تحول النقد إلى رأس مال (الحلقة الثالثة.. والأخيرة)
د. خليل إندراوس 

2016-02-15

تحول النقد إلى رأس مال  3

(الحلقة الثالثة.. والأخيرة)

د. خليل إندراوس 

لا يستطيع مالك النقد ان يحول نقده إلى رأسمال إلا إذا وجد في سوق البضائع عاملا حرًا، حرًا بمعنيين: بمعنى ان العامل فرد حر يتصرف بقوة عمله كبضاعة، ومن جهة أخرى بمعنى انه لا يملك للبيع أية بضاعة أخرى، أي انه لا يملك غير ريشه ومتحرر من جميع المواد الضرورية لتحقيق قوة عمله

وإذا كانت قيمة البضائع في التداول البسيط تحصل في أحسن الحالات مقابل قيمتها الاستعمالية على شكل مستقل يتمثل في النقد، فإنها تظهر هنا فجأة كماهية تنمو تلقائيا ولا تكون البضائع والنقود سوى شكلين لها. والأكثر من ذلك، فبدلا من ان تعبِّر من خلالها عن العلاقة بين البضائع تظهر القيمة الآن في علاقة خاصة تجاه نفسها، إذا جاز القول. وهي تميز نفسها كقيمة أولية عن نفسها كقيمة زائدة على غرار ما يتميز الرب الأب عن نفسه بوصفه الرب الابن ولو انهما من سن واحدة وهما شخص واحد في حقيقة الأمر. ذلك لأنه فقط بفضل القيمة الزائدة بمبلغ 10 جنيهات إسترلينية تغدو الـ 100 جنيه إسترليني الموظفة رأسمالا، وما ان تصبح رأسمالا، وما ان يولد الابن، ومن خلال الابن الأب أيضًا، حتى يزول على الفور الفرق بينهما من جديد ويصبحان كلاهما شيئًا واحدًا: 110 جنيهات إسترلينية.

وهكذا تصبح القيمة قيمة متحركة تلقائيًا، نقدًا متحركًا تلقائيًا، وبصفتها هذه تصبح رأسمالا. فهي تخرج من مجال التداول، وتدخله من جديد، وتحافظ على نفسها وتضاعف نفسها فيه، وترجع إلى الوراء بزيادة وتبدأ من جديد وجديد نفس الدورة. (الرأسمال... هو قيمة تضاعف نفسها بلا انقطاع – Sismondi: “Nouveaux Principes d’ Economie Politugue”, p. 89)، ن – ن’، النقد الذي يلد النقد – Money which begets money – ذلك هو الوصف الذي أطلقه على الرأسمال مفسروه الأوائل، أي المركنتليون.

وهكذا، فان ن – ب - ن’ هي فعلا الصيغة العامة لرأس المال كما يتجلى مباشرة في مجال التداول.
ولكن مالك النقد لن يفلح في استدرار القيمة من استهلاك البضاعة إلا إذا أسعده الحظ فاكتشف في حدود مجال التداول، أي في السوق، بضاعة تتمتع قيمتها الاستعمالية ذاتها بخاصية أصلية لان تكون مصدرًا للقيمة. وان مالك النقد يجد في السوق مثل هذه البضاعة الخاصة، انها القدرة على العمل، أو قوة العمل، اننا نقصد بقوة العمل، أو القدرة على العمل مجموع القدرات الجسدية والروحية التي تملكها عضوية الإنسان، شخصيته الحية والتي يستخدمها في كل مرة ينتج فيها قيمًا استعمالية ما.

ولكن لا يمكن لقوة العمل ان تظهر في السوق كبضاعة إلا عندما وبقدر ما يحملها إلى السوق أو يبيعها صاحبها الخاص، أي ذلك الشخص الذي تعتبر قوة عمل له. ولكي يتمكن صاحبها من بيعها كبضاعة يجب ان يتمتع بإمكانية التصرف بها، وبالتالي يجب ان يكون مالكًا حرًا لقدرته على العمل، مالكًا لشخصيته. ويلتقي هو ومالك النقد في السوق ويدخلان فيما بينهما في علاقات كمالكي بضائع يتمتعان بحقوق متساوية ولا يختلفان إلا بشيء واحد هو ان احدهما شارٍ والآخر بائع، وبالتالي فهما شخصان متساويان حقوقيًا.

ويتطلب الأمر من اجل الحفاظ على هذه العلاقة ان يقوم مالك قوة العمل ببيعها على الدوام لوقت معين فقط، لأنه إذا باعها بصورة كاملة مرة والى الأبد لكان باع نفسه أيضًا وتحول من إنسان حر إلى عبد، من مالك بضاعة إلى بضاعة.

وباعتباره شخصية ينبغي عليه الاحتفاظ دومًا بعلاقة تجاه قوة عمله بوصفها ملكًا له، وبالتالي بوصفها بضاعته الخاصة، ولكن هذا غير ممكن إلا بقدر ما يسمح دومًا للشاري باستخدام قوة عمله أو باستهلاكها بصورة مؤقتة فقط، لأجل محدد فقط، إذًا بقدر ما، يتنازل عن حقه في ملكية قوة العمل عندما يغترب عنها.

والشرط الثاني الضروري لكي يستطيع مالك النقد ان يجد في السوق قوة العمل كبضاعة يكمن في انه ينبغي ان يكون صاحب قوة العمل محرومًا من إمكانية بيع البضائع التي يتجسد فيها عمله، وعلى العكس، ينبغي ان يكون مضطرًا لبيع قوة العمل ذاتها كبضاعة والتي لا وجود لها إلا في عضويته الحية.

ولكي يتمكن احدهم من بيع بضائع تتميز عن قوة عمله، يجب عليه، بالطبع، ان يملك وسائل للإنتاج، مثلا الخامات وأدوات العمل الخ. فلا يمكن صنع الحذاء بدون جلد. وبالإضافة إلى ذلك لا بد للعامل من وسائل المعيشة وليس بوسع احد، حتى ولا الحالم الذي يؤلف "موسيقى المستقبل"، ان يعيش بمنتجات المستقبل، لا يستطيع ان يعيش على حساب القيم الاستعمالية التي لم ينجز إنتاجها بعد، فمنذ اليوم الأول لظهور الإنسان على الكرة الأرضية كان عليه ان يستهلك يوميًا وان يستهلك قبل ان يبتدئ بالإنتاج وفي الوقت الذي ينتج فيه. وإذا كانت المنتجات تنتج كبضائع فيجب ان تباع بعد ان ينتهي إنتاجها، وفقط بعد بيعها يمكنها ان تلبي حاجات المنتج.

وينضم إلى الوقت الضروري للإنتاج الوقت الضروري للبيع.

وهكذا، لا يستطيع مالك النقد ان يحول نقده إلى رأسمال إلا في حالة إذا ما وجد في سوق البضائع عاملا حرًا، حرًا بمعنيين: بمعنى ان العامل فرد حر يتصرف بقوة عمله كبضاعة، ومن جهة أخرى بمعنى انه لا يملك للبيع أية بضاعة أخرى، أي انه لا يملك غير ريشه ومتحرر من جميع المواد الضرورية لتحقيق قوة عمله.

وإذا تقدمنا في بحثنا وطرحنا على أنفسنا السؤال التالي: في ظل أية ظروف تتخذ كافة المنتجات، أو غالبيتها على اقل تقدير وشكل البضاعة، لوجدنا ان ذلك لا يجري إلا على اساس اسلوب انتاج مميز تمامًا، ألا وهو الأسلوب الرأسمالي للإنتاج.

فلكي يتحول الناتج إلى بضاعة يجب ان يتطور تقسيم العمل داخل المجتمع إلى درجة بحيث إن التمايز بين القيمة الاستعمالية والقيمة التبادلية، هذا التمايز الذي يبتدئ في ظل التجارة التبادلية المباشرة، يكون قد اكتمل. وبالنسبة للرأسمال فالشروط التاريخية لوجوده لا تقتصر البتة على وجود التداول البضاعي والنقدي.

إن الرأسمال لا ينشأ إلا هناك حيث يجد مالك وسائل الإنتاج ووسائل المعيشة في السوق عاملا حرًا بمثابة بائع لقوة عمله. ولذلك فان الرأسمال يؤذن منذ لحظة نشوئه بحلول عهد خاص في عملية الإنتاج الاجتماعية. (يشكل خاصية مميزة للعهد الرأسمالي واقع ان قوة العمل تتخذ بالنسبة للعامل نفسه شكل البضاعة الخاصة به، ولذا يتخذ عمله شكل العمل المأجور. ومن جهة أخرى فابتداءً من هذه اللحظة فقط يكتسب الشكل البضاعي لمنتجات العمل طابعًا عاماَ).

إن القدرة على العمل لا تعني العمل بعد، وإذا تعذر بيع القدرة على العمل لن تعود على العامل بأي نفع "فالقدرة على العمل.. هي لا شيء إذ لا يمكن بيعها".

 (Rossi. “Cours d’Economie Politique”, Bruxelles, 1843, p. 370-371.)
وهذه البضاعة الخاصة أي قوة العمل تتجلى قيمتها الاستعمالية فقط في مظاهر تجليها الفعالة اللاحقة. وعلى ذلك فان التخلي عن القوة وتجليها الفعلي، أي الوجود الفعلي بمثابة قيمة استعمالية، ينفصلان عن بعضهما البعض من حيث الزمن.

فسعر قوة العمل يتم تحديده عند إبرام العقد، إلا انه لا يتحقق، مثل أجرة السكن إلا فيما بعد. فقوة العمل قد بيعت، إلا ان أجرتها لن يحصل عليها إلا بصورة متأخرة. وعملية استهلاك قوة العمل هي في الوقت ذاته عملية إنتاج البضاعة والقيمة الزائدة.

وهكذا فمالك النقد يسير في المقدمة كرأسمالي، وصاحب قوة العمل يتبع أثره كعامل له، احدهما يبتسم ابتسامة ذات مغزى وتشتعل به الرغبة للشروع بالعمل، والآخر (أي العامل) يسير في اكتئاب ويحزن كشخص باع في السوق جلده الخاص ولذا لا يرى أمامه أي أفق سوى أمر واحد: ان هذا الجلد سيكون عرضة للدبغ.

•  بتصرف عن كتاب كارل ماركس، رأس المال – المجلد الأول، الجزء الأول. صفحة 212-255.

انتهى