنوان اطمئنان، باحتضاننا السماء، و تقبيلنا الأرض، سنواصل نحو ذاك الحلم، بتأبّطنا الحرية بنزفها المتهاطل، و الماسح لكل حزن، لن نبحث عن الصرخة الضائعة في غياهب الظلم، سيقطف وجداننا تربة الرحيل و سيحمل كل المسافات، عندها ستصغر أيها الألم، فما عاد العمر يثمله صهيلك، و ستبقى أيها الوجع تنتحب على أنقاض الأنين، فيعود الياسمين لحقول الوطن و جناحاته محمّلة بالسلام، فهل مسحنا فعلا هذا الخراب؟

ج القصيدة التي استدللت فيها على الخراب في إجابتي على السؤال السابق، كانت تعبيراً عن واقع القضية الفلسطينية الراهن، وما نتج عن اتفاق أوسلو الموقع بين منظمة التحرير الفلسطينية ودولة الاحتلال عام 1993 من تبدلات سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية، وصراعات داخلية. لقد خلق اتفاق أوسلو حالة تراجع في الاهتمام الوطني الفلسطيني في القضية الكبرى لصالح الاهتمام بالقضايا الحياتية للناس، وجرى انحراف في البحث عن الحلول لقضايا المجتمع من ايدولوجيا وفلسفة البحث عن الحل الجماعي إلى التفكير عن الحل الفردي… في هذا الجانب سأتناول التحولات على المستوى الثقافي، ولن أصدر أحكاماً نقدية هنا على النّص الثقافي المنتج داخل الأرض الفلسطينية، نلاحظ أنّ هناك تراجعا في الاهتمام بالقضية الكبرى، وفي القضايا الجماعية لصالح القضية الذاتية، وهنا لا أتحدث عن التراجع الكبير والملموس في أصطلح على تسميته بأدب المقاومة. ولكي أقلّل من عدد السهام التي ستُوَجّه إلى صدري حول هذا التصريح، فإنّ فهمي القديم/الجديد لأدب المقاومة أنّ مفهوم هذا الأدب يشمل مناحي الحياة الفلسطينية كافّة، فأنا ضد أن أشتمّ رائحة إطارات “الكاوتشوك”، أو صوت أحجار الانتفاضة في القصيدة، فالمفهوم عندي أوسع. أن نكتب عن عاشقين على حاجز عسكري احتلالي، أو عن طالبة تمرّ بجانب دبابة وهي ذاهبة لمدرستها، أو طفل يصادر جندي دمية على شكل مسدس منه، عن زهرة برية نبتت بعد أن داسها جندي بحذائه، هذا كله أدب مقاومة. النّص الراهن في مجمله هو نص ذاتي لا يعكس حتى البيئة المحلية بأقل تفاصيلها. ككتاب نعتقد أننا ما نزال نمسك بجمر القضية، نصرخ منذ سنوات بأنّ الثقافة الجمعية لشعبنا الفلسطيني هي آخر وأهمّ قلاعنا في مواجهة عدونا الذي سرق الأرض، الحجر والشجر، الماء والهواء، وها هو يحاول أن يسرق تاريخنا وثقافتنا، ويروّج بأنّ تراثنا الشعبي من أكلات ومطرزات هي تراث “إسرائيلي” في ظلّ هذا الواقع، نجد أنّ هناك من كتابنا مًن يحاول مدّ جسور مع كتاب عدونا تحت مسمّيات مختلفة، وعلى الصعيد الرسمي نجدّ أن ميزانية الأمن في السلطة الوطنية الفلسطينية تبلغ 28 بالمائة من ميزانية السلطة، بينما ميزانية التعليم والصحة معا لا تصلان إلى تلك النسبة، والمضحك المبكي أن ميزانية وزارة الثقافة لا تتعدى الواحد بالألف… هذا الخراب أيّ فعل مما أوردتِه سيمحوه؟

س يمكن أن يكون زورقنا صغيرا، تركله العاصفة في بهجة العبث، محتمل ضياعنا في أزقة الغروب، و الروح تصارعها مشاعر كره و محبة، فتهمس الإرادة قدرة اليوم على النسيان، ربما ذاكرتنا ستحمل وشم الحروب، لكن سيعرّفها يوما ثغر السلام، أفلم يشفى ذاك الرسم من الكسر؟

ج لقد تمرسنا في صناعة الأمل، ولولاه لقضينا حزناً وكمداً، لكنّ صناعة الأمل هذه غير منفصلة عن قراءة الواقع. لقد مرّت بلادنا في ظروف أشدّ قتامة مما تمرّ بها اليوم، إلا أنّها كانت تنهض من كبواتها، وانكساراتها وهزائمها، وتبني ذاتها من جديد. الوطن العربي يعيش الآن في فوضى عارمة، يعيش مخاضات صعبة، وإن أعيد إنتاج بعض فصول تاريخنا القديم من انقسامات دينية ومذهبية وطائفية لتحقيق مكاسب سياسية من قبل صانعيها، سواءً أكانوا من اللاعبين المحليين أو الإقليميين أو الدوليين، إلا أنّ أمتنا كانت تتجاوزها، وتنهض من جديد. أدعي أنّ ما يجمعنا في النهاية أكثر مما يفرقنا، كما أننا مسلحون بحضارة ساهمت في نهضة الأمم، إلا أنّه علينا أن لا نركن إلى ما أنجزه ذلك التاريخ، لأنّ قسطا كبيراً من أزماتنا سبّبته حالة الجمود التي ركنا إليها. النهضة المرتَقَبَة يجب أن تشارك فيها جميع مكونات مجتمعاتنا الفكرية، ولكن على قاعدة إشغال العقل، وبناء الدولة المدنية المعاصرة، والقادرة على مواجهة تحديات المستقبل.

س “لقد تمرسنا في صناعة الأمل، و لولاه لقضينا حزنا و كمدا”، كان قد أخذنا لنفس السياق الكاتب الروسي “دوستويفسكي” منذ أكثر من مائة عام ليؤكد أنه ” أن تعيش بدون أمل هو أن تتوقف الحياة”، لماذا هذا الإجماع على قدرة الأمل في مجابهة واقع لطالما تساءلنا عن جنسيته ضمن حدود أحلامنا؟

ج يبدو أنّه علينا أن نخلقَ معادلاً موضوعياً لأزماتنا، الأمل يشكّل هذا المعادل الموضوعي. هذا من جانب، من جانب آخر فإنّ الأمل يحمل في طياته بذور الأمل التي ستنبت يوماً ما في حقول الألم، وشيئا فشيئاً ستتمدد تلك النباتات وهي تطرد أمامها الأشواك حتى تنظّف الأرض منها، وتحولها من أرض يباب إلى أرض غنية الأزهار والفرح. لو عدنا إلى زمن الكاتب الروسي الخالد دوستويفسكي:”أن تعيش بدون أمل هو أن تتوقف الحياة”، سنرى أنّه أطلق مقولته تلك بينما كانت بلاده تعيش أصعب ظروفها، وبعد ذلك بسنوات شهدت روسيا “الثورة البلشفية” عام 1917، تلك الثورة التي غيّرت وجه روسيا والعالم لعدة عقود.

س عندما “ترسمنا لوحة فوق جذع انتظار طويل”، كيف تكون ملامح هذه اللوحة؟

ج نحن نقضي أوقاتٍ طويلةً من أعمارنا بالانتظار.. في الليل الطويل ننتظر بزوغ الفجر. في الأزمات الحادة ننتظر بصيص أمل بالفرج. على محطات القطار، ومواقف السيارات، والمطارات ننتظر عزيزاً يعود.. على الرصيف ننتظر صديقاً يأتي. في المقهى ننتظر حبيبة أو حبيباً. في الظهيرة ننتظر أبناءنا يعودون من مدارسهم. وإن كنت كتبت نصا بعنوان: “التمس للوقت عذرا” وهو نصّ أمل للمنتظرين أقول فيه:

“التَمِسْ للوقتِ عذراً

وانتظِر ما سوف يأتي في الطريق

شَرِّع الأبوابَ للأزهارِ تنمو في عيونِ اللوزِ

هَيئْ مقعداً للحُلمِ في قلبِ الحديقة…

أشعل الأضواءَ

لوّن فسحةً في الليلِ

كي تأوي الفراشاتُ التي ملّت

فضاءَ العتمةِ الخرساء

وانزاحت عن الأقمار

لا تُغْمِضْ شبابيكَ الأماني

أطْلِق الأبصارَ في صبرٍ جميلٍ

وانتظر ظلاً تراءى للعيون

قد تكون…”

رغم الأمل الصاعد من هذا النّص، إلا أننا إذا جمعنا سنوات الانتظار، وأمكنتها، وأسبابها، ومبرراتها، والمنتظَرينَ والمنتظِرين، سنحتاج إلى مجلدات لتدوينها. ولو شئنا رسم لوحة على جذع الانتظار فإن هذه اللوحة ستكون مليئة بالمشاعر المتناقضة، كونها تعكس تلك الحالات في إناء واحد، أو في لوحة واحدة وفق ما جاء في السؤال.

س أمل الفلسطيني “سميح محسن” بين التمني و الانتظار، بماذا تميّزت مسيرته؟

ج كإنسان فلسطيني، كنت طفلاً في الحادية عشرة من عمري عندما سقط ما تبقى من فلسطين، وها أنذا اليوم في الستين من عمري، بمعنى أنني عشت نحو خمسين عاماً تحت الاحتلال، هذا على فرضية أنني لم أغادر فلسطين لمدة خمسة عشر عاماً للعمل خارجها. التمني كان زوال الاحتلال، والانتظار كان تحقيق هذا الزوال، والسؤال يتعلق بما بينهما، التمني والانتظار. تفتحت عيناي، قبل هزيمة حزيران (يونيو)  1967على الآمال الكبرى، وعشت في طفولتي في زمن الكبار من القادة والزعماء والأدباء والسياسيين والمفكرين والفنانين الذين قادوا شعوبهم لتحقيق تلك الآمال. ولكنّ بعد الهزيمة، وحالة الانكسار العامة التي عشناها كعرب، وليس كعرب فلسطينيين وحدنا، وإن تخللنها أمل بالنهوض، تميزت بسلسلة من الانكسارات، تستمر مفاعيلها حتى يومنا هذا. وحتى على المستوى الدولي، فقد حدثت زلازل سياسية مدمرة، تركت آثارها على حياتنا ومنطقتنا بشكل كامل. أنا ابن تلك المرحلة بما لها، وبما عليها، وإن لا أدعي بأنني كنت أحد الفاعلين فيها، حتى على المستوى الثقافي، إلا أنني أدعي بامتلاكي قدرة ما على التفاعل مع أحداثها. وكشاعر أنجزت حتى الآن عشر مجموعات شعرية (منها مخطوطتان جاهزتان للطباعة) ، ومن خلال قراءتها سيكتشف القارئ بأنني كنت متفاعلا بشكل إيجابي معها، بمعنى التعبير عنها، وأما الأحكام النقدية على تلك الأعمال فهي متروكة للنقاد. السؤال: هل هناك حالة من الرضا عما أنجزته، فالإجابة، ليس من باب التواضع، بالنفي.

س النقد عبر مسيرة الشاعر “سميح محسن”، كيف يقيّمه الإنسان “سميح محسن”؟

ج هذا السؤال يفتح جراحاً عميقة يا سيدتي، سميح محسن الشاعر لم يحظِ بحقّه لا بالنشر، ولا بالنقد. بالنسبة للنشر، لم يصدر لي حتى يومنا هذا أي ديوان شعري عن أي مؤسسة ثقافية رسمية فلسطينية رغم وجودها، كما لم يلتفت نقادنا لما أصدرته، إلا بالقدر القليل… ولأنّ الأمر يتعلق بي سأكتفي بهذا القدر من الإجابة على سؤالك رغم أهميته البالغة.

س “هنالك أشياء عزيزة و نفيسة نؤثر أن نبقيها كامنة في زاوية من أرواحنا”، هذا ما تعتقد فيه الشاعرة الفلسطينية “فدوى طوقان”، إلى كم من إحساس تعتقد أنها غرفت من الأعماق؟ و هل ترى رؤيتها ترافق قناعاتك؟

ج عندما تدق القصيدة أبوابنا، علينا أن لا نتركها تمضي دون أن نقبض على إشاراتها، ونبدأ بكتابتها، ولكن بالفعل هناك ما لا نحبّ أن نعلنه لأسبابنا الخاصة، وهنا وصفت كبيرتنا وأستاذتنا فدى طوقان أسبابها، وقد تكون محقة في ذلك… لا أدري إن كانت شاعرتنا فدوى طوقان قد عاشت صباها وشبابها في يومنا هذا ستحمل هذا الرأي؟! لست أدري، ولكن عندما نقرأ ما يطمئن كتاب لوصفه بالأدب النسوي نجد جرأة أعلى مما يكتبه الذكور فيما كان من المحرمات على الكتابة سابقا… السؤال هنا الذي يطرحه المتلقي على الكاتب دائما، هل تكتبون عن تجاربكم الشخصية، وخاصة في الكتابات التي تحمل جرعات زائدة من الجرأة في الطرح؟ وإذ كنت أتحدث عن الشّعر أقول: قالت العربُ: “عذبُ الشِّعرِ أكذبُه”، وأقول: “أعذب الشِّعر أصدقُه”، وهذا ينطبق على الفنون كافة… عندما يواجهنا أحدٌ بالسؤال عن وجود تجاربنا الشخصية فيما نكتب، نحاول المراوغة في الإجابة، للتهرّب من بعض كتاباتنا، وكأننا لا نريد الإفصاح عن ما هو ذاتي وشخصي فيها، لأننا نعتقد أنّ هناكَ ما قد يمسُّ حياتنا الخاصة، ولا نريد أن نفضحَه.لا تخلو كتاباتنا من تجاربنا الشخصية، ومن تجارب أخرى نشاهدها، أو نسمعها من آخرين، وهنا يأتي دور الخيال، والخبرة، والثقافة، وعمق التجربة الإبداعية لتحويل تلك التجارب إلى مادة فنية… وفي المقابل لا أنكر أننا نخفي في زاويا ما من عوالمنا الداخلية ما لا نرغب بالإفصاح عنه لأسبابنا أيضا.

س ما الدور الذي تفرّد به “العقاب” في رحلة “سميح محسن” طفلا، شابا و كهلا؟

ج يأخذ العقاب أشكالاً شتى، فهناك العقاب الجسدي، والعقاب النفسي، الحرمان، سلب الحرية، جلد الذات، تعمّد التجاهل، وتترك تلك الأشكال كافة ندوباً، إما على جسد الإنسان، أو في داخله، وبعضها يلازمه طوال حياته. في الطفولة كان العقاب الجسدي أحد أشكال الحساب الذي نتعرض له في البيت أو المدرسة، حيث كان المعلم لا يدخل إلى غرفة التدريس إلا وهو يحمل العصا بيده، ويلوّح بها. عندما أقرأ، أو اسمع اليوم، نصّا لكتّاب يعتبرون أنفسهم كتّابا مكرَّسين، أترحم على من علمونا في الصّغر، وذلك بسبب حجم الأخطاء الإملائية التي أقرأها، واللغوية التي أسمعها. عندما كنا نحضر إلى المدرسة، ولم نكن حفظنا نشيداً، أو آية قرآنية، أو حديثاً نبوياً، كان معلمونا يعاقبوننا بالطلب منا نسخ النّص عدة مرات في البيت، ومن هذا العقاب تعلّمنا الخطّ والإملاء على أقل تقدير. هذا القول لا يعني أنني أقبل بأيّ شكل من أشكال العقاب خارج إطار القانون اليوم، أو أنني أؤيد أيَّ شكل من أشكال التعذيب أو التعنيف، أجسديا كان أم لفظيا ونفسياً. في مرحلة الشباب انخرطنا في صفوف العمل الوطني، وإن عشت تلك المرحلة خارج فلسطين، ولم أتعرض لأشكال العقاب الذي تعرض لها أبناء جيلي، كالسجن مثلاً، إلا أنني حُرِمت من حرية السفر من قبل قوات الاحتلال عندما كنت أحضر للبلاد في زياراتي المتباعدة، ولم يرفع هذا المنع إلا بدايات العقد الأخير من القرن الماضي. كفلسطيني، كنت أتعرض لهذا العقاب خارج البلاد، فعلى العكس من الموقف الشعبي العربي الصادق المنتمي للقضية الفلسطينية، والموقف الرسمي المعلَن المؤيد للقضية الفلسطينية، إلا أن “فلسطينيتك” كانت تهمة لك في العديد من البلدان العربية، ولكِ أن تتخيلي حالة القهر والمعاناة التي تعيشينها وأنتِ تشعرين بأنّ عيني المخبر ترصد حركاتكِ وسكناتك. في مرحلة الكهولة قد يضاف شكل آخر من تلك الأشكال العقابية، وهي محاسبة الذات على ما فعلت، وعلى ما لم تفعل. أضيف إلى حالة جلد الذات حالة الإحساس بالقهر من التجاهل الذي يتعرض له الكتاب والمثقفون الذين يغردون خارج سرب السلطات الحاكمة، أو يرفضون أن يكونوا في إطار معين من الشللية. ورغم كل هذا الألم، إلا أنني أشعر بالدفء الذي يمنحني إيّاه المئات من الأصدقاء والصديقات، من داخل وطني ومن خارجه، والتقدير الذي يعبرون عنه عندما يمرون على نصّ كتبته. أضيف بأنّ كل تلك الحالات تركت آثارها في نصي الشعري بشكل جليّ.

س عندما يركب القارئ حرف الشاعر “سميح محسن”، هل تثق فيه كموجّه جيّد له؟ و هل تهتم بالمحطات التي يقف بها؟

ج لم، ولن ألبس عباءة، ولا جبّة الواعظ في يوم من الأيام، وهذا ليس دوري كشاعر، كما أنني أرفض أن يُمارَسَ هذا الدور عليّ. صحيح أنني أعتبر نفسي من الشعراء المنغمسين في الهمّ الوطني، والقومي، والعالمي، وفق خرائط الجغرافيا، إلا أنني أكتب نصّا شعرياً خاضعا لشروطه الفنية، وأترك دائما لكل قارئ فهمه كيفما يشاء، وبالعادة لا أفسّر نصي، لأنني أحترم القارئ، وأحترم عقله، ورأيه. في المقابل أصف نفسي بأنني مستمع جيد لمن يبدي ملاحظة ما على ما أكتب، ولكنّ ذلك لا يعني أن ألتزم بما أسمع. نقول بأنّ أول ناقد للنّص هو كاتبه، بمعنى أنّ الكاتب المتمرّس يعيد قراءة نصه قبل أن يدفعه للنشر، يحذف، يُعدّل، يضيف، حتى يركن إلى أنّ نصه اكتمل، وهذه العملية بحد ذاتها عملية نقدية صارمة، وبعد نشره لم يعد ملكاً له.

س في عالم الكتابة، إذا ما تطرّقنا لرأي الروائية الأمريكية “بيرل باك” بأن “سرّ الاستمتاع بالعمل يتلخّص في كلمة واحدة، الإجادة”، أين نجد الشاعر “سميح محسن” بين الاستمتاع و الإجادة؟

ج من الصعب عليّ أن أصدر أحكاماً على ما أكتب، وبالتالي تصبح الإجابة على هذا السؤال خالية من الحيادية. بالنسبة لي أنا لا أتعامل مع الكتابة كشكل من أشكال الترف والتسلية، وإنما أتعامل معها بمنتهى الجدية، احتراما للكلمة، واحتراما للقارئ الكريم. وفي المقابل لا بدّ وأن يرصد الكاتب ردود الأفعال على كتاباته علّ ذلك يساعده في ضبط اتجاه بوصلته. صحيح أنّ من حقِّ القارئ أن يحقق قدراً من الاستمتاع أثناء قراءته، ولكنني لا أصرف جهداً في هذه المسألة، بل أصرف هذا الجهد في تطوير أدواتي الفنية، لتوصيل الرسالة التي أسعى إلى توصيلها للقارئ، مع التأكيد على ضرورة توفر الشروط الفنية بأعلى درجاتها الممكنة في النص. في هذا الصدد، أستذكر رأيا كتبه الناقد الفلسطيني الكبير وليد أبو بكر في تعليقه على مجموعتي الشعرية “في غيابة ليل” مفاده أن سميح محسن شاعر يتعب على نصّه..

أشكرك الشاعر “سميح محسن” على حسن لفظك و رقي تواصلك، و إلى لقاء آخر إن شاء الله

الشكر لك أستاذة آمنة وناس على الجهد الكبير الذي بذلتيه لإنجاز هذا الحوار، مع خالص أمنياتي لك بالتوفيق.

صحيفة - حديث العالم