نعم.. هناك ما يستحق الحياة

2016-05-24

نعم.. هناك ما يستحق الحياة

نائلة عطية

تتقزم كل الشوائب أمام لحظة يتلاحم فيها تراب الجليل والمثلث برمال النقب..

كرامتك لا تسمح لعينك الثاقبة التي تميز في خضم هذا الحدث الكبير الحديث عن اخفاق هنا او هناك.. يكفي ان تنظر الى المشهد، حتى وان تحررت من كل المشاعر، ان تنحني احتراما وتقديرا.. لجمعية الدفاع عن حقوق المهجرين التي تتمسك منذ 19 عاما بهذا التقليد السنوي لمسيرة العودة التي تقول لمن صنعوا النكبة وقالوا "ان الكبار سيموتون والصغار سينسون"، ان هذا الشعب الفلسطيني الباقي على أرضه لا ولن ينسى، وانه في كل عام يكبر الصغار ويستبدلون من ارتحلوا، في رفع راية العودة، ويأتي معهم الصغار لاستكمال دورة التحدي والاستعداد لنقل الراية من جيل الى جيل..

حين تنظر الى والدين يجران عربة اطفال يجلس فيها رضيع او ابن سنة، وقد حمل بين انامله علم فلسطين، وقد تكرر كثيرا هذا المشهد، لا يمكنك إلا أن تنظر الى تكامل الصورة، وما اجملها حين تكون على أرض كانت في الأمس القريب بعيدة، فأثبتت في هذا المشهد، وما سبقه من مشاهد التلاحم الوطني، والدفاع عن الأرض والخيمة وكوخ الصفيح، انها هذا الجزء الحي النابض الذي لم ولن ينسى صغاره كما لم ينس من تبقى من كباره، ان الخارطة لا تتجزأ، وان التراب، وان فرقت بينه الفواصل، يبقى متلاحما عبر هذا الشريان النابض/الهادر.. تحميه الراية الواحدة، والشعار الواحد، والقلب الواحد.. والانسان.. وكلمة تتماسك حروفها المتوهجة، ولا يشطبها لا هوس تلك التي قالت "لا يوجد شعب اسمه الشعب الفلسطيني"، ولا حماقة الذي قال "أرض بلا شعب لشعب بلا أرض"، ولا خرف عجوز اعتقد انه يمكنه تزييف التاريخ وان عظامه في قبر هناك في قلب الصحراء ستقلب هذه القطعة المقدسة من الجسد المتكامل الى عضو غريب يحمل اسما يختلف...

في مسيرة العودة التاسعة عشرة الى أراضي خربة وادي سُبالة، او كما يسميها أهل النقب "وادي زُبالة"، غاب يوم امس ذلك التحريف للاسم الذي اطلقوه على المنطقة "شوفال" وحضرت سُبالة/زُبالة، بكل عنفوانها... تقرأ مع الوافدين قسم العودة: "أقسم بالله العلي العظيم، أن أتمسك بتراب الوطن وأرض آبائي وأجدادي، وبحق العودة المقدس الى دياري الأصلية، وأن أرفض بالسر والعلن كل البدائل، كانت تبديلاً أو تعويضاً، أو توطينًا، والله على ما أقول شهيد"... وحين هدر اللحن اهتزت الأرض تحت أقدام الوافدين الذين قبضت أياديهم على موقع القلب في الصدر

الأيسر، ورددت حناجرهم المدوية كلمات شاعر فلسطين الكبير ابراهيم طوقان:

"موطني.. موطني، الجلال والجمال والسناء والبهاء في رباك.. والحياة والنجاة والهناء والرجاء في هواك"... ولا حاجة الى اكمال النشيد.. فكل من كان هناك، ومن تأخر، او فاته القطار الزاحف الى النقب، يعرف الكلمات، ويعرف اننا في سُبالة رأينا الوطن امس، سالماً، منعماُ، وغانما مكرماً، في علاه يبلغ السماك، والشباب.. لن يكل.. همه أن يستقل، ويستقي من الردى.. ولن يكون عبدا للعدا.. ولن يرضى بالذل والعش المُنكَّدا، وسيعيد مجده التليد...

قبل لحظة من هذا المشهد المشرف، والراية التي ترفرف.. اعتقد طير جارح أنه يمكنه تخريب المشهد... فما هي إلا لحظات حتى اجتمعت عليه العصافير كلها.. عصافير الجليل والمثلث والنقب... واجبرته على الهرب من هناك.. ولكن من دون جناحيه ومنقاره...

وسمعت في قرارة قلبي لحن يعزف نشيد توفيق زياد

"كأننا عشرون مستحيل"...

وفي مشهد آخر، عاد مع العائدين محمود درويش وسميح القاسم.. والعاشقين... حتى تلك الموسيقى الدخيلة على المجتمع الفلسطيني، تم تجييرها لرسم المشهد الذي غيّب في ثانية واحدة كل الشوائب.. وداسها تحت أقدام عملاق زينته أعلام فلسطين...
وكان هناك المشهد.. الذي اعتقدنا في البداية أنه زائد ومضيعة للوقت.. فاذ به يجسد عمق هذه الرسالة.. عشرات الشخصيات دعيت للوقوف امام المنصة في صف واحد.. من بعيد لم نفهم.. لم نعرف.. وربما لم نسمع بفعل الصدى... 

وقف هذا الصف.. يجسد في صورته تتابع الأجيال.. ورسم على الأرض ذلك الخط الترابي المختلف في لونه.. المتلاحم في نبضه.. سكب كل واحد منهم حفنة تراب حملها المنظمون من الجليل والمثلث، لتتلاحم مع رمل النقب... فما اعظمها من رسالة انتزعت كل الأفكار إلا فكرة البقاء والتجذر.. ومواصلة المسيرة..

شكراً لــ... أتعرفون ماذا؟ تعالوا ننسى الأسماء.. فلا ننسى أحد ويشعر بحساسية او مرارة.. شكرا لكم جميعا.. ايها الرجال وايتها النساء.. من جيل لا زال يرضع حليب أمه، الى جيل ارتسمت على صفحات وجهه أخاديد الوطن.. شكرا لكم.. مرة أخرى.. أعدتم لي شخصيا، ومن المؤكد لآلاف الوافدين، معنى الحياة على أرض يوجد عليها بالتأكيد ما يستحق الحياة...-

كتب وأبدع كعادته الصديق العتيق ابن شفاعمر الباق الباحث وليد ياسين-